قال ورقة: ويحك يا رؤبة. إنك لتغريني بالصعود إليها بكل وسيلة، وتلقي علي تبعة ما تلقى المرأى في وحدتها. هلم، وسارا نحو مصعد الجبل. فقال رؤبة: ما أشد مروءتك يا سيدي. فأجاب ورقة: قد أكون كما تقول، ولكني أخشى أن أضيع المروءة من شرعة أخرى. إني قاصد نجران كما تعرف في مهمة، ولا بد لي أن أدرك قافلة مكة. إنها ترحل في بكرة الغد، ونحن الآن في الضحى. قال رؤبة ضاحكا: وستجهد الشملالة لتبلغها في حينها! أراك يا سيدي تجهل الطريق! إنك الآن على مرحلة واحدة من نجران، ومن الميسور أن تبلغ مكان القافلة في العشي ما دمت على ظهر هذه العصوف، وما دمت معك أريك درب الهارب.
وفيما هما يميلان إلى الصعود انخرط عليهما من منعطف الطريق بعير محمل عليه رجل قليل الجسم، صغير الوجه، مغضنة، جعل على رأسه عصابة تستر قذالة وتغطي فمه، وإلى جانبه سيفا، وعلى كتفه اليسرى قوسا وكنانة.
لم يكن الدرب واسعا حتى يمر بعيران، ولا كان الصاعد يتوجس ورود هابط من أعلى الجبل، وهو فيما علم قد خلا من صاحبه، ولذلك فزع ورقة، وزعم على الفور أن الغلام كان يستدرجه إلى موقف لا مفر من الهلاك فيه. فسرعان ما جرد سيفه واستعد للقتال، ولكن الراكب لم ينذعر ولم يأبه لشيء إلا لما أصاب بعيره من الذعر لدن هذه المفاجأة. فقد زلت خفافه واندفع منزلجا على الدرب حتى اصطدم بالشملالة، ولولا ذلك لرمى عنه راكبه وما حمل، وكان ورقة يتأمل هذا الراكب في أثناء ذلك فوجده شيخا ضئيل الجسم كأنه غلام لم يشب عن الطوق ، فأغمد سيفه على الفور. وقال الراكب : لا بأس عليك يا فتى. عم صباحا، وعش دهرا طويلا. فما كاد رؤبة يسمع الصوت حتى صاح من فرحه: أهو أنت يا خالة! ثم ضحك سرورا وقال مازحا: ما أمثلك بفوارس كسرى! سيف وقوس ولثام. ما عهدي بك تحسنين التدليس! ولكن يعوزك الدرع. ألم تجدي درعا؟ أعرفت ما لقي عدوك؟ لقد قتله هذا البطل وتركه عند الوقيعة طعاما للذئاب! قالت: أعرف ذلك. لا شلت يمينك يا بني. ذهبت إلى الحوض أغترف لطعامه وسمعت وحيه فأدركت أن هناك فريسة يتصيدها فأطللت في حذر. رأيتك ففرقت لشبابك، وتذكرت شرور الرجل فهممت أن أرميه بحجر لأقتله قبل أن يصيبك أذاه. ولكني لم أقو. فعدت إلى الماء أملأ الماعون، وأنا أصلي ليعوق أن ينقذك، وتمتمت بكلمات الدعاء فرماني بحجر وقع على الماعون وصات فغضب لما جرى، ونظر إلي نظرة وعيد عرفت ما بعدها. فأخذت الماء وانصرفت، ولكني غافلته وانتحيت بعيدا، وأخذت أراقب ما يجري، وأنا لا أفتر عن الدعاء إلى يعوق أن ينقذك، وقد أنقذك! رأيت كل شيء، وسمعت كل شيء. رأيت رؤبة وقد أصابه السهم ووددت لو ألقي بنفسي من الجبل لأسعفه، ثم رأيتك ترتمي على الأرض وتصرخ فما شككت في أنك قضيت، وكم كان عجبي وفرحتي عظيمين حين رأيتك تنهض لترمي الرجل وهو معلق بالصخر وترديه. عندئذ سقطت أنا كذلك لفرط ما نالني من الفرح بنجاتك، ولم أفق من غشيتي حتى رأيتك تحادث رؤبة وتحمله معك رديفا، فأيقنت أنك ذهبت به، وأني أصبحت في هذه الأرض وحيدة. فحملت ما في الدار لأرحل إلى يعوق، أنحر له واهدي شكرا له على استجابته دعائي. على أن لي في جواره أهلا وخؤولة أرجو أن تكون الأيام قد أبقت لي على بعضهم لأعيش في كنفهم، ولكني لا أدري لماذا تصعد الجبل؟ تراك ملتمسا مقيلا أو منزلا إلى غدك فأعود معك لأقوم على خدمتك؟ قال ورقة: شكرا لك. إني وحقك طالب نجران، وما أملك للتلوم وقتا، ولكن رؤبة لم يطاوعه قلبه فيرحل قبل أن يودعك. قال رؤبة : حملته على الصعود لأخبرك بمصرع الباغي، فقد زعمت أنك كنت في الدار على عادتك فلم تسمعي شيئا. أردت أن أنزل في قلبك المسرة، وأكون لك فيما تدبرين، ثم أودعك، ولقد أغريته بما ترك من السلاح؛ إذ هي مطمع الفارس، ولكنه لم يهتم؛ لأنه في مهمة، فذكرتك له وذكرت ما كنت تلقين من الرجل، وما كان من برك بي في إساري، فلم يسعه إلا أن ينزل على رجائي وإن لم أعلنه له؛ ليمكنني من أداء حقك، ورضي أن يتعوق. قالت الشمطاء وقد أخذت بمروءة ورقة: إنك لسيف الله ونقمته أيها الفتى. لك شكري وشكر الله على ما فعلت. أما السيوف والقسي فإليكها. ها هي ذي على جانب الرحل. انقلها يا رؤبة. لقد زعمت أن رؤبة حاملك على الرحيل فحملتها. لا حاجة بي إليها، ولا هي من حقي. أما الزاد والبعير فما أنت في حاجة إليهما كما أرى. إني راحلة إلى خيوان
1
بلاد يعوق كما ذكرت، ولا بد لي منهما فيها. قال ورقة: صدقت. هي لك وما لي بها من شأن. في سلامة الله يا خالة. لو كان طريقك معنا لصحبتك، ولكني ذاهب إلى نجران. قالت: في سلامة الله وبركته. هنا المفترق إذن. سأدعو لك دائما، وكان رؤبة قد تناول منها لفافة السلاح ووضعها في جوالق الناقة، وودعها ودعا لها، وقبلته وقبلها ودعت له، وفيما هي تهم بالمسير تناول ورقة من جيبه قبضة من المال الذي كان قد فاض عن وعائه حين كان يرده إليه ومد بها يده وهو يقول: إليك هذا يا خالة زادا لبعض أيامك في خيوان. فترددت المرأة في قبوله، ولكن ورقة ألح، وتدخل رؤبة مغريا على عادته، فقبلته شاكرة، وإذ مدت كفيها لتأخذه أخذت تتأمله فوجدت في النقود قطعا ذهبية لم ترها في حياتها. فقالت: أهذه الصفراء دنانير؟ قال: نعم. قالت: لا يا بني. لا. خذ الدنانير. ما لي حاجة بها. قال: بل أبقيها فما هي بكثير، ولعلك تحتاجين إليها. قالت: وددت لو أرد لك جميلا، ولكني لا أملك إلا الدعاء. قال: في وديعة الله يا خالة. قالت: وفي وديعة الله أنت يا بني وأنت يا رؤبة أستودعك الله، وما كاد يلتفت عنها ورؤبة يدعو لها حتى تذكرت أن معها خرزات كانت تعتز بها، وترى أنها عصمتها من كل شر فيما مضى، ولا بأس أن تنزل له عنها الآن. قالت: مهلا يا بني. خذ هذه الخصمة للدخول على ذي السلطان والخصومة. اجعلها تحت فص الخاتم أو زرا لقميصك، أو في حميلة سيفك فإنها عاصمتك من الأذى، ومنيلتك غاية المشتهى. فتناولها منها مبتسما وشاكرا، وقالت: وأنت يا رؤبة، خذ هذه الوجيهة هذه العقيقة الحمراء،
2
لرضى الناس عنك. إنها من أندر خرزات اليمن فهي مما يلفظه يعوق يوم عيده، فيلتقطه السدنة ويغالون به. إنها مما ورثته عن أمي وجدتي.
تقبل الفتيان منها هديتها باغتباط وشكر ارتاحت نفسها إليه؛ لأنها كانت تود أن يكون لها شبه يد في مقابل أياديه عليها، وعلى هذا مضت تلتمس الطريق وهي لا ينقطع لها دعاء.
كانت الشمس قد علت وأضحت، فقال ورقة لرؤبة وهو يعود إلى الدرب بناقته: إياك أن تغريني بشيء بعد هذا، إنك إن تفعل فلن أستمع لك. فضحك رؤبة وقال: لم يبق ما أغريك به إلا المسير. خذ إلى يمينك.
لم يكن ورقة في حاجة إلى أن يوجه الناقة، فقد كانت قلقة طول مدة التقائهما بالشمطاء، وما إن لوى عنانها نحو الدرب حتى انصرفت إليه جارية كأنما هي أرقم يلتمس وكره؛ لأنها كانت تعرفه من قبل، وكانت الخميلة طريقها فيما ضريت لولا أنها لم ترها من قبل مقطوعة بأعجاز النخل.
صفحه نامشخص