حياتها كلها وقت فراغ، تملؤها بالحديث عن أي شيء، تتربع فوق الشلتة فوق السجادة في الشمس، إلى جوارها الصينية عليها وابور السبرتو الصغير من فوقه الكنكة، ترشف القهوة السادة من الفنجان المزركش رشفة رشفة، تمصمص شفتيها، تلعق بقايا القهوة، تحكي حكاياتها من أول ما ولدتها أمها. بعد أن يفرغ الماضي من الحكايات تنظر إلى المستقبل، تفرغ الفنجان فوق الصحن حتى يفرغ تماما من بقايا القهوة، ترفعه بالقرب من عينيها وتقرأ الغيب، ترى مستقبلها على شكل خطوط سوداء متعرجة مرسومة بنتوء البن. بعد أن تنتهي من المستقبل تعود وتتذكر الماضي، تحكي عن عريسها محمد الشامي ليلة العرس، تمص شفتيها وتتنهد: ماحصلش حاجة، ثم تتذكر المرحوم أباها، تدعو الله أن يغفر له ذنوب بما فيها الذنب الأكبر، إخراجها من المدرسة وهي صغيرة وتزويجها، وتتنهد تنهيدة عميقة: ربنا يسامحه ويبشبش الطوبة اللي تحت رأسه.
طنط نعمات أقرب إلي من طنط فهيمة، كانت تفلت منها لحظات من الحنان، أبكي في الليل حين أستعيد صوتها الحزين، كان هذا البيت الكبير مشبعا بالحزن.
ينتقل الحزن إلي كأنما بالعدوى، أتنفسه في الهواء الذي يتنفسه أهل البيت.
أرى خالي زكريا جالسا في الصالة يحملق في الفراغ ... أو غرفة أبيه الميت أو أمه الميتة، يشرب السيجارة وراء السيجارة حتى اصفرت أسنانه وأصابعه.
خالي يحيى رغم القهقهة العالية تجمع الحزن فوق ظهره، أصلع، له سنام الجمل، يمشي بظهره الأحدب فوق رصيف محطة القطار، يهرول بساقيه المقوستين داخل سروال متهدل، يصعد سلما طويلا رفيعا، يصل إلى الساعة الكبيرة المعلقة فوق المحطة، يحرك عقاربها المتوقفة ويغمز للبنات بطرف عين، أعاد للزمن حركته.
كان هذا الحزن منبعا من منابع الإلهام، أيقظ حاستي الأدبية وجعلني أكتب، الخادمة شلبية، أهي بطلة روايتي أغنية الأطفال الدائرية؟ خالي يحي، أهو ذلك الرجل العجوز في قصة ليست عذراء؟ عمتي رقية، أهي زكية في رواية الإله يموت في حضن النيل، أو موت الرجل الوحيد على الأرض؟ ربما طنط فهيمة هي تلك الضابطة أو الناظرة، وطنط نعمات هي تلك المقهورة المهجورة في إحدى رواياتي.
تركت هذا البيت الكبير الحزين لأدخل القسم الداخلي في مدرسة حلوان الثانوية للبنات. مرت السنون دون أن أعود إليه لألقي نظرة لأستعيد الذكرى، أحب استعادة الذكريات، الصور والأماكن القديمة، إلا هذا البيت، لم أعد إليه، الأحزان تحرق القلب، تحرق الذاكرة، أمي ترد بعبارة واحدة حين أسألها: ليه اتجوزتي يا ماما؟ تقول: علشان اهرب من بيت جدك شكري.
بيت الأحزان ... العيون تتحول إلى رماد، الموت يخطف الواحد وراء الآخر، يتراكم الحزن في كيس داخل العنق، داخل الصدر. مات خالي زكريا شابا بلا أبناء بلا بنات، لم يترك وراءه شيئا، مات خالي يحي، لم يذكره أحد، عاشت طنط فهيمة منقوعة في الحزن مع زوج يهددها بالطلاق حتى ماتت، طنط هانم ماتت لم تأخذ معها عمارة من العمارات، آخر ما رأيت منهم طنط نعمات، أهو جدي أتعس هذا البيت؟ نظامه العسكري؟ السلطة الأبوية تحطم أقرب الناس إليها؟ الطبقة البرجوازية تتهاوى مع نهاية الحرب العالمية الثانية؟ النظام الطبقي الأبوي يجري في التاريخ، السم يجري في الدم، في عروقي، في الشرايين، أتنفسه في الهواء داخل البيت الحزين.
شتاء عام 1959م، في عيادتي الطبية في ميدان الجيزة، دق جرس التليفون، جاءني صوتها عبر الأسلاك: إزيك يا دكتورة نوال. - مين؟ - مش فاكراني يا جارية ورور؟ - طنط نعمات؟! إزيك يا طنط؟ إزي صحتك؟ - نحمده، ولا يحمد على مكروه سواه. - ياه! لسة فاكرة يا طنط نعمات! - ما بقاش عندي غيره. - مين؟ - حيكون مين غير ربنا؟ - صوتك تعبان يا طنط. - تعبانة يا دكتورة.
صوتها ضعيف، رنة الحزن القديم، حشرجة صدر مملوء بالموت.
صفحه نامشخص