وقد أخذت الاعتبارات الفلسفية تشغل أفكاره في أوائل شبابه؛ فكان شغله الشاغل أيام صباه هو التفكير في (ما هو الإنسان؟) و(من أين أتى؟) و(إلى أين مصيره؟) و(ما هي السعادة؟) إلى غير ذلك من المسائل الفلسفية العويصة التي كانت ترد مخيلته تباعا؛ آخذة بعضها برقاب بعض، حتى نشأ عنده ميل خاص للمباحثات والمناظرات، فكان يقضي طوال الساعات والأيام في مجادلة أقرانه ومناقشتهم فيما يعرض له من الأفكار.
انتظامه في سلك الجندية
وبينما كان الفيلسوف الشاب على الحال التي وصفناها لك حائرا بين تأثيرات الطبيعة وموحيات الكتب والأسفار؛ إذ زاره شقيق له أكبر منه سنا في قرية (ياسنايا) وكان شقيقه هذا من ضباط الجند الروسي ببلاد القوقاز، فوصف له حالة الجند وما هم عليه من نضارة العيش ورفاهة الحال، وما زال به يحسن له حالته ويرغبه الانتظام بسلكهم حتى رضي وأطاع شقيقه فأصبح في عداد الضباط وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وعند نشوب حرب القرم انتقل إلى الطونة وانضم إلى أركان حرب البرنس غورتشاكوف، ثم انتقل إلى سباستبول؛ حيث عين قائدا لفرقة من المدفعية، وكان لانتقاله من بيئة لأخرى أثر كبير في إثارة قريحته، وتوسيع خياله، فتغيرت أطواره، وتحولت كليته، وتبطنت أعماق نفسه بانفعالات كثيرة ظهر على أثرها أهم مؤلفاته التي يصف فيها حالة الجند، وأهوال الحروب، وما يكابده الإنسان من فظائعها.
رحلته وزواجه
وفي العقد الرابع من سني حياته تطلع إلى السفر، فسافر سنة 1862 وساح في بعض أنحاء أوروبا، ثم رجع إلى قريته واقترن في العام الثاني بالسيدة صوفيا ابنة الدكتور بيرس الألماني الذي كان يقيم في موسكو؛ فاضطر تولستوي أن يداول السكنى بينها وبين قريته، وكانت قد نضجت مواهبه واتسعت معلوماته؛ لكثرة ما شاهده واختبره بنفسه، وكانت الحكومة قد عينته قاضيا في قريته، فبدأ بنشر تعاليمه، وأخذ يدعو الناس إلى السلام والفضيلة؛ سواء بالقدوة أو بالتعليم.
عيشته اليومية
وقد اشتهر بزهده في الحياة وتخليه عن مظاهر الوجاهة؛ فكان في قريته مع زوجته وأولاده في منزل بسيط محاط بغابة كثيفة ليس فيه من الأثاث إلا الضروري، فكان يقوم مبكرا فيلبس ثوبا بسيطا مثل أثواب الفلاحين، وهو عبارة عن سراويل واسعة فوقها كساء كالقميص يتمنطق حوله بسير من الجلد.
وكان يتناول طعام الإفطار، ثم يذهب إلى العمل في حرث الأرض، وتعهد أشجارها، وبذر الحبوب، ومساعدة ضعفاء الفلاحين في أعمالهم.
سيرته بين فلاحيه
كانوا يعجبون بتواضعه ويستأنسون بدعته ولطف شمائله، فإذا وقع بينهم خلاف تقاضوا إليه وارتضوا حكمه، وكان قد أنشأ في قريته مدرسة ينفق عليها من ماله الخاص لتعليم أبناء الفلاحين، وكان يتولى تعليمهم بنفسه؛ فاشتهرت المدرسة وقصدها أهل المدائن الأخرى المجاورة يلتمسون الاستفادة من آرائه وفلسفته، وأنشأ لهم أيضا مجلة تهذيبية تصدر باسم القرية، وقد بلغ من محبته لفلاحي قريته أنه أراد أن ينبذ فكرة الاستئثار بالملك الشخصي، وأحب أن يوزع أملاكه بينهم بالتساوي فيشتغل كواحد منهم، ولكن زوجته وذوي قرابته أبوا عليه ذلك، تلك كانت حاله بالصيف، أما في الشتاء فكان يقيم في موسكو؛ فينقطع عن الأعمال البدنية، ويتفرغ للتأليف والتحبير؛ فيؤلف ويراسل ويكاتب.
صفحه نامشخص