ويل للأمهات! وويل للمال لقد أخذ منها زوجها، وهل كان زوجها إلا ضميرا ورجولة وشرفا، لم يكن زوجها وجها جميلا فهو دميم، ولم يكن مالا كثيرا؛ فقد كان فقيرا، لم يكن إلا هذه الأخلاق، ومن بين هذه القضايا رأت هند قضية ترفعها شركة كبرى، وسألت حمدي: لماذا أعطتك الشركة هذه القضية أليس لديها محام؟ - أرأيت شركة بغير محام؟ - إذن فلماذا تدافع عنها أنت؟ -لأني أصبحت محاميها. - ولماذا لم تخبرني؟ - لأني سأصبح محاميها إذا كسبت هذه القضية. - وأنت تعرف هذه القضية؟ - أجل أعرفها. - لا بد أن محامي الشركة رفض المرافعة فيها وقبلت أنت؟ - نعم. - وشرفك، وشرف المهنة؟ - شرف المهنة، لا شيء مقابل شرفي أنا. - وأين الشرف فيما تفعل؟! - إن هذا خير من أن أستجدي أموال الناس لأشتري الدواء لابني. - أتغالطني أنا يا حمدي؟! أنا أعرف رصيدك في البنك. - أنا لا أطيق هذا النقاش كل يوم. - أما أنا فلا أطيق هذا الانحدار كل يوم، لقد تزوجت فيك المثل الرفيعة، الشرف، الأمانة. - كل هذا تنازلت عنه، ولن أبقى بالمنزل لأسمع هذه الخطب الجوفاء.
يخرج ويغلق الباب خلفه، وتجلس هند وحدها، ماذا بقي لها من زوجها؟ ولماذا تبقى معه بعد اليوم، ماذا يربطها؟! ماذا تزوجت فيه؟ إنها يوم تزوجته، تزوجت أخلاقه ومثله، أما اليوم - وقد فقدها - فهي لا تجد فيه شيئا، اللهم إلا، نعم اللهم إلا أنه أبو أولادها، نعم هذه المخلوقات الصغيرة هي التي تربطها إلى زوجها، لا شيء إلا هذه المخلوقات، ولكن أتظل حياتها مع شخص تكرهه وتحتقره لأن أولادها يربطونها إليه، لا، لن تمكث، ولكنها إن تركته تكون قد جرت على أولادها هؤلاء جريمة تتضاءل أمامها جرائم حمدي جميعها، ليت هؤلاء الأولاد يموتون إذن حتى تتخلص من هذا الزواج الذي أصبح هباء، نعم ليتهم يموتون.
ثم تصحو هند من هذا التفكير العميق جازعة هالعة، لقد صرخ واحد من أولادها فهي تجري إليه في سرعة مجنونة. - ابني الحبيب، ماذا بك؟ لماذا تصرخ؟
حديث ولقاء
دق جرس التليفون في مكتب الأستاذ أحمد اسماعيل بالجريدة، وانبعث إلى أذنه صوت ناعم حلو. - الأستاذ أحمد؟ - نعم يا أفندم. - معجبة. - قديمة؟ - بل جديدة. - معجبة بماذا يا حسرة؟ - بجمالك. - وأين رأيتني؟ - ماذا أيها الفنان، هل لا بد أن أراك حتى أعجب بجمالك؟ - لا، فاتتني هذه، من الممكن أن تعجبي بجمالي على السمعة نسيت أن جمالي بعيد الصيت واسع الانتشار. - ويقولون فنان. - من هؤلاء الذين يقولون، أنا قلت؟ - كلهم يقولون إنك فنان. - لا عليك فاللغويون يقولون إن الفنان هو الحمار الوحشي، لعلهم يقصدون أنني فنان بهذا المعنى. - لا يا سيدى، لم يقدرك أحد إلى هذا الحد إنما هم يقصدون أنك فنان موهوب، لأغانيك الحلوة، أنا أعبد أغانيك. - وما لهذا ولجمالي؟ - إن هذا هو جمالك، لم تدرك هذا من أول لحظة أيها الفنان. - آه! يبدو لي أنك فنانة أنت أيضا. - وما له! يا ليتني كنت، إذن لالتقيت بك مباشرة وأبديت لك إعجابي وجها لوجه بدلا من هذا التليفون الذي يفصل بيننا. - أراه يصل بيننا. - أتكتفي أنت بهذا الوصل؟ - اسمعي، أنا لي أصدقاء كثيرون، كل همهم أن يوقعوا بي في ورطة مضحكة، وأنا يا بنت الناس كبرت على مسألة التليفون هذه، فإن كان أحدهم أغراك فقولي له استح. - آه، هذا ظنك، لماذا كل هذا الشك؟ أعجيب أن تعجب بك فتاة جميلة؟! - لا، ليس عجيبا أن تعجب بي فتاة، ولكن العجيب أن تكلمني في التليفون والأعجب أن تكون جميلة. - أنا لست جميلة. - لا يمكن أن تكوني جميلة. - لماذا؟ - لو كنت جميلة لما خفت من لقائي، ولما استترت مني بالتليفون. - ومن قال لك إني خائفة؟ - حديثك هذا، ولماذا لم تتيحي أن أراك بدلا من هذا الحديث؟ - أولا، أنا أجد في هذا الحديث لذة تفوق لذة اللقاء؛ فأنت حين تحدثني تتخيلني في صورة حلوة رقيقة، وأتخيلك أنا أيضا في صورة فنان رقيق أنيق متسق القسمات حلو الملامح، وتظل هذه الصورة في ذهن كل منا حتى نلتقي! فتتمدد الصورة التي في ذهنك حلاوة ورقة وعذوبة بخطوط جسمي، وينعدم الخيال، وأراك أنا فأرى شعر لحيتك وشاربك، ورباط رقبتك ولعله يكون قبيحا يوم نلتقي، ووجهك ولعلك تكون متعبا حين أراك. الحديث يطلق الخيال واللقاء يمدده، أنا أحب الحديث. - وأنا أحب اللقاء، لا شأن لك بالخيال. سأجد التغير الذي أتخيله عنك بعد اللقاء. - يبدو أنني أنا الفنانة وأنك أنت المعجب، كلامك واقعي، لا خيال فيه. - اسمعي يا ستي، الواقع أنني معجب بكلامك! وبخيالك! وكفى أقسم لك أنني أستطع أن أقرأ كلاما خيرا من هذا إن اقتصر الأمر بيننا على الكلام، الكلام يأخذ كامل بهائه حين نرى المتحدث، وما دمت لا أراك فأرجو ألا نسترسل في الحديث، هذا إلى جانب أنني هنا في مكتب العمل وأريد أن أفرغ للمواد المتراكمة أمامي. - أتريد أن تقطع الحديث؟ - ما دمت لا تريدين لقائي. - ومن قال لك أنني لا أريد؟ - أنت. - أبدا! أنا لم أقل، كل ما في الأمر أنني أحببت أن نتمتع بالحديث ما أمكننا ذلك ثم نلتقي. - ولكني أريد أن نتمتع باللقاء ما أمكن ذلك ثم نتحدث. - مستعجل أنت؟ - نعم. - فأين تريد أن تلقاني؟ - أنا أقعد عادة في لاباس منذ الرابعة من بعد الظهر. - وكيف ستعرفني؟ - إنك أنت التي ستعرفينني. في مجلة الإذاعة اليوم أحدث صورة لي، إنها أنا، إذا أعجبتك، فأنا ... البسي. - إنها ستعجبني لا شك. - بل في ذلك شك، إلى اللقاء. - إلى اللقاء.
وكان أحمد جالسا في مقعده المختار بمحل لاباس حين دلفت إلى المكان سيدة رائعة الجمال لم تتردد كثيرا قبل أن تقصد إليه وتجلس إلى النضد الذي اتخذه. - ماذا أقول صباح الخير أم مساء الخير؟
ولم يجد أحمد في التحية شيئا جميلا ولا لباقة، فقال لها في بعض دهشة: قولي ما شئت فإن جمالك غني عن أي تحية. - لا أفهم. - بل تفهمين وتريدين أن أزيد، ومن أجلك سأزيد، جمالك تحية من الله لكل من يلتقي بك، أنت وحدك تحية فلا حاجة بك إلى أن تقولي صباح الخير أو مساء الخير.
وضحكت الفتاة ضحكة جذابة وقالت: لا والله أنا قصدت أن أعرف منك الجواب على سؤالي، فنحن في وقت لا ندري أهو صباح أم مساء؟ - أما ترين أن الحديث عن الصباح والمساء قد طال بيننا وهو موضوع بدائي؟ - نعم أرى ذلك ولكن فيم تريد حديثنا؟! - لا أدري؟ فأنت التي طلبتني وأنت الحكم بما تريدين الحديث فيه. - قليلة هي المواضيع التي أستطيع الحديث فيها. - عجيبة! - وأين العجب؟ - أنت في التليفون كنت تخلقين الحديث خلقا وتسيرين به إلى الوجهة التي تريدين بلا تكلف ولا مشقة ولا عنت فأي جديد جد عليك فجعلك تعجزين حتى عن بدء موضوع الحديث؟!
وكانت ابتسامة تجاهد في الاستخفاء تلوح وتختفي على شفتي الفتاة، ورأى أحمد هذا الوميض من الابتسام فعجب له بعض الشيء، وهم أن يسألها عما أطلق هذه الابتسامة على شفتيها ولكنها عاجلته قائلة: التليفون شيء آخر. - يظهر أنك أنت شيء آخر.
وجزعت الفتاة جزعا أوشك أن تتضح معالمه على وجهها لولا حرصها الشديد وسألت: ماذا تقصد؟ - لا شيء. - حسنا، سأحدثك إذن ما دام لا بد من الحديث. لقد رأيت فيلم السماء الزرقاء وأعجبني جدا، هل أعجبك؟ - ما الذي أعجبك فيه؟ - الممثل؛ حلو، جميل جدا، عيناه، عيناه، عيناه، عجيبة من عجائب الزمن! - أكل ما أعجبك في الفيلم عينا الممثل، ألم تفكري في المؤلف الذي بذل أقصى جهده أياما وشهورا لتتمتعي أنت بساعة تشاهدين فيها الفيلم؟ ألم يعجبك المخرج الذي أراق جهده وأعصابه، ألم تفكري في هذا الممثل ذي، أكل ما في الفيلم عينا الممثل؟ - يا أخي لقد حيرتني! - اسمعي يا ستي، لا تحيريني ولا أحيرك، أنا سأنصرف وحدثيني في التليفون.
صفحه نامشخص