تركنا لوستن - وكنا لا نزال في ساعة مبكرة من الصباح - ولبثنا نسير على أرض هي موجات ضخمة مغطاة بالخضرة التي لا شجر فيها؛ والخضرة هنا في معظم الحالات قمح في طريق النمو؛ فهذا الإقليم - كما قيل لي مرارا - يعد أغنى بقاع أمريكا في محصول القمح.
وبعد مسير قليل صعدنا جبلا على نفس الصورة التي هبطنا بها إلى لوستن؛ أعني أننا صعدنا في طريق يلتوي وينثني على سفح الجبل ، ليصعد الصاعد متدرجا حتى بلغنا القمة؛ والقمة هضبة مسطحة تنسيك أنك في منطقة جبلية؛ على هذه الهضبة المسطحة المستوية التي تمتد ما امتد البصر، والتي زرعت كلها قمحا، سرنا نحو ساعة، وصلنا بعدها إلى جنة الله على الأرض، ولبثنا في هذه الجنة سائرين في السيارة نحو ساعتين، حتى بلغنا المكان المقصود، وهو بحيرة «والوا» ومن حولها جبال الألب الصغيرة.
في هذه الجنة الأرضية مررنا على ما يسمى «متنزه فيلد» وهي حديقة بستانيها هو الله! لم تنسقها يد البشر، ومع ذلك يستحيل أن تقبل عليها ولا ينفتح فوك من دهشة وتقول كما قلت أنا - دون سابق علم: إن هذا المكان فيه علامات التنسيق والتشذيب كأنه حديقة مصنوعة، لا جزء من الطبيعة المرسلة، وعندئذ تعلم - كما علمت أنا من زميلي - أنه فعلا يسمى «متنزه فيلد»؛ لأنه كالمتنزه الذي أتقن تنسيقا وتشذيبا وتهذيبا ... وتدخل في مماشي هذه الحديقة الإلهية فترى الحكومة قد أضافت إلى الطبيعة إعدادا ينفع المتنزهين؛ إذ أعدت مكانا للطبخ ومكانا للأكل وأمكنة للنوم وهكذا.
استأنفنا طريقنا في هذه الجنة الفيحاء؛ فطريق السيارة ممهد على السفح عند وسط الجبل، فعن يسارنا ينهض حائط الجبل إلى قمته، وهو مغطى كله بأشجار الصنوبر الضخمة العاتية؛ وعن يميننا مباشرة واد عميق، وعبر الوادي أمواج من الأرض الخضراء، لكن الخضرة هنا ليست قمحا بل حشائش، وظهور الموج يلاحق بعضها بعضا تبدو كأنها ظهور الخيل نظر إليها من الخلف وهي تعدو زرافات، ولولا أن تشبيه الأرض الخضراء بالمخمل قد ابتذل حتى فقد معناه؛ لقلت إن المنظر عبر الوادي شبيه جدا بمساحة واسعة من المخمل الذي كأنما يغطي تحته أشياء ذات أطراف وزوايا؛ لأن المخمل ينثني هنا ويلتوي هناك، وعند انثنائه والتوائه يتغير لون الخضرة كما يتغير لون المخمل تماما حين ينثني ويلتوي ... هذا الوادي الذي لم يخلق الله أجمل منه في الدنيا يسمى وادي جراند روند ... ها هو ذا طريق السيارات يهبط بنا إلى جوف الوادي، يهبط بنا درجة درجة على السفح، حتى بلغنا القاع لنبدأ في الصعود من جديد درجة درجة على السفح المقابل من الناحية الأخرى، وصعدنا إلى سطح هضبة مستو، لكن الهضبة هنا مغطاة كلها بالشجر، وقد شق طريق السيارات بين كتلة الشجر خطا مستقيما يمتد أميالا، فتسير وعن يمينك ويسارك جداران من الشجر؛ وفجأة ينتهي جدار الشجر الذي على يسارنا، ونرى لوحة تنبه المسافر إلى بقعة جميلة ينبغي الوقوف عندها فوقفنا.
هي نقطة بارزة تطل منها على «وادي يوسف» فمن يوسف هذا؟ هو زعيم من زعماء الهنود الحمر، حارب الأمريكيين حربا يشهدون له فيها بالبراعة التي انقطع نظيرها في تاريخ الحروب، من حيث قدرته على الانسحاب السريع ثم الالتفاف السريع، ثم التفكير في مائة خدعة وخدعة يوقع بها عدوه في حصار مفاجئ لا يتوقعه.
عدنا فاستأنفنا الطريق بين جداري أشجار الصنوبر على هذا المنبسط الأرضي العالي، ويسمونه «متنزه والوا»، حتى إذا ما خرجنا من هذه الغابة انبسطت أمامنا أمواج وطيئة من الأرض الخضراء، بما عليها من قمح ... وبدت في الأفق البعيد جبال الألب الصغيرة التي ترتفع في بعض أجزائها اثني عشر ألفا من الأقدام؛ لكن ساء حظنا فكانت القمم العالية ملتفة بالسحاب، فلم نر فيها إلا أسافلها الخضراء بشجر الصنوبر ... كان السحاب أحيانا يشف في بعض الفتحات الصغيرة، فيكشف عن بقع مضيئة من القمم العالية الناصعة بثلجها الأبيض.
سرنا متجهين نحو الألب الصغيرة، حتى بلغنا مدينة «إنتر برايز» وهي على ارتفاع خمسة آلاف قدم، وصلناها في الساعة العاشرة صباحا؛ أي بعد خمس ساعات بالسيارة؛ نزلنا بها وشربنا قهوة ثم عدنا نسير عددا قليلا من الأميال مارين بمدينة صغيرة اسمها «يوسف»، وأخيرا بلغنا بحيرة «والوا» التي تحيط بها جبال الألب الصغيرة ... ها هنا جنة الله التي وعد المؤمنين! ليس جمال المنطقة هنا من نوع الجمال الذي شهدته في «بريست ليك» على الرغم من أن التكوين واحد: بحيرة حولها جبال مشجورة بالصنوبر، ولكن «بريست ليك» جمالها في حوشيتها وعزلتها، وأما هنا فمقصد كثير من الزائرين؛ ولذلك تجد الطرق ممهدة معبدة، وتجد مطعما ودكانا يبيع الصور التذكارية، وتجد الحكومة قد أعدت مكانا للطهي ومكانا للأكل وهكذا.
تركنا السيارة عند حافة الغابة، وتخللنا نحو مسقط ماء مشهور؛ بين حين وحين يصادفك في قلب الغابة «كابينة» يسكنها مصطاف، ليست الكابينات متلاصقة بل ليست متقاربة، إنما تبعد الواحدة عن الأخرى مسافة بعيدة، ترى الكابينة قد أحاط بها الشجر، بل تراها هي نفسها خضراء كأنها نابتة من الأرض كالشجر الذي حولها، فتحسبها عشا للعصافير ... أأقول «تحسبها» ...؟ بل هي عش للعصافير، فانظر من ذا خرج من هذه الكابينة عند مرورنا ... فتاتان رائعتان هما عصفورتان!
الأرض داخل الغابة طرية بما عليها من بلل؛ الدنيا كلها من حولنا مبللة ببقايا الندى أو بأوائل المطر ... سرنا محاذين نهيرا متدفقا سريع الجريان جدا، رائق الماء كأنه البلور، ظهرت الصخور على قاعه كأنها تحت لوح من زجاج ... وبعد ميل أو ميل ونصف قطعناها في صعود تدريجي داخل الغابة، وصلنا مسقط الماء؛ فهذا النهير يسقط ماؤه في الفضاء نحو ستين قدما خارجا لا تدري من أين؛ لأن السحاب الذي يلف قمة الجبل يخفي أجزاءه العليا كلها، فلا تستطيع أن تتعقب النهير إلى منبعه بالنظر، فيفجؤك ماؤه متدفقا من بين الصخور والسحاب، هابطا في الهواء ستين قدما، محدثا بذلك صوتا يملأ السمع.
وعدنا إلى بلمان ساعة الغروب، فكأنه آدم نزل من الجنة إلى الأرض.
صفحه نامشخص