فتحت نافذتي ذات يوم عام 1977م، لم أجد الشجرة الوحيدة اليتيمة، جاء «البلدوزر» فاجتثها من جذورها، أصبح جداران من الإسمنت يرتفعان حتى حجبا الشمس عن نافذتي.
فوق جدار ارتفعت مئذنة طويلة لجامع جديد تحوطها لمبات النيون، فوق الجدار الآخر ارتفعت لوحة «ماكدونالد» تعلوها أيضا دائرة متحركة من اللمبات النيون، في الطابق السفلي دائرة أخرى لشيء جديد اسمه «أنديسكوكلوب.»
كنت أغلق نافذتي بالزجاج والشيش ليل نهار، لكن الأصوات العالية مع الأضواء المتحركة تنفذ إلى جسدي، تختلط فيها رائحة «الهامبرجر» بدقات الديسكو بالتكبير وحي على الصلاة.
في ليالي الأرق المؤلمة فكرت، أهناك اتفاق بين «المؤذن» و«مكدونالد» على طرد النوم من عيني أو طردي من بيتي!
غابة «ديوك» مساحة من الأشجار الخضراء الباسقة، عيناي مشدودتان إلى الخضرة مثل الأرض الجافة تحن إلى الماء، الشمس تنفذ إلى نافذتي، وأنا جالسة أكتب، عامان قضيتهما في هذا المكان البعيد، يبعد عن مصر حوالي عشرة آلاف ميل، غابة «ديوك» هي جزء من الجامعة في تلك البلدة الصغيرة الشبيهة بالقرية، اسمها «ديرهام» في ولاية نورث كارولينا، على الشاطئ الشرقي للمحيط الأطلنطي.
أرفع رأسي من فوق الورقة، أترك القلم لحظة، لماذا أكتب سيرة حياتي اليوم؟ ألحنين إلى عمري الذي مضى؟ هل مضى؟! أم في العمر بقية؟ أتكون الكلمات هي الملاذ الأخير للإمساك بما فات قبل أن يفوت؟ تثبت الصور في الذاكرة قبل أن تتلاشى؟ مقاومة الفناء من أجل البقاء في الوجود أو الخلود؟
كلمة «الخلود» في طفولتي وصباي كان سحر الآلهة، اليوم لم يعد هناك سحر، الكلمة في حد ذاتها تبعث على الضجر، الاستمرار الدائم لأي شيء يؤدي إلى الملل، لولا الموت لأصبحت الحياة أمرا غير محتمل.
أهي محاولة كشف المخبوء في أعماق نفسي؟ تعرية المستور بالخوف من الله، أو الأب، أو الزوج، أو الأستاذ، أو الصديق، أو الصديقة من رفاق الزمالة أو الحب أو الوطن؟
من الطبيعي أن نغضب ونثور على من نكرههم، لكن إذا تحول الغضب أو الثورة إلى من نحبهم، فكيف تكون الكلمات المكتوبة؟
كلمة «الوطن» كنت أتغنى بها في طفولتي وشبابي، كيف تحولت إلى «سجن» أو «رجل بوليس» يطاردني في اليقظة والنوم، يضع فوق رأسه طربوشا أو طاقية أو عمامة أو قبعة، يتكلم اللغة الإنكليزية أو العربية الفصحى أو الدارجة أو الخليجية؟
صفحه نامشخص