32

كبر الفتى في عيون اليهود لمروءته وإبائه، وشكروا له فضله وحسن رأيه، ووعدوا أن يعدوا له أكرم النوق، وعلى هذا استأذن في الانصراف ليدرك شيئا من ساعات النوم استعدادا لمشقة السفر في الغد فنهضوا لتوديعه حتى غاب، وعادوا ليعطوا الأمر بإعداد خير نوقهم لركوبه ساعة يفيق.

الفصل الرابع

الشملالة

استيقظ ورقة في موهن الليل على رغاء الراحلة التي أمر إسحاق بإعدادها. فرمى عنه غاشيته، ولم تكن غير برنس سميك اشتراه من إحدى أسواق الساحل في بعض رحلاته؛ ليكون مزدوج النفع: غطاء في الليل، ورداء في النهار. ثم نهض فانتعل خفيه، واحتمل سيفه وقوسه، وأصلح مكان خنجره من حزامه، وعمد إلى سقاء الماء فنطل على وجهه بعض ما فيه، وخرج ليأخذ سمته إلى نجران.

لم يكن ورقة خبيرا بالغ الخبرة بالإبل، ولكن ما وقعت عينه على الراحلة باركة على باب الخيمة حتى تبين أنها من أكرم النجائب، فلم يتمالك نفسه من فرط الإعجاب بها والتحدث إليها بذلك إلى رجال عيره الصغير، وكانوا قد أفاقوا هم أيضا على رغائها، وجاءوا لخدمته قبل الرحيل.

رأى عيطاء طويلة القوائم عصلبية فرهة، مخيفة النظرة كأنها مارد في مسلخ عيطبول، فقطع أنها شملالة عبر بواد، ودنا منها يربت على صفحتي عنقها بيديه اغتباطا بها وازدهاء بركوبها.

ثم إذ مال الكور ليرى ما عليه، مالت بعنقها تتفحصه هي أيضا تفحص العروس خاطبها، فلما رأته في ثوبيه وسلاحيه، وشمت ريح عارضيه، وكانت قد أحست وقع يديه، لاحت كأنما ارتاحت إليه، فأرزمت إرزاما، ورجعت في وجهه حنينا، وكأنما أدرك ما قصدت فسره رضاها، وتناول رأسها في يديه وهو يقول لها: إيه يا شملالة. نضو أسفار مثلك وحليف قفار، بيد أني أحمي الذمار، وأنبو عن مظنة العار ، ولقد عركت الدهر فما وجدت أعدل من الرمح ولا أمضى من الحسام البتار. هلم في سبيل نجران.

ما كاد يمسك بالعنان ويعتلي الكور حتى نهضت كالكثيب، وهمت بالمسير في طريق الجبل، وما كاد ورقة يودع أصحابه ويوصيهم بحوامله وحموله حتى كانت قد غاصت في مجرى النهر إذ كان جافا وعبرته واعتلت جانب الطريق، فلاحت في مواجهة نور القمر البازغ كأنما هي شغف في الجبل، أو قطعة من سحب دهماء تدفعها الريح على لبة السماء.

سارت به النجيبة دبيبا أشبه بزميل، ثم وجيفا أقرب إلى الإرقال، فهي تطوي الأرض طيا كانت تتلاصق به المرئيات وتتواصل كأنما هي متراصة، وورقة من فوقها كراكب السفينة في البحيرة الهادئة. فانصرف إلى التفكير فيما يحيط به من جلال الله وبدائع صنعه، وتواردت عليه في سكون الليل ذكريات مما رأى ومما شهد، فأخذ يتأملها ويتعجب ويحمد الله على أنه نجا بنفسه من غوايات الشيطان، وأغناه بفضله عن الإذعان لغير ما يتبين فيه الخير والصدق، وظل على هذا الحال حتى وهن الليل فتنبه إلى نفسه، وإلى القمر البازغ، وإلى وقع خفاف الناقة على الطريق وقعا منتظما، أثار في نفسه ميزان الشعر فألفى يحدوها بأبيات لا يدري كيف انطلق بها لسانه، ولا متى كان أول ما قال منها:

أيها المشرق في هذي الفلاة

صفحه نامشخص