75

وكان الحارث وزوجته قد انعطفا نحو دارهما، فبعدا وبعد الصوت معهما، فلم يستطع ورقة أن يسمع شيئا. فلما أمن أن يرياه نهض في خفة، وسار نحو طويف؛ ليزوره كما وعد، ويطمئن على فتنة.

كانوا في انتظاره، فلما دخل عليهم نهضوا لاستقباله فرحين، ودنت منه الأرملة مرحة طروبا واحتضنته وقبلته على غير انتظار منه قبلات بعضها عن شوق وبعضها تقليد، وهي تقول: كل عذارى المعسل يشتهين هذه القبلات، ولكنهن لا يظفرن بها، فرأيت أن آخذها؛ لأفرقها عليهن عند ما يزرنني في الغد، وربما بعتها بثمن كبير. قال طويف: ويحك يا سعدى، إنك لجريئة، أو تفعلين هذا أمام أخيك؟ قالت: خل عنك هذا. ألم تقل لي أنت نفسك إنك تحب ورقة، فكيف بي؟ قال ورقة: بورك فيكم جميعا. كيف حالك يا ناجية؟ قالت: خير حال. ما رأيت سعادة كالتي أنا فيها الآن. إن طويفا وسعدى يملآن النسيم مسرة. قالت سعدى: بل أنت مصدر هذا، ولعمري لا أدري كيف يكون حالنا إذا أنت فارقتنا. قالت: وددت ألا أفارقكم أبدا، ولكن هل أملك ذلك؟ ثم نظرت إلى ورقة كأنما تستفسر. قال: الغد فصل الخطاب، وسأجيء إليك في مثل هذه الساعة أو قبلها إن استطعت. سيذهب أستاذي الحارث إلى صاحبك في الغد. قال طويف: ثم يكون من وراء ذلك أن تأخذها منا؟ قال: والله لا أدري بماذا أجيب، ولكن الأمور مرهونة بظروفها. قال طويف: اسمع يا ورقة، إنك لم تشأ أن تصارحنا عنها بشيء. ليست ناجية أختك إلا في الإسلام، وما تدعى ناجية بل فتنة. هكذا عرفنا منها، وهي فارة من ابن جدعان. إنها وثقت بنا وأخبرتنا. فإذا استطاع الحارث أن يحمل سيدها على عتقها فبها، وإلا فاعمل أنت على ذلك، وإليك هذا. ثم وضع يده في جيبه وأخرج منه كيسا فيه نقود ورماه إلى ورقة. هذا عتقها أو مهرها، أو ما شئت فسمه. إن يكن قد حملك إسلامك على البر بها، فإنما يحملني على ما أفعل ما نحس لها من الحب أنا وأختي. قالت سعدى: فإن لم يكف هذا فأقرضنا الباقي.

نظر ورقة إلى فتنة مبتسما ومستفهما. قالت: لا رأي لي في ذلك. لقد علقت رضاي على رضاك؛ فإن استحسنت الأمر فهو فيما أظن تدبير الله. قال: جل جلال الله؟ ليس وراء ذلك من رجاء يرجى إلا أن يهدي ابن جدعان إلى الخير، وسيكون ذلك إن شاء الله. إنه لن يرفض شفاعة الحارث بن كلدة. ثم التفت إلى طويف وأخته، وقال: لقد كنت عزمت أن أفك رقبتها بمالي، ثم أسألكم إيواءها حتى حين فإذا أنتم تسارعون إلى الخير. شكرا لك يا سعدى. شكرا جزيلا. قالت: تشكرني أنا! إن كان هناك شكر فهو لعينيها اللتين أيقظتا في هذا الفتى الأرمل المتشايخ قلبه النائم. قال: ومن حمله على التشايخ سواك؟ أما حرمت عليه أن يتزوج حتى تتزوجي؟ أما وقد أذنت فأنا أقبلك الآن عن نفسي لا عن عذارى المعسل ولا رجاله، ثم قبلها بين ضحك الجمع وسرورهم، وقال: أستميحكم الآن عذرا في الانصراف. عموا مساء جميعا ، حتى ألقاكم في العشية غدا أو قبلها إن استطعت.

فودعوه أحسن وداع وانصرف إلى داره خفيف القلب سعيدا.

الفصل التاسع عشر

سجية ابن جدعان

قصد الحارث إلى دار ابن جدعان؛ ليعالج معه أمر فتنة، وذهب ورقة إلى سيدته أم المؤمنين يستأذنها في السفر مع الحارث، فلم تمانع في ذلك؛ لأنها كانت قد اتفقت حين رضيت بلحوقه إلى أستاذه أن يذهب معه إلى اليمن إذا شاء؛ ليتم تعلم العقاقير - على أن يستقر بمكة بعد ذلك للتجارة فيها، ووصفها للمستوصف لمرضه إذا أذنه بذلك أستاذه كبير أطباء العرب، وكان ورقة يرجو أن يلقى رسول الله في داره؛ ليتزود الخير والرضا، ولكنه كان

صلى الله عليه وسلم

قد ذهب يعود سعد بن أبي وقاص في مرض أصابه، فقصد ورقة إلى دار سعد فرأى النبي

صلى الله عليه وسلم

صفحه نامشخص