45

وكان صليح يقول إن له إخوة برقودة، وأن له في مريوط خؤولة كثيرة، وأن أهل أبيه لم ينقطعوا عن الورود إليهم من الحيرة، وهم في سبيلهم في قوافل برقة وطرابلس أو قوافل القدس والحيرة.

وكان ميسرة غلام السيدة خديجة - رضوان الله عليها - يعرف هذا النجار ويحبه، وكلما مر به في سوق حزورة قضى معه بعض الوقت يتحدث ويسائله عن مصر والإسكندرية ويتعجب لرواياته، ومن ثم عرفته السيدة خديجة! فقد كانت كلما جدت لها حاجة إلى نجر ذكره لها ميسرة، وجاء به إليها فأتم لها العمل على أحسن وجه، وأكرمته فوق حقه، ولذلك جاء به ميسرة إليها هذه المرة أيضا. كان صليح أعزب في الثلاثين من عمره يوم جاء إلى مكة، ولكنه لم يكن يفكر في الزواج انتظارا ليوم عودته إلى بلاده. فلما استقر رأيه على البقاء في مكة خطر له أن يتزوج، ولكنه لم يكن يدري كيف يحقق رغبته في مكة، وليس فيها إلا قرشيون لا يزوجون مثله، وإلا فتيات من جواريهم ليس من كرامته أن يخطب إحداهن لتكون أما لأولاده، وما كان يعرف فيما وراء مكة أحدا ممن يمكن أن توجد بينهن إنسانة تليق أن تعاشره وهو ابن الإسكندرية المتحضر. فلما جاء يصنع السقيفة لسيدة قريش خطر له أن يبدي حاجته إليها على لسان ميسرة، ويلتمس منها العون في ذلك واثقا أنها ستهديه إلى الزوجة الصالحة، ولكنه رأى في منزل السيدة خديجة فتاة في السابعة عشرة من عمرها فتاة حسنة الطلعة، على وجهها كرامة لم يعهدها في كثيرات. فمال إليها قلبه، واحتال في سؤال ميسرة عنها. فلما علم أنها جارية مولاته تعلق بميسرة يرجو منه أن يفاتح عنه السيدة العالية في شأنها؛ لأنه لا يجرؤ أن يتكلم بحاجته، وأوصاه أن يذكر لها أنه عزم أن يستوطن مكة، فلا خوف من رحيله بجاريتها التي علم من ميسرة أنها تؤثرها على سائر جواريها. على أن السيدة رضيت بزواجها منه بلا شرط، ولكنها رأت أن تستأنس برأي الفتاة، وتستشير ابن عمها وعظيم أسرتها ورقة بن نوفل في هذا الزواج. فوافق، ولكنه اشترط أن يكون الزواج على سنة قريش، وأن يجري بدار قصي بن كلاب

8

لا على سنة أهل مصل المسيحية، واشترط كذلك أن يقلع عن صناعة الأوثان ويعيش من النجر وحده. كذلك جرى الزواج، وزفت تماضر إلى صليح في إعزاز وإكرام في دار وهبها لها سيدها ورقة بن نوفل، ولما ولدت أول غلام سمته باسمه، إذ كانت تحبه وتجله لفرط بره بها؛ لأنه كان رجلا بعيدا عن الدنايا التي انغمس فيها أهل مكة، وتزعم - لتقواه - أنه نبي أرسله الله لهداية العرب، وذلك لأنها كانت تسمعه يدعو الناس إلى عبادة الله واتباع ملة إبراهيم، ويعيب عليهم اتخاذ الأوثان آلهة من دون الله، ويعيب على قريش تمسكهم بهذه الأحجار، واستغلالهم مكانتهم في ابتزاز الأعراب الذين يردون من كل الجهات ليطوفوا ببيت أبيهم إبراهيم، في مواسم الحج والاعتمار.

ولما تزوج عليه السلام بسيدة قريش بعد ذلك بعام أخال أنه لما عرف قصة الفتاة ونفورها من الخنى عزها وأكرمها، وأخال أنه نعتها بالعفيفة تكريما لها، وأنه لما رزقت بولدها كان يداعب ولدها ويحسن إليه، وأخال كذلك أنه

صلى الله عليه وسلم

كان إذا ناداه قال له: يا ابن العفيفة.

9

ومن ذلك الحين سقطت عنه النسبة إلى صليح، وصار يدعى ابن العفيفة، وأكرم به اسما ولقبا.

الفصل التاسع

صفحه نامشخص