في صباح أغلب الأيام كان لا يتاح للطبيب متسع من الوقت للكشف على مرضى العيادة الخارجية بنفسه، فكان يتركهم لمساعد جراح، كان يتبع أساليب وجيزة في التشخيص. إذ كان بكل بساطة يسأل كل مريض: «أين تشعر بالألم؟ في الرأس، أم الظهر، أم البطن؟» وعند الإجابة يناولونه وصفة من إحدى ثلاث رزم كانوا قد حضروها مسبقا. وكان المرضى يفضلون هذا الأسلوب كثيرا عن أسلوب الطبيب. إذ كان من دأب الطبيب أن يسألهم ما إذا كانوا قد عانوا من أمراض تناسلية - سؤال غير لائق وغير مجد - وكان أحيانا يروعهم أكثر من ذلك بالنصح بإجراء عمليات، وهو ما كانوا يشيرون إليه بعبارة «فتح البطن». كان أغلبهم يفضلون أن يموتوا عشر مرات على أن يخضعوا لعملية «فتح بطن».
بمجرد أن ذهب المريض الأخير ارتمى الطبيب على كرسيه، وجعل يهوي على وجهه بدفتر الروشتات. «أف لهذا الحر! في صباح بعض الأيام أشعر أن رائحة الثوم لن تبارح أنفي أبدا! أتعجب كيف يصير دمهم ذاته مشبعا به! ألا تشعر باختناق يا سيد فلوري؟ فحاسة الشم لديكم أنتم الإنجليز متطورة للغاية. يا لها من عذابات تلك التي تعانونها جميعا حتما في شرقنا القذر!» «ربما يجدر أن يكتبوا فوق قناة السويس: «على جميع من سيدخلون من هنا ترك أنوفهم»، أليس كذلك؟ تبدو مشغولا هذا الصباح؟» «كالعادة، لكن كم هو محبط عمل الطبيب في هذا البلد يا صديقي! هؤلاء القرويون ... يا لهم من همج جهلة قذرين! جل ما يمكننا عمله هو أن نحملهم على المجيء إلى المستشفى، لكنهم يفضلون الموت بالغرغرينا أو العيش بورم بحجم الشمامة لعشر سنوات على أن يخضعوا للمشرط. ويا للأدوية التي يعطيها لهم أطباؤهم المزعومون! أعشاب حصدت تحت ضوء الهلال، وشوارب نمر، وقرون خرتيت، وبول، ودم حيض! إنه لمقزز أن يشرب إنسان مثل تلك التركيبات.» «لكنه بالأحرى مذهل. لا بد أن تؤلف دستورا بالأدوية البورمية يا دكتور. سيكون بنفس جودة دستور كلبيبر.»
قال الطبيب وقد بدأ يرتدي معطفه الأبيض بعصبية: «بهائم همج، بهائم همج. هلا عدنا إلى منزلي؟ يوجد جعة وأظن القليل من قطع الثلج المتبقية. لدي عملية الساعة العاشرة، فتق مختنق، مستعجلة جدا. حتى ذلك الوقت أنا حر.» «حسنا. في الواقع ثمة شيء كنت أود حقا أن أحدثك بشأنه.»
عبر المرضى الساحة عائدين وصعدوا سلم شرفة الطبيب، الذي راح يتحسس صندوق الثلج ليجد أنه قد ذاب كله إلى مياه فاترة، ففتح زجاجة جعة ونادى على الخدم بعصبية ليضعوا بضع زجاجات أخرى في حامل من القش المبتل ويعلقونه في الهواء. كان فلوري واقفا يطل من سور الشرفة، وقبعته ما زالت على رأسه. كان في الحقيقة قد جاء ليقدم اعتذارا، بعد أن ظل يتحاشى الطبيب طوال أسبوعين تقريبا، بالفعل منذ اليوم الذي وضع فيه اسمه في الإعلان المسيء في النادي. لكن كان لا بد من النطق بالاعتذار. كان يو بو كين خبيرا جيدا جدا بالرجال، لكنه أخطأ حين افترض أن خطابين مجهولي المصدر كافيين لإبعاد فلوري مذعورا عن صديقه إلى الأبد. «فلتسمع يا دكتور، أتعلم ما أردت قوله؟» «أنا؟ لا.» «بل تعلم. إنه بشأن تلك المكيدة الكريهة التي كدتها لك ذلك الأسبوع. حين علق إليس ذلك الإعلان على لوحة النادي ووقعت أنا عليه. لا بد أنك سمعت بالأمر. أود أن أشرح ...» «كلا، كلا يا صديقي، لا، لا!» كان الطبيب في ضيق شديد حتى إنه عبر الشرفة مسرعا وقبض على ذراع فلوري. «لا تفسر شيئا! لا تذكر الأمر أبدا أرجوك! إنني متفهم تماما، تماما جدا.» «لا، إنك لا تدري. لا يمكنك ذلك. فأنت لا تدرك أي نوع من الضغط يمارس علينا لنفعل أشياء مثل تلك. لم يكن ثمة شيء ليجعلني أوقع ذلك الإعلان. لم يكن شيء ليحدث لو أنني رفضت. لا يوجد قانون يطالبنا بأن نعامل الشرقيين معاملة كريهة، بل العكس تماما، لكن جل ما هناك أن المرء لا يجرؤ على إخلاص الود لشرقي ما دام هذا يعني معارضة الآخرين. إنه ليس من المعقول. لو كنت عارضت الإعلان معارضة صريحة لكان لحقني العار في النادي طوال أسبوع أو أسبوعين. لذلك جبنت كالعادة.» «أرجوك يا سيد فلوري، أرجوك! إذا واصلت الكلام ستجعلني أشعر بالحرج حقا؛ كما لو أنني لم أستطع أن ألتمس لك الأعذار على موقفك.» «إن شعارنا، كما تعلم: «في الهند تصرف كما يتصرف الإنجليز».» «بالطبع، بالطبع. وإنه لشعار نبيل للغاية «متآزرين معا»، كما تسميه. إنه سر تفوقكم علينا نحن الشرقيين.» «حسنا، إن الاعتذار لن يجدي أبدا. أما ما جئت هنا لأقوله فهو أن ذلك لن يحدث ثانية. في الواقع ...» «مهلا، مهلا يا سيد فلوري، فلتسدني معروفا بألا تزيد كلاما في هذا الموضوع. لقد انتهى ونسي تماما. فلتشرب جعتك قبل أن تصير ساخنة كالشاي، رجاء. كما أن لدي شيئا أود إخبارك به. فلم تسألني عن أخباري بعد.» «أجل، أخبارك. صحيح، كيف أخبارك؟ كيف جرت الأحوال طوال هذا الوقت. كيف حال السيدة بريطانيا؟ ما زالت على فراش الموت؟» «أجل، حالتها سيئة جدا، غاية في السوء! لكنها ليست في سوء حالتي. إنني في مأزق يا صديقي.» «ما الأمر؟ يو بو كين مجددا؟ هل ما زال يشهر بك؟» «ليته كان يشهر بي! هذه المرة ... حسنا، إنه عمل شيطاني. هل سمعت يا صديقي بالتمرد المفترض أنه على وشك الاندلاع في المنطقة؟» «سمعت أقوالا كثيرة. كان ويستفيلد قد مضى ناويا القتال، لكنني سمعت أنه لم يستطع العثور على أي متمردين. وإنما المعتاد من المعارضين القرويين الذين يرفضون سداد ضرائبهم.» «صحيح. يا لهم من حمقى مساكين! هل تعلم كم تبلغ الضريبة التي رفض أغلبهم سدادها؟ خمس روبيات! سرعان ما سيسأمون ويدفعون. تواجهنا هذه المشكلة كل عام. لكن فيما يتعلق بالتمرد - التمرد المزعوم يا سيد فلوري - أرجو أن تعلم أن ما خفي كان أعظم.» «حقا؟ ما الأمر؟»
تفاجأ فلوري حين بدرت من الطبيب حركة غضب عنيفة حتى إنه سكب أغلب الجعة من يده. ثم وضع كوبه على سور الشرفة وقال منفعلا: «إنه يو بو كين مجددا! ذلك الوغد الذي يجل عن الوصف! ذلك التمساح الذي عدم المشاعر الطبيعية! ذلك ... ذلك ...» «أكمل. «ذلك الصندوق المليء بالآفات البشرية؛ ذلك الجوال المفعم بالأسقام، ذلك البرميل الذي صفيت فيه كل الشرور» ... استمر. ما الذي ينويه الآن؟» «خسة لا يضاهيها خسة»، وهنا راح الطبيب يوضح مؤامرة التمرد الزائف، تماما كما شرحها يو بو كين لما كين. التفصيلة الوحيدة التي لم يكن يعلمها هي نية يو بو كين أن يجعل نفسه يختار لعضوية النادي الأوروبي. لا يمكن القول بأن وجه الطبيب كان متوردا بالضبط، لكنه صار أشد سوادا بعدة درجات في فورة غضبه. أما فلوري فقد كان من الاندهاش في غاية حتى إنه ظل واقفا. «يا له من شيطان خبيث! من كان يتخيل أنه يستطيع ذلك؟ لكن كيف استطعت معرفة كل هذا؟» «تبقى لي القليل من الأصدقاء. لكن هل رأيت يا صديقي أي دمار يدبره لي؟ لقد انهال علي بافتراءات شتى بالفعل. وحين يندلع هذا التمرد الغبي، سيبذل كل ما في وسعه ليربط اسمي به. وأؤكد لك أن أقل شبهة تمس ولائي من الممكن أن تتسبب في هلاكي، هلاكي! إذا همس أي خبر بمجرد تعاطفي مع هذا التمرد، سوف تكون نهايتي.» «لكن تبا، هذا لا يعقل! لا بد أن بإمكانك الدفاع عن نفسك بطريقة ما.» «كيف يمكنني الدفاع عن نفسي وأنا لا أستطيع إثبات شيء؟ أعلم أن كل هذا صحيح، لكن ما الجدوى؟ حتى إذا طالبت بتحقيق عام، مقابل كل شاهد سآتي به سيأتي يو بو كين بخمسين. إنك لا تدري بنفوذ ذلك الرجل في المنطقة. فلا أحد يجرؤ على الشهادة ضده.» «لكن ما حاجتك لإثبات أي شيء؟ لماذا لا تذهب لماكجريجور وتخبره بالأمر؟ إنه رجل حقاني جدا بطريقته، وسوف ينصت لك حتى النهاية.» «لا جدوى، لا جدوى. ليس لديك عقلية شخص متآمر يا سيد فلوري. تقديم التبريرات يدل على ارتكاب الذنب، أليس كذلك؟ لا فائدة ترجى من الصياح بأن هناك مؤامرة ضدي.» «حسنا، ماذا ستفعل إذن؟» «ليس هناك ما يسعني فعله. علي ببساطة أن أنتظر على رجاء أن تنقذني مكانتي. في مثل هذه الأمور، حين تكون سمعة أحد المسئولين من أهل البلد على المحك، لا يهم الإثبات أو الدليل. إنما يتوقف الأمر برمته على منزلته لدى الأوروبيين. إذا كان لي منزلة حسنة لن يصدقوا عني ذلك؛ إذا كانت سيئة فسوف يصدقون. المكانة هي كل شيء.»
لاذ الاثنان بالصمت لحظة. فهم فلوري جيدا أن «المكانة هي كل شيء». كان معتادا على هذه النزاعات المبهمة؛ حيث الشك أهم من الإثبات، والصيت أوقع من أكثر من ألف شاهد. ثم طرأت على باله فكرة، فكرة تبعث على القلق والخوف، ما كانت لتخطر على باله قبل ثلاثة أسابيع. كانت إحدى تلك اللحظات التي يرى فيها المرء بوضوح تام ما هو واجبه، ويرغب بشدة أن يتملص منه، لكن يساوره يقين أنه لا بد أن يقوم به. هكذا قال: «لنفترض مثلا أنك انتخبت لعضوية النادي. هل سيكون في ذلك أي فائدة لمكانتك؟» «إذا انتخبت لعضوية النادي! أجل، بالتأكيد! النادي! إنه قلعة حصينة. بمجرد أن أدخله، لن ينصت أحد إلى تلك الحكايات التي تقال عني إلا كأنها عنك أنت أو السيد ماكجريجور أو أي سيد أوروبي آخر. لكن أي أمل يحدوني في أن ينتخبوني بعد أن سممت أفكارهم عني؟» «حسنا، اسمعني يا دكتور، لدي فكرة. سأقترح اسمك في الجمعية العمومية التالية. المفترض أن المسألة ستطرح عندئذ على حد علمي، وأعتقد أنه إذا تقدم أحد باسم مرشح فلن يصوت أحد ضده سوى إليس. وفي الوقت ذاته ...» «آه يا صديقي، يا صديقي العزيز!» كاد الطبيب يختنق من فرط التأثر. ثم قبض على يده وقال: «آه يا صديقي، هذا تصرف نبيل! تصرف نبيل حقا! لكن هذا كثير جدا. أخشى أن تقع في مشكلة مع أصدقائك الأوروبيين مرة أخرى. السيد إليس مثلا، هل سيتغاضى عن اقتراحك اسمي؟» «أف لإليس. عليك أن تفهم أنني لا أستطيع أن أعد بانتخابك. فالأمر يتوقف على ما سيقوله ماكجريجور والحالة المزاجية التي سيكون عليها الآخرون. وقد ينتهي الأمر برمته إلى لا شيء.»
كان الطبيب لا يزال ممسكا بيد فلوري بين يديه، اللتين كانتا مكتنزتين ورطبتين. وكانت الدموع قد تصاعدت فعلا إلى عينيه، اللتين جعلتهما نظارته تبدوان مكبرتين، يطالع بريقهما فلوري مثل عينين لامعتين لكلب. «آه يا صديقي! ليتني أنتخب! فأي نهاية ستكون لكل متاعبي! لكن كما قلت لك من قبل يا صديقي، لا تكن شديد التهور في هذا الأمر. فلتحترس من يو بو كين! لا بد أنه قد احتسبك بالفعل بين أعدائه. ومن الممكن أن تكون عداوته خطيرة حتى عليك.» «يا إلهي، ليس بإمكانه أن يمسني. ولم يفعل شيئا حتى الآن، فقط القليل من الخطابات المجهولة المصدر التافهة.» «ما كنت لأفرط في الاطمئنان لو كنت مكانك؛ فهو لديه أساليب خفية للهجوم. ومن المؤكد أنه سيقيم الدنيا ويقعدها للحول دون انتخابي لعضوية النادي. إذا كان لديك نقطة ضعف فلتحرسها يا صديقي. فسوف يكتشفها. إنه دائما ما يصيب نقاط الضعف.»
أفاد فلوري قائلا: «مثل التمساح.»
وافقه الطبيب بجدية قائلا: «مثل التمساح، لكن كم سيسرني أن أصير عضوا في ناديك الأوروبي يا صديقي! يا له من شرف أن أكون زميلا لرجال أوروبيين مهذبين! لكن ثمة مسألة أخرى يا سيد فلوري لم أكترث لذكرها من قبل. وهي - أرجو أنه يكون هذا مفهوما بوضوح - أنني لا أنوي استغلال النادي بأي طريقة. فالعضوية هي كل ما أرغب فيه. وحتى إذا انتخبت، لن أجرؤ قط بالطبع على الذهاب إلى النادي.» «لن تأتي إلى النادي؟» «لا، لا! معاذ الله أن أفرض صحبتي على السادة الأوروبيين المهذبين! سوف أسدد اشتراكاتي فحسب. يكفيني ذلك الامتياز الرفيع. أعتقد أنك تدرك قصدي، أليس كذلك؟» «تماما يا دكتور، تماما .»
لم يستطع فلوري أن يمنع نفسه من الضحك وهو يسير صاعدا التل. صار الآن ملزما حتما باقتراح انتخاب الطبيب. وستثور مشاجرة عارمة حين يسمع الآخرون بالأمر. يا لها من مشاجرة عويصة! لكن المدهش أن ذلك لم يفعل به شيئا سوى أن جعله يضحك. الاحتمال الذي كان حقيقا أن يروعه قبل شهر يكاد يبهجه الآن.
صفحه نامشخص