ثم جاءت إليه برقية تنبئه بالنبأ الفاجع، لقد توفي أبوه!
وأسرع إلى العزبة وهو ذاهل لا يكاد يرى ما حوله من هول المفاجأة حتى بلغ داره فوجد فيها أهل القرية حشودا كأنما هو الذي جاءهم معزيا، وكانوا يتلقون وفود القرى ويبادرون إلى الخدمة بغير أن يدعوا إليها، ثم نقل جثمان الأب إلى القاهرة حيث ولد ونشأ، ودفن في جوار أهله الذين سبقوه إلى مضاجعهم في مقبرة الإمام.
ولم يستطع فؤاد أن يدع أمه في العزبة وهو وحيدها، فانتقل بها إلى القاهرة لتكون قريبة من أهلها.
وقضى فؤاد سائر الشتاء في عمله حتى أقبل الربيع، فاستأذن أياما ذهب فيها إلى العزبة ليرى ما حدث بها بعد أبيه فأي فرق طرأ عليها؟!
ماذا تبدل في حقولها وفي طرقها؟ وماذا اختل في سمائها وهوائها؟ كانت الحقول تبدو له عند ذلك كالحة في خضرتها والسماء كئيبة في زرقتها، حتى قوية وتعويضة ومبروكة ورحومة وكل هؤلاء الذين عرفهم من قبل كانوا يبدون له كأن مطالع وجوههم قد شاهت وتبدل أنسها، كانوا يلقونه جميعا مرحبين ويلتفون حوله كما كانوا يفعلون من قبل، ولكنهم لم يكونوا هم الذين رآهم وعين أبيه تقع عليهم؛ لأن ذلك الأب كان يخلع عليهم جميعا من أنسه وبشره، وكانوا يذكرون الأفندي ويترحمون عليه ويقرءون الفاتحة له كلما رأوا ولده، ولكن قلب فؤاد كان لا يحس ما اعتاد من انشراح في حياة أبيه عندما كانت البركة تطالعه باسمة ومن ورائها الكوم والقرية العالية والنخيل.
وجاء إليه رسول وهو هناك يحمل رسالة من إبراهيم ميسور، يعرض عليه شراء العزبة إن كان له أرب في بيعها، وكانت أمه في حزنها على صاحبها العزيز تحسب أن العزبة هي التي أودت به، كانت تحسب أنهم لو كانوا في مدينة لوجدوا فيها إسعاف الطب ولما عز عليهم الشفاء، بل لقد حسبت أن موت صاحبها جريمة هواء القرية ومطرها ووبائها وقذر مياهها، لقد كان صاحبها المسكين أقوى ما يكون صحة وأكثر ما يكون بشرا، ثم رقد أياما وأخذه السعال ليلتين طغت فيهما الحمى عليه كأنها شعلة نار، ثم رأته يخمد قبل أن تفيق من صدمتها الأولى، فلما علمت بما بعث به ميسور أشارت على ولدها أن يبادر إلى التخلص من تلك العزبة التي أصبحت لا تود رؤيتها ولا تحب أن تطأ أرضها بقدميها، فاتفق فؤاد مع ميسور على بيعها، وانقطع بذلك ما كان يربطه بالأرض التي كان له في كل ركن منها ذكرى عزيزة.
7
كان بيع العزبة صدمة جديدة لقوية وتعويضة وكل من هناك من أهل القرية بعد الصدمة الأولى التي أصابتهم بموت الأفندي، وكان إبراهيم ميسور - المالك الجديد - معروفا عندهم جميعا، فإنه كان أكبر أعيان الإقليم، وتمتد أملاكه ما بين حوش عيسى والنجيلة لا يزاحمه فيها إلا قليل ممن لم يقدر على إزاحتهم من سبيله.
أما الآخرون فقد كانت أرضه تحصرهم في وسطها فما يزال يضيق عليهم مسالك مياه الري أو يسد عليهم مسارب مياه الصرف أو يغري بهم بعض من يحشدهم حوله من الفتاك حتى يلجئوا إليه يعرضون عليه شراء أرضهم خوف أن تصير بورا، فلما ملك عزبة الأفندي امتدت رهبته إلى الضعفاء الذين يلونها، فقد كانوا يحتمون وراء تلك العزبة؛ إذ كان صاحبها يصد عنهم عادية ميسور، ولكنهم عندما أحسوا عجزهم عن المالك القوي الرهيب لم يجدوا وسيلة للدفاع عن أنفسهم سوى أن ينتموا إليه وينضووا تحت ظله، ويعدوا أنفسهم له تبعا يدينون له بالولاء.
وما هي إلا شهور حتى كان قد اتخذ من دار الأفندي مسكنا جديدا يحل فيه أحيانا، كأنه جعله معقلا في جبهة زحف ليغير منه على الجانب الذي يليه، وزاد في الدار جناحا عاليا بناه من حجارة ضخمة، وأقام سوره حصينا بعد أن كان لا يزيد على أعواد من شجيرات خضراء شائكة، وأصبح ذلك البيت الهادئ الوديع يبدو تجاه القرية كأنه حصن منيع.
صفحه نامشخص