ألا إن هذا هو الفرق بين الإنسان والحيوان، ولا خير في عقل لا يعلو بالعاقلين، ولا شرف في فطانة تقعد بالفطنين، ولأضرب لك مثلا آخر، إنكم يا بني آدم مع الحيوان أشبه شيء بالبندول إن أرسلته على حاله أشبه الحيوان الأعجم في إرساله، وإن حركته أخذ يهتز حركات إلى يمينه أو شماله، فحال الحيوان كحال البندول عند وقوفه، إن لها غرائز لا تتعداها وطرائق لا تنساها.
فأما أنتم فأطلق سراحكم، فاهتززتم ذات اليمين وذات الشمال، لما لكم من العقل الوافر، والفكر الحاضر، فحركة اليمين تمثل الفضيلة والشرف، وحركات الشمال تشبه الخسائس والرذائل بالترف، فأنتم خلقتم الأكاذيب، وأخلفتم المواعيد، وخنتم العهود، وخضعتم للملوك والأغنياء، وحبستم الأموال، وأغليتم المهور، وصنعتم الفجور، ووشمتم الجلود، وخرقتم الأنوف بالحلي، وفتحتم المنافذ في الآذان للأقراط، وهكذا مما أطال به سبنسر في كتاب التربية بأنواع الزينة الجاهلية، وتغاليتم في المآكل والمشارب والملابس، وأفرطتم في السلاح والكراع والقتال، وعبدتم الصور والتماثيل، وأخذتم العادات المرسومة عمن لا يعقلون من جهال الأمم.
إذا فعلتم هذا كله فإنكم من أهل الشمال، تنزلتم عن الحيوان، وأصبحتم من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وكانت حركات اهتزازكم إلى حال أسفل من حال الحيوان.
بئس ما يصنع الإنسان، إنه كان ظلوما جهولا، قتل الإنسان ما أكفره، إن الإنسان لظلوم كفار، إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فإذا كان التحاب والتواد والفضيلة وإغاثة الملهوف وصنع الجميل وإغماد السيوف، ومساعدة الأمم القوية الضعيفة والعالمة الجاهلة، واتحادهم وتضافرهم على استخراج المنافع الأرضية والحكم الكونية، فإنكم بذلك تبلغون مراتب الإنسانية، وتربئون بأنفسكم عن حال الحيوانية، وتكون حركاتكم ذات اليمين.
فبلغ قومك أيها الإنسي ما قلنا، وأفهمهم أن حركة بندولكم الإنسانية هي اليوم شمالية، وقد آن أن ترجع يمينية، فيسود السلام والوئام، لقد هديتم النجدين وخيرتم بين الطريقين، وقد سرتم في شرهما طريقا وأضلهما سبيلا، فقد آن الأوان واستدار الزمان، لتكونوا على صراط مستقيم، كما خلقتم في أحسن تقويم.
ثم أشارت إلى ذلك الشيخ الأعظم السيد «جامون» وقالت إنه سيلقي عليك قولا فاستحضر وبلغه لأهل الأرض لعلهم يعقلون. ثم غابت الحسناء عن الأبصار، وولت والقلوب معها، بعد أن قام الجمع وودعها.
الفصل التاسع عشر
مجلس الحكماء وضرب الأمثال الحسية للأمور العقلية
عند ذلك أشير علي بالرياضة والنزهة في بعض نواحي الأرض الكوكبية مع فتى يرشدني جميل المحيا، حسن الشكل مرصع الحلل بالدرر الحسان، فمشى ومشيت، حتى إذا أشرفنا على معهد علمي، وناد حكمي، يجتمع فيه حكماؤهم ويتناجى فيه شيوخهم، فألفيته مكانا واسع الأرجاء، بديع البناء، مرفوعا على العمد، وهو من جواهر عجيبة، تفوق ما نعرفه في أرضنا.
فمنها ما هو كالياقوت الأحمر، ومنها ما هو كالزبرجد الأخضر الزاهر، تكاد بهجتها تأخذ بالأبصار، ومنها ما هو كالعقيق وكالمرجان، ومنها ما هو الدر المشرق ضياؤه الزاهر إشراقه، وتلك العمد تختلف أطوالها باختلاف أوضاعها، إنها تحمل سقفا مرفوعا كالقبة السماوية، مشرقا بالمصابيح المرتبة أوضاعها المزينة أشكالها، كوضع نجوم السماء وترتيبها وأحجامها المنظورة، وبينهن مصباح أشبه القمر في تربيعه الأول قد استضاء نصف دائرته.
صفحه نامشخص