فقال فؤاد وهو يأخذها: لست أدخن ولتكن هذه أول لفافة أدخنها.
ثم أشعل اللفافة ونفخ منها سحابة بيضاء كثيفة ورفع بصره إليها قائلا: دعني أصور من هذا الدخان لوحاتي.
ومضيا في الحديث إلى أن مضى أكثر الليل.
6
طالت إقامة فؤاد بالإسكندرية فامتدت إلى أسابيع حتى أوشك الشهر أن ينقضي، وكانت أياما ملأى في صحبة سعيد وأخته علية، كان يصاحبهما ساعات من النهار أو ساعات من المساء يقضونها على شواطئ البحر أو في المنازة النائية في الأطراف، وكانت علية تهوى التصوير وتصاحب أخاها في كثير من جولاته، فتستمع إليه وترسم أحيانا مناظر على هداه.
وكانت أحاديثهم تتسرب هادئة فلا يحسون للوقت طولا.
واستعاد فؤاد مودته الأولى لصاحبه فعادا كأنهما لم يفترقا من قبل يوما، وتوثقت مودة جديدة بينه وبين علية، وكان فؤاد كل يوم يرى فيها معنى جديدا، كانت علية حسناء بغير شك، بل كانت أبدع من صورتها حسنا، ولكن شيئا غامضا كان يفرق بينها وبين صورتها، وكثيرا ما حاول فؤاد أن يكشف عن ذلك الفرق الغامض فكان يرهف سمعه وبصره لكل حركة منها، بل لقد كانت صورتها تبقى في ذهنه بعد أن يخلو لنفسه فيمضي في تأملها، لقد خلق سعيد في صورتها راهبة وديعة تكاد عيناها تنمان عن عزوف عن الحياة، على حين كانت علية فتاة طروبا مرحة تملؤها الحياة، حقا كانت تحب أن تشارك في مؤسسات الخير وتعاون على أعمال البر، ولكنها كانت تفعل ذلك وهي شاعرة بأنها قوية تمد يدها إلى الضعفاء، وخيل إلى فؤاد أن الكبرياء هي التي تحركها، وكانت كبرياؤها صنفا يختلف في لونه عما اعتاد الناس أن يصفوا به المتكبرين، وكانت تحس كأنها تحلق عالية فلا يضيرها أن تمد يدها إلى من هم في أدنى الأفق وهي لا تخلو من شعور بالزهو، وكان يطربها أن ينظر إليها للناس إذ هي تتنازل بمد يدها.
ولكم خلا فؤاد إلى نفسه فحدثها عن علية الحية التي قضى اليوم معها، وكان يحس تعلقا بها يزداد يوما بعد يوم، وود لو استطاع أن ينظر إلى الحياة كما تنظر هي إليها.
وكان يخيل إليه أحيانا أنها تحس بنفسها وتعرف مقدار حسنها، فكان فيها نوع من العجب يحملها على شيء من التكلف يقلل من بهجة حسنها، وكثيرا ما كان يقرن صورتها بصورة تعويضة الأعرابية التي كانت لا تعرف الغرور ولا العجب ولا الزهو، ولكنه كان لا يلبث أن يعود من الموازنة بينهما نافرا حانقا يكاد يحس أنه قد ارتكب جرما، أكان ينبغي له أن يقرن صورة هذه الحسناء المنعمة المثقفة بصورة البدوية التي لا تستطيع أن تستمر في حديثها إلى ما بعد التحية والابتسامة؟! كانت تعويضة كالقطة البرية إذا غاضبها أحد من قومها، ولكن هذه الفتاة الوديعة كانت لا تعرف كيف تغضب، بل كانت لا تعرف أن الحياة قد تسوقها إلى ما يثير غضبها.
وكانوا يخرجون أحيانا إلى ظاهر المدينة فإذا بلغوا ريفا خاليا وقف سعيد يجمع في عينيه المناظر، ووقف فؤاد مع علية ينظران إليه يتفكهان برؤيته، أو يتجهان إليه ببعض ألفاظ التهكم الرفيق، وكانا يجدان في هذه الأوقات فرصة يتبادلان فيها الأحاديث، وكانت علية واسعة القراءة في الفرنسية تعرف الكثير من بدائع أدبها القديم والحديث، وكان فؤاد يخجل إذ لا يستطيع أن يرد عليها بشيء من قراءاته سوى أن يتحدث إليها عن شيء من القانون أو ما يتصل به إذا عرض ذكر من ذلك في الحديث، فقنع معها بأن يستمع ويعجب باختيارها لما تقتبس من ذلك الأدب، وكان هذا يملق زهوها ويرضيها، ووقف سعيد يوما على عادته ينظر إلى الأفق وهم وقوف على رابية في حدود صحراء مريوط، فجعل يشير بيده إلى تعاريج الشاطئ وإلى تضاريس الصخر، وما على البحر والبر من ألوان حتى لقد كان يرى للهواء في كل صوب لونا فكأنه وقف يطلع على العالم من نافذة لا يطل سواه منها.
صفحه نامشخص