دواهي عظمى ومصائب كبرى ، يعلم ذلك جميع العقلاء ، ولا يخفى إلا على الجهلة الأغبياء ، فمن فوائدهم أنهم يخرجون هؤلاء الصبيان الذين يتعلمون في مدارسهم من دين الإسلام إخراجا حقيقيا بقلوبهم وإن بقوا في الظاهر مسلمين ويستجلبون محبتهم لهم محبة متزجة بلحمهم ودمهم وينشأون عليها ويعيشون عليها ، وذلك بتعلمهم لغاتهم وعوائدهم وكتبهم وأحوال مشاهيرهم ، وتراجمهم ، يرويها لهم المعلمون بأجمل الروايات ، في ضمن ذلك يذمون لهم عقائد الإسلام ومشاهير المسلمين وأئمة الدين حتى ربما يتجاوزون إلى سيد المرسلين وحبيب رب العالمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وتتكرر هذه الأمور على سمع الصبي المسلم في عدة سنين فلا يخرج من المدرسة إلا وقد تجرد بالكلية من دينه وحميته الإسلامية وصارت تلك الدولة الممددة للمدرسة التي تعلم فيها ، أحب إليه من دولته ، وجنسيتها أحب إليه من جنسيته ، معتقدا فيها وفي رجالها الكمال ، وهو لم يتعلم شيئا من دين الإسلام وسيرة نبيه شيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ، ومناقب أصحاب الهداة المهديين ، وفضائل أئمة دينه المبين ، وأحوال خلفائه الراشدين ، ومن بعدهم من السلاطين ، والأمراء العادلين ، بل روى له عنهم شياطين أولئك المعلمين عكس أوصافهم الجميلة ، ومناقبهم الجليلة ، فاعتقد فيهم خلاف الكمال الذي اعتقده ، وعلى خلاف الحقيقة في أعداء دينه ودولته ، وهؤلاء التلاميذ يكبرون ويعيشون في الظاهر من جملة المسلمين وفي الحقيقة هم أعداء لله والدين ، وقد أشربت قلوبهم الزندقة والضلال المبين ، وترى الواحد منهم لا يجد خلوة مع من يشاكله في ضلاله وسوء حاله ، إلا ويتذاكر معه الاعتراضات على دين الإسلام ، وعوائد المسلمين ، ويمدحون تلك الدولة صاحبة المدرسة التي كملوا فيها دروس الضلال ، وتجردوا من الدين والكمال ، ولا يزال يخرج من هؤلاء الزنادقة في كل سنة من هذه المدارس النصرانية عدد كثير فيجمع منهم في عدة سنين الجم الغفير ، جلهم أو كلهم على هذا الحال ، وقد جعلوا الحق ورائهم ظهريا ، وما بعد الحق إلا الضلال .
ومما يؤيد ما قلته من مقاصد الإفرنج في فتح هذه المدارس ما ذكره الفاضل محمد أفندي طلعت المصري في أواخر كتابه ( تربية المرأة ) ، نقلا عن مجلة سماها صاحبها ( مجلة العالمين ) ، لأحد مشاهير كتاب الإفرنج بين فيها ما يبذل قومه من المساعي والأموال ، في سبيل تقييم النصارى في الشرق ، وغرس محبة دولتهم في أفئدتهم ، ليكونوا لها مصانع وأحزابا ، ثم قال : ومع ذلك فهذه المساعي لم تنتج تمام الغاية المقصودة منها ، لتباين الطوائف النصرانية ، فمن الضروري إذا جمع شتات هذه الفرق حتى لا يعاكس بعضها بعضا ، ومتى صاروا فرقة واحدة ، تمكنوا من مقاومة المسلمين والإعتلاء عليهم .
وفي كلامه على المدارس النصرانية التي اتخذوها سبيلا إلى غاياتهم المنكرة سطر به القلم فأظهر ما تكنه صدور القوم من العداوة والبغضاء لدين الله تعالى ، قائلا : إن من الواجب على الأمم النصرانية أن تعاكس الإسلام في كل طريق ، وتحارب أهله بكل سلاح ثم رأى أن مقاومة الإسلام بالقوة لا تزيده انتشارا ، وإن الواسطة الفعالة لهدم أركان الإسلام وتقويض بنيانه على ما قال : هي تربية بنيه في المدارس النصرانية ، وإلقاء بذور الشك في قلوبهم من عهد النشأة فتفسد عقائدهم الإسلامية من حيث لا يشعرون ، وإن لم يتنبه منهم أحد فإنهم يصيرون لا مسلمين ولا نصارى مذبذبين بين ذلك .
ثم قال : وأمثال هؤلاء يكونون بلا ارتياب أضر على الإسلام وبلاده ، مما إذا اعتنقوا الديانة النصرانية وتظاهروا بها .
صفحه ۸