وكذلك أطلت الوقوف والدراسة عند جماعة «الانطباعيين» لدرجة أني بعدئذ أخذت أختبر نفسي، فأحكم على الصورة لأي فنان هي قبل أن أقرأ اسم فنانها، وكثيرا ما كنت أصيب الحكم؛ لأني ركزت انتباهي في الخصائص التي يتميز بها كل من هؤلاء «الانطباعيين»: «ديجا» و«رنوار» و«سيزان».
هدني التعب من كثرة المشي والوقوف؛ فقد كنت أستخسر الجلوس دقيقة واحدة حتى أستغل وقتي فلا يضيع ... لكن هدني التعب، وأحسست الألم في عظامي وعضلاتي حتى أوشكت أن أفقد القدرة على الحركة ... ودخلت مطعما للغداء، فجلست أمام النضد الكبير، وجلست على المقعد المجاور لي سيدة شديدة الجاذبية تستلفت النظر بهندامها وعطرها، وما كادت تأتي المناولة من خلف النضد لتسألها ماذا تريد حتى أسرع مناول وسمعته يهمس للمناولة أن تترك له هذه الزبونة يخدمها هو؛ فتركتها له وهي تبتسم ابتسامة الفاهمة؛ وجاء المناول وانحنى قليلا كأنما هو ينصت لما تطلبه الزبونة، والورقة والقلم في يده على هيئة من يكتب ما يملى عليه، لكن المرأة بدأت حديثها للمناول همسا، تقص له في اهتمام أمرا خاصا بينهما؛ وكان المناول يسمع في انتباه شديد ويدعي أنه يكتب «طلبات الزبونة» في الورقة التي بيده، ثم يذهب ليعود فيسمع جزءا آخر، وهكذا.
الثلاثاء 22 ديسمبر
جعلت غايتي اليوم زيارة «قاعة فلب التذكارية» وهي معرض للفن الفرنسي والأمريكي الحديث ... وقاعة فلب هذه منزل كبير جيد التأثيث - أعني أنه ليس في بنائه على هيئة المعارض - علقت على جدرانه في غرف الطابق الأرضي والطابق الأول صور لعدد كبير من الفنانين، لكل فنان غرفة على وجه التقريب، وكان مسلطا على كل صورة ضوءان: من أعلى ومن أسفل، وهذه الأضواء هي كل ما في البيت من إضاءة؛ ولذلك فالضوء خافت يتناسب مع ما فرش به المنزل من أثاث وسجاجيد، وتعاون كل شيء هناك على أن يجعل من «القاعة» دارا هي الفتنة كلها والسحر كله.
للفنان الفرنسي «موريس أوترلو» معرض يملأ غرفتين، وهي كلها صور رسمها بين عامي 1903م و1914م، وهي فترة تسمى في حياته بالفترة البيضاء؛ لأن اللون الأبيض غالب على الصور كلها، وكلها تقريبا رسوم لشوارع وكاتدرائيات في باريس ، وهو من رجال المدرسة الانطباعية في الفن؛ ولقد أعجبت أشد إعجاب بكل صورة من مجموعة صوره ... كنت أقف أمام كل صورة وأتخيلها قد علقت على هذا الجدار أو ذاك من منزلي بالقاهرة، فأتصور أنها تكسب البيت كله جمالا وروعة؛ فالمزيج اللوني في الصور غاية في الاتساق، وتشعر بالنغم اللوني شعورا قويا، مما يؤكد وجهة النظر الجديدة في فن التصوير، وهي أن تكون «موسيقى للعين».
انتقلت إلى غرفة بها مجموعة لفنان حديث هو «براك» يغلب على صوره اللون القاتم: الأسود أو الرمادي القاتم أو البني الغامق، وتلوينه يشبه أن يكون حائطا مطليا بالجير ... جلست على مقعد أمام إحدى صوره، فيها صورة منضدة معوجة القوائم متموجة الأجزاء في غير انتظام، ولا تدري ماذا على المنضدة؛ فعليها بقع لونية مختلفة، تتبين خلالها سكينتين ... إنني أشعر بدافع يدفعني أن أقوم لأقرأ اسم الصورة أسفلها، وهذا معناه أني لم أتشرب بعد بروح الفن الحديث؛ لأنني لو تشربت هذا الفن لما اهتممت أبدا ماذا يكون اسم الصورة، خشية أن أنخدع فأظن أن اسمها دال على ما تصوره، مع أنه لم يعد الفنان الحديث يصور بصورته شيئا خارج نفسه؛ الصورة الحديثة مزيج من ألوان يحدث نغما منظورا، ومن ثم فليس هناك ما يمنع الفنان أن يرسم المنضدة معوجة القوائم متموجة السطح؛ لأنه لا يصور منضدة، إنما يتخذ من المنضدة وما عليها تكأة يعتمد عليها في مزج الألوان كما توحي بذلك نفسه ومزاجه وذوقه الخاص.
وكذلك أعجبتني صورة ل «براك» فيها كرسي من كراسي الخيرزان مقعده خشبي، والكرسي منظور إليه من أعلى، وعلى قرصه الأحمر دورق وكوب، ويتدلى على المقعد ما يشبه الحبال المعقدة بعقد بيضاء، ويمتد على جانبها فرع من ورق الشجر الأخضر ... الصورة لا تمثل شيئا من الواقع، هذا بديهي ظاهر، وإذا فهي مزيج لوني، وعلى الرائي أن ينظر إليها من هذه الوجهة وحدها ... وسيجدها مزيجا لونيا بلغ الغاية من جمال التناسق والتناغم .
ودخلت غرفة رابعة فيها مجموعة لفنان حديث اسمه «بول كلي» فلم أستسغ منها صورة، على الرغم من رياضتي لنفسي على استساغتها، على أنه قد لفت نظري أسماء صوره؛ فصورة اسمها «الأغنية العربية»، وأخرى اسمها «ممثل المسرح الشرقي».
وغرفة خامسة دخلتها فرضيت عن نفسي حين وجدتني أنظر إلى أول صورة فيها وأقول: لا بد أن تكون هذه للفنان الأمريكي «هومر»، ثم أجدني قد أصبت، وإلى الصورة الثانية وأقول: وهذه تشبه فن «إنس» فأصيب الحكم مرة أخرى.
ودخلت غرفة سادسة فيها صورة ل «فان جوخ» و«رنوار» و«ديجا»، وها هنا أيضا لم أخطئ الحكم في صورة واحدة؛ فقد كنت أحكم على كل صورة قبل أن أقرأ اسم صاحبها، محاولا أن أستغل خبرتي ودراستي في تمييز الأعمال الفنية بخصائصها.
صفحه نامشخص