فما كانت تعويضة ترضى سوى ثوبها الأسود تتخذ له حزاما من الصوف الأحمر من نسج أمها، فاشترى لها فؤاد ثوبا أسود من قطن في حرير، فلما لبسته جاءت إلى الدار تهنئ سيدتها بالعيد، وكان «فؤاد» جالسا إلى جانب الساقية تحت ظل الجميزة يقرأ في كتاب، فحيته قائلة: تعيش لكل عام يا حاج فؤاد.
وكانت هذه طريقتها في خطابه، وما زال صوتها يرن في أذنه عذبا وهو يسأل عنها أباها.
كانت تعويضة كأنها زهرة برية يانعة، لها عينان سوداوان نجلاوان وأنف جميل فيه حلقة من فضة، وكان تحت فمها الحسن وشم يمتد من أسفل شفتها إلى ذقنها، ولها بشرة سمراء صافية تعلوها حمرة. أرأيت زهرة البر إذا تفتحت في خميلة شعثاء في شعب من شعاب الصحراء؟ هكذا كانت تعويضة تبدو إذا لبست ثوبها الأسود ومن حول وسطها حزامها الأحمر، وكان صوتها عذبا إذا نطقت بلهجتها، وتنطلق في حديثها هادئة كالنسيم حينا وثائرة كالعاصفة حينا، لا تختلج من تكلف أو حياء، ولا تتعثر من تردد أو خوف.
وكان فؤاد يحس لها ميلا ولا يملك كلما رآها أن يبسم لها، ويرتاح إلى سماع ندائها إذا نادته: يا حاج فؤاد.
وكان كلما أتى إلى العزبة في الصيف يقضي كثيرا من وقته في «غيطها» يساعدها في عملها، وكانت الأرض هناك كثيرة النجيل، فكانت هي وأمها لا تكادان تغيبان عن الحقل ساعة كأنهما تجاهدان هذا النجيل جهادا، فإذا ذهب فؤاد إلى حقلها جعل يقلع معها النجيل حينا أو يحول الماء من المساقي لري خطوط القطن أو يعزقه معها إذا جفت الأرض، وكان ذلك يثير في الناس عجبا في أول الأمر، حتى لقد تهامسوا فيما بينهم عنه وعنها، وبلغ الحديث إلى أبيه ففاتحه فيه فقال لأبيه ضاحكا: «لعلي أحب أن أتزوجها يا أبي»، فأمسك عنه أبوه فلم يعد إلى كلمة أخرى مثلها، بل لقد صار إذا رآه مقبلا ساعة الظهيرة محمر الوجه تبسم له قائلا: «هل فرغت من عملك في حقلها؟»
وكان فؤاد يجيب في ابتسامة هادئة متحدثا عما كان منه في يومه.
وكان فؤاد بعد هذا يرى تعويضة في ليالي القمر إذا اجتمع أهل العزبة في الفضاء المجاور للدار، كانت تحيي حلقة السمر الساذج، فترقص رقصة الأعراب في «الصابية»، تخطر رشيقة في الحلقة والأكف ترن وأصوات الإنشاد الصاخبة تدوي من حولها.
وكانت صورتها كلما خطرت لفؤاد بدت له كأنها لوحة من لوحات الفن الجريء أو صورة من صور الشعر الوحشي في عصر مضى.
ولكنه لم يسأل نفسه عما يحسه نحوها، فإنما كان يراها معجبا بحسنها كما يعجب بزهرة يانعة على حافة ترعة.
ومضى رحومة يتحدث في مرح عن تعويضة، وفؤاد يستمع إليه في اهتمام: لقد تجرأ محمود بن خضرة فجاء إليه يخطبها، ولم يرض رحومة أن يذكر اسم والد الفتى - الشيخ عبد المقصود شيخ البلد في قرية النجيلة - متعمدا أن ينسبه إلى أمه تحقيرا وازدراء، وكان محمود فتى يرضاه أهل النجيلة جميعا إذا طلب إليهم أن يكون صهرا، ولكنه كان فلاحا وما كان ينبغي له أن يجرؤ على مصاهرة رحومة البدوي، فرده رحومة ردا عنيفا، ولم تخل تعويضة من الغضب عندما ذكر أبوها اسم الفتى لها، وسأله فؤاد عن أخي سلومة، فانطلق رحومة يثرثر عنه، وكان حديثه مرحا عاطفا.
صفحه نامشخص