جعلت اليوم مقصورا على زيارة متحف الفن الحديث ... وهو بناء أقيم هو نفسه على أساس من فن البناء الحديث! فتراه بسيطا غاية البساطة: الجدران والسقوف كلها بيضاء ساذجة البياض، فلا زخرفة ولا نقش، والغرف يفتح بعضها على بعض من غير أبواب خشبية، والأرض بلاط منقوط بغير غطاء، والمقاعد كنبات بسيطة في أواسط الغرف.
طلعت بالمصعد إلى الدور الثالث لأبدأ من أعلى فنازلا، فوجدت جزءا كبيرا من الطابق الأعلى مخصصا لفنان واحد هو «ليجيه»، وهو فنان حديث، تواريخ صوره تقع في الثلث الأول من هذا القرن على نحو التقريب، وله طريقة في الرسم واحدة متميزة متكررة في كل صوره على كثرتها، ولا تراها عند فنان سواه، وهي أن يرسم الصورة في خطوط وأقواس يملؤها ببقع من اللون، ويصل الأجزاء بعضها ببعض على نحو يجعل الصورة في النهاية - إن كانت صورة إنسان مثلا - تبدو كأنها إنسان آلي، لكن الصورة مع ذلك تكون تركيبة لونية تستوقف النظر، تنظر إليها فتتمنى - مثلا - أن تكون لك سجادة بهذا التلوين وهذا التكوين.
أقول هذا لأن هذه الفكرة طافت بذهني وأنا أتفرج على رسوم «ليجيه » وهي: لماذا يضحك الناس من هذا الفن الحديث مع أنهم أدخلوه في أذواقهم مرغمين أو مختارين؟ أدخلوه في أذواقهم على نطاق أوسع جدا مما يظنون ... انظر إلى السجاد الذي نسميه في مصر بالسجاد الإفرنجي، ما رسومه؟ أليست تكعيبات وأشكالا لا غاية منها سوى أن تتناغم ألوانها؟ ثم انظر إلى كثير جدا من الإعلانات؛ أعني الإعلانات الجيدة الرسم الملفتة للنظر، أليست قائمة في معظم الحالات على أسس الفن الحديث من أن المصور يهمل التفصيلات ويعنى بوقع الرسم على عين الرائي وفكره ونفسه؟ ثم انظر إلى كثير جدا من الأثاث، كيف يتخذ أحيانا أشكال الدوائر والخطوط على نحو هو بذاته اتجاه الفن الحديث، وانظر إلى ملابس السيدات وكيف تكون زخرفتها في حالات كثيرة على أساس من ذوق الفنان الحديث وهكذا وهكذا ... روح الفن الحديث قد تغلغلت في صميم حياتنا، ومع ذلك أسمع الناس من حولي في هذا المتحف، فلا أسمع إلا السخرية من الاتجاهات الحديثة، كأنها ليست في ثيابهم وفي أثاثهم وفي بنائهم وفي زخارفهم على اختلافها.
وسأذكر من صور «ليجيه» ثلاثا، ولو أنها ليست أحسن من سائر صوره، فكلها كما قلت روح واحدة ... له صورة كبيرة اسمها «لاعبو الورق»، وأخرى اسمها «الزفاف»، وثالثة «ثلاث سيدات ساعة الإفطار» ... ولو سألنا: لماذا يركب «ليجيه» أجزاء الصورة على هذا النحو الآلي؛ لما أخطأنا الجواب إن قلنا: لأنه يصور المدنية الآلية التي نعيش فيها.
نزلت من الطابق الأعلى إلى الطابق الأوسط على سلم رخامي أسود جميل بغير زخرفة ولا زركشة، ووقفت وسط السلم لأنظر إلى صورة لبيكاسو علقت هناك، هي «فتاة أمام المرآة» ... بالطبع لا تنتظر أن ترى فتاة واضحة الأجزاء والمعالم أمام مرآة واضحة الشكل والحدود، بل لا تنتظر أن ترى الصورة في المرآة شبيهة كل الشبه بالفتاة، وإلا لما كان بيكاسو من رواد الفن الحديث، إنما هي بناء لوني قائم على شكل تقريبي لفتاة مكررة مرتين بمزيجين مختلفين من اللون، بحيث يكون في النهاية نغم لوني، وهذا هو أساس الفن الحديث كله.
دخلت الطابق الأوسط فوجدته زاخرا بصور الفن الحديث على اختلاف مدارسه؛ كنت اليوم نهما جشعا، فكدت أدرس كل صورة بقدر ما وهبني الله من قدرة على الدراسة؛ وعلى كل حال فالمهم في استعراض الآيات الفنية هو أن أنظر إلى القطعة الفنية لأحس نشوة قوية أو ضعيفة، فليس المهم في التمتع بالفنون أن يتفلسف الرائي أو المستمع ... أقول إني كنت نهما جشعا، فقضيت في هذا الطابق من البناء أربع ساعات كاملة ... دخلت أول غرفة على يميني، فكانت أول صورة هي «مراكب الصيد» ل «سيورا» الفنان الفرنسي؛ هي فاتحة في لونها هادئة في نغمها، إنها ليست ملونة بالفرجون، بل هي نقط تتزاحم أو تتباعد لتعطي اللون المطلوب، ومن ثم تسمى هذه المدرسة بمدرسة الفن المنقوط، فإذا لاحظنا أن «الصناعة» جزء أساسي في تقدير القطعة الفنية، وأن الصناعة في هذه الصورة قد بلغت الغاية في الإتقان؛ عرفنا ارتفاع قدر هذه الصورة، و«سيورا» من الانطباعيين الذين يتركون حدود الأشياء في رسومهم مبهمة؛ لأن أثر المرئي في الذهن يستحيل أن يكون إلا مبهما هكذا.
وانتقلت إلى الصورة التي بعدها؛ ولا داعي لقراءة اسم صاحبها، فقد بلغت الآن من المعرفة ما يدلني على أنه «فان جوخ» الهولاندي الذي أصبحت الآن لا أخطئ له صورة؛ فأنا أعرفه على الأقل بألوانه التي تميل إلى الاصفرار دائما، مهما يكن موضوعه ... وانتقلت إلى الصورة التي بعدها، وهي لفنان بلجيكي اسمه «إنسور» لم أكن قد رأيت له صورا قبل ذلك، الصورة تمثل بضعة أشخاص على هيئة الأمساخ؛ فالوجوه بشعة أقرب إلى وجوه الحيوان، لكن لا، فوجوه الحيوان لها جمالها: وجه الحصان مثلا ووجه الكلب ووجه القط، هذه وجوه جميلة، أما الوجوه التي في الصورة فأمساخ مرذولة، واللون الغالب على الصورة هو الأحمر الناري ... ما هذا؟ هؤلاء ناس لا كالناس الذين تراهم في الطريق، بل هم الناس كما يراهم هذا الفنان؛ فالإنسانية في رأيه هي بهذه البشاعة، واللون الناري يتركك في جو يوحي إليك بالجحيم، وما الجحيم إلا هذه الحياة التي هؤلاء الناس هم أحياؤها ... إذا كنا نبيح لكاتب مثل «جوناثان سوفت» أن يصور الإنسانية في صورة بشعة (في كتابه رحلات جلفر) شاءتها له كراهيته للبشر ، فلماذا لا يكون للمصور هذا الحق نفسه؟ ليس الفنان آلة تصوير، لكنه فنان يتأثر ويعطيك الأثر.
وتتلوها صورة لرجل من أتباع مدرسة بيكاسو هو «جوجان»، في الصورة ثلاثة صفوف من أشياء؛ ففي الجزء الأعلى ثلاث قطط، كل قطة تشرب اللبن من وعاء أمامها، وفي الجزء الأوسط ثلاث كئوس، وفي الجزء الأسفل ثلاث مجموعات من الفاكهة ... وقد يسأل من لم يألف الفن الحديث: ما هذا الكشكول العجيب؟ قطط وكئوس وفاكهة في صورة واحدة؟! والجواب هو أن الصورة فيها من هذه الأجزاء زخرف جميل، وقد يعود السائل فيعترض قائلا: لكن ما هكذا تكون القطط في الواقع ولا الكئوس ولا الفاكهة! فلماذا يرسم المصور هذه الأشياء على غير حقائقها الواقعة؟ والجواب دائما هو: ليس الفنان آلة تصوير تحاكي الواقع في أمانة، بل مهمته أن يقدم للعين نغما لونيا كما يقدم الموسيقي للأذن نغما صوتيا.
وأول نظرة للصورة التي بعدها كانت كافية لأقول من فوري هذا «سيزان»: مجموعة من الفاكهة، سيزان لا يرسم التفاحة - مثلا - لكي يقلد برسمه تفاحة الطبيعة، بل يرسم التفاحة ليجعلها مدارا لبنائه اللوني، المهم عنده - كأي فنان حديث - إبراز خصائص اللون.
وانتقلت إلى غرفة أخرى، فكانت أول صورة من رسم «إنسور» الذي تحدثت عن «أمساخه البشرية» منذ قليل؛ هذه الصورة الثانية اسمها «القديس أنطوان» هي غاية في الجمال، وترى سماءها مليئة بالبقع اللونية، فإذا ما أمعنت النظر في هذه البقع وجدتها شخوصا مختلفات، والعجيب هو أن الفنان يستعمل في هذه الصورة أيضا اللون الأحمر، وهو نفس اللون الذي استعمله في رسمه للأمساخ البشرية، ترى هل يقصد إلى القول بأن مادة الشر هي نفسها مادة الخير، والذي يجعل الخير خيرا والشر شرا ليس هو اختلاف العنصر بقدر ما هو اختلاف النسبة؟ فالطعام خير لكنه كذلك قد يكون شرا، والمرأة والشراب ... حتى القراءة قد تنقلب شرا إذا ملأت رأس القارئ بالضلال ... لا أدري إن كان تفسيري هذا مقبولا، لكني أسارع فأسأل: مقبول ممن؟ إن في ميدان التأويلات الفنية لمتسعا للجميع.
صفحه نامشخص