ثم عانقته الصبية وقبلت شفتيه، وقبلت عينيه راشفة المدامع السخينة وقالت بصوت ألطف من نغمة الناي: قد رأيتك، يا حبيبي، في أحلامي ونظرت وجهك في وحدتي وانقطاعي ، فأنت رفيق نفسي الذي فقدته، ونصفي الجميل الذي انفصلت عنه عندما حكم علي بالمجيء إلى هذا العالم، قد جئت سرا يا حبيبي لألتقيك، وها أنت الآن بين ذراعي فلا تجزع. قد تركت مجد والدي لأتبعك إلى أقاصي الأرض وأشرب معك كأس الحياة والموت.
قم، يا حبيبي، فنذهب إلى البرية البعيدة عن الإنسان.
ومشى الحبيبان بين الأشجار تخفيهما ستائر الليل، ولا يخفيهما بطش الأمير ولا أشباح الظلمة.
ابن سينا وقصيدته
ليس بين ما نظمه الأقدمون قصيدة أدنى إلى معتقدي وأقرب إلى ميولي النفسية من قصيدة ابن سينا في النفس.
في هذه القصيدة النبيلة قد وضع «الشيخ الرئيس» أبعد ما يراود فكرة الإنسان، وأعمق ما يلازم خياله من الأماني التي تولدها المعرفة، والسؤالات التي يثمرها الرجاء، والنظريات التي لا تصدر إلا عن التفكر المستمر والتأملات الطويلة.
وليس من الغرائب صدور هذه القصيدة عن وجدان ابن سينا وهو نابغة زمانه، ولكن، من الغرائب أن تكون مظهرا لرجل صرف عمره مستقصيا أسرار الأجسام ومزايا الهيولي، فكأني به قد بلغ خفايا الروح عن طريق المادة، وأدرك مكنونات المعقولات بواسطة المرئيات، فجاءت قصيدته هذه برهانا نيرا على أن العلم هو حياة العقل يتدرج بصاحبه من الاختبارات العملية إلى النظريات العقلية، إلى الشعور الروحي، إلى الله.
قد يجد المطالع في ما نظمه كبار شعراء الغربيين مقاطع متفرقة تذكره بهذه القصيدة السامية. ففي روايات شكسبير الخالدة أبيات لا تختلف بمعانيها عن قول ابن سينا:
وصلت على كره إليك وربما
كرهت فراقك وهي ذات تفجع
صفحه نامشخص