الظاهر أن الفنادق هنا متشابهة التأثيث والإعداد، فغرفتي في هذا الفندق الذي نزلت فيه شديدة الشبه بالغرفة التي نزلت بها في نيويورك، وحسبي الآن من أوجه الشبه وضع الإنجيل على المكتب في كلتا الغرفتين، إنني لأرجو ألا تفلت مني أمثال هذه الأشياء الصغيرة الدالة على مغزى كبير؛ فها أنا ذا أرى الأدلة تتراكم على أنني إزاء شعب متدين، وقد كنت أظنه غير ذلك ... ترى ماذا يقول زائر أمريكي في مصر لو نزل في فندق سميراميس مثلا، فوجد القرآن موضوعا أمامه في كل غرفة؟
لم أكد أستقر في غرفتي دقائق حتى دق التلفون، والمتكلم هو الدكتور «ف» أستاذ الفلسفة بالجامعة يهنئني بسلامة الوصول، ويقترح اللقاء إذا لم يكن عناء السفر يحول دون ذلك، فرحبت بزيارته ... الدكتور «ف» من الذين أكسبتهم الدراسة الفلسفية تنبها ذهنيا وصحوا فكريا تراهما في لمعة عينيه؛ فالدراسة - فيما شهدت من خبرة الحياة - إما أن تؤدي بصاحبها إلى هذا التنبه والصحو، وإما أن تميل بصاحبها نحو الفتور والذهول ... والدكتور «ف» من الصنف الأول، رحب بمقدمي وأخذني في سيارته إلى مكتبه بالجامعة، ومكتبه هناك هو نفسه مكتبته - كما هي الحال بالنسبة للأساتذة جميعا - فجدران المكتب الأربعة مغطاة برفوف الكتب؛ مكتبه هو مكان عمله ودراسته على السواء؛ لكل أستاذ مثل هذا المكتب الذي وضع فيه عدته من كتب وأوراق، فإذا قيل للأستاذ أن يتصل بطلابه كان للقول معنى؛ لأنه مستقر هناك، وللطالب الذي يريده أن يسعى إليه في مقره ذاك؛ فهل يمكن أن أرى ذلك وألا أقارنه بحالنا في القاهرة؟ أساتذة الفلسفة جميعا محشورون في غرفة واحدة لا تسع إلا منضدة واحدة! أين يجلس الأستاذ ليعمل؟ أين يجلس حتى لا يجد نفسه مضطرا إلى العودة مسرعا إلى منزله بعد إلقاء محاضراته؟ أين يجلس ليقال له بحق أن يتصل بطلابه؟ إننا نقول كلاما لا نعنيه.
تحدثت مع الدكتور «ف» في المحاضرات التي سألقيها عن الفلسفة الإسلامية، فوجدت أن الناس يرقبون هذه المحاضرات ليعلموا بها ما لم يكونوا يعلمون عن الإسلام وعن العرب وعن الشرق الأوسط بصفة عامة؛ كثير من الأساتذة رتبوا حضورهم هذه المحاضرات، بل كثير من أفراد الناس خارج الجامعة طلبوا الحضور. لقد أعلنت الجامعة قبل حضوري عن محاضراتي في الفكر العربي، فكان ذلك حافزا لكثيرين جدا من الناس أن يعدوا أنفسهم لها.
الثلاثاء 22 سبتمبر
خرجت مع الصباح الباكر، فوجدت مدينة كولمبيا على نمط واشنطن مع الفارق في اتساع الرقعة؛ فهي مبان وطيئة نظيفة، وشوارع غاية في الاتساع، وكل منزل من منازلها - ومنازلها خشبية مطلية باللون الأبيض - تحوط به الحدائق؛ فأمام المنزل حديقة وخلفه حديقة، وله حديقة في كل من جانبيه؛ لهذا تنظر - خصوصا إذا نظرت من رابية عالية - فترى المنازل البيضاء تطل من الخضرة إطلال الزهور البيضاء في بستان فسيح.
دق التلفون في غرفتي عصرا، وإذا بالمتكلم عربي يقول: الحمد لله على السلامة يا أستاذ، أنا فلسطيني هنا وأريد رؤيتكم؛ فنزلت فورا، وجدت شابين، هذا الفلسطيني يصحبه لبناني؛ أما الأول فممن شتتت الحوادث الأليمة أسرته في فلسطين، فجاء إلى هذه البلاد يسعى نحو الرزق والعلم في آن معا، إنه يعمل في الصيف ليكسب قوت العام ونفقات الدراسة خلال أشهر الشتاء والربيع، إنه رجل بكل معاني الرجولة الصلبة القوية؛ وأما زميله اللبناني فعلى كثير جدا من رعونة الصبيان مع أنه لا يصغر الفلسطيني عمرا، حياته ميسرة نسبيا، وقد علمه اليسر أن يتميع. على كل حال فرحت بلقائهما والحديث معهما ساعة من زمان؛ إن إخاء العربي للعربي أمر لا يشعر به الإنسان على شدته وقوته إلا في مطارح الغربة، فعندئذ يبدو في وضوح كيف أن العربي والعربي شقيقان، بالقياس إلى سائر الشعوب.
كنت في غرفتي في المساء أقرأ وأكتب، وإذا بي أسمع دقا شديدا على باب الغرفة المجاورة لغرفتي، وأسمع نداء عاليا، ثم تحول الدق إلى باب غرفتي، فقمت وفتحت الباب، وكنت إذ ذاك أرتدي ملابس النوم (البيجاما) وإذا بي إزاء ثلاثة رجال في حالة من المرح الشديد، ولعلهم أرادوا - مدفوعين بمرحهم هذا - أن يشركوا سواهم معهم؛ فلما فتحت الباب صاحوا: ها أنت ذا يا جو؛ وأخذوا يجذبونني من يدي جذبا لم أقو على مقاومته، فجعلت أرجوهم أن يتركوني لعملي، لكنهم يمضون في شدي قائلين: تعال هنا يا جو، حتى أخرجوني أمام غرفتي؛ ولما رأوا على وجهي علامات الانقباض - مع أنهم كانوا يتوقعون مني ضحكا ومرحا - تركوني قائلين بعضهم لبعض: الظاهر أن ليس له نصيب في حياة المرح ... عدت إلى غرفتي وأقفلتها، لكني لبثت مدة طويلة لا أستطيع استئناف ما كنت أكتبه.
الأربعاء 23 سبتمبر
اليوم مشرق جميل، كل شيء يبدو أمام عيني رائعا، وأحس قلبي ينبض نبضة النشوة والفرح؛ قمت مبكرا وأخذت أتطلع من وراء النافذة، وللنافذة غطاء من السلك وقاية من البعوض؛ كل شيء مشرق راقص، وفتحت الراديو لأسمع موسيقى فتضيف إلي نشوة هذا الصباح.
وألقيت اليوم أول محاضراتي عن الفلسفة العربية؛ جعلت المحاضرة تحليلا لخصائص الفكر العربي، إن كانت له خصائص تميزه عن فكر الغرب، وأحسست بنجاح وثقة في نفسي وفيما أقول ... وكان بين الحاضرين السيدة «ش» التي استرعت انتباهي منذ اللحظة الأولى بل قبل اللحظة الأولى؛ لأنها جاءتني قبل بدء المحاضرة تسألني عن المكان الذي سأحاضر فيه. عرفتني بنفسها تعريفا وافيا وطلبت مني أن أنطق لها باسمي لتنطقه صحيحا، وقالت: إنها هي وزوجها - وهو ضابط في مستشفى عسكري بسلاح الطيران - قد وضعا خطة حياتهما على أن يقيما بمصر حينا، وهما يريدان أن يعلما عن مصر كل ما يمكن العلم به؛ عليها علامات الذكاء، ولا بد أن أضيف إلى ذكائها جاذبية الأنوثة فيها؛ وكل شيء في ثيابها وحليها ينم عن ذوق جميل ... الظاهر أنه مهما كان الكاتب صريحا فلا بد أن تنقصه الصراحة؛ لأنني أشعر برغبة في أن أخفي شيئا من شعوري، وهو أنني اغتبطت في نفسي لما وفقت إليه من طلاقة لسان، وحضور بديهة في المحاضرة الأولى لأظفر بالرضى من هذه السيدة التي جعلت هدفها مصر.
صفحه نامشخص