لم تكن عندي معرفة بزوار الفجر، سمعت عنهم من شريف حين تزوجنا في ديسمبر 1964م، كان يحكي لي عنهم، كيف يدخلون من الأبواب، كيف يسيرون على الأرض، عيونهم الضبابية وراء النظارات، في أيديهم المختفية تحت القفازات، وجوههم المحلوقة تفوح برائحة الكولونيا، بدلهم المكوية والحذاء اللامع بالبوز المدبب، خطوتهم فوق الأرض مكتومة، في ظلمة الليل جاءوا وأخذوا شريف معهم، أول مرة عاملوه برقة، كان شابا في الخامسة والعشرين عام 1948م، طبيب تخرج بدرجة الامتياز مع مرتبة الشرف، ينتمي لطبقة تشارك الملك في سرقة الشعب، أخرجوه من السجن للتحقيق وقالوا له: «إنت ابن عيلة يا شريف، ابن ناس، سيبك من زمايلك دول شوية شحاتين عملاء موسكو.» أعادوه إلى السجن ثم أخرجوه للتحقيق: «اسمع يا ولد، إنت باين عليك راسك ناشفة نقدر نكسرها بسهولة، وأمامك فرصة واحدة.» قبل أن يكسروا رأسه هرب من السجن، لم يكن يهرب إلا القتلة الخطرون، تحدثت عنه الصحف كأسطورة خرافية، رسموه على شكل شيطان أحمر ينزلق هابطا من النافذة العلوية على جبل طويل ممدود في الفضاء، نشروا له صورة تشبه السفاحين، أصبح الأطفال يرونه في الكوابيس، يهب الطفل منهم في الليل، يصرخ: حوشوا عني العفريت!
خيالي كان يسرح مع حكايات شريف، كالطفلة تستمع إلى قصص العفاريت، أتصورهم كائنات من صنع الخيال، أرواح بلا أجساد كالآلهة، حتى رأيتهم وجها لوجه، كنت وحدي بالبيت يوم 6 سبتمبر 1981م، جالسة إلى مكتبي مستغرقة في الكتابة، رواية جديدة عنوانها: «سقوط الإمام»، دق جرس الباب، لم أسمع الدقة الأولى ولا الثانية، توالت الدقات وأنا غائبة في عالم الإمام يسقط عن العرش ويصحو بعد الموت ليطلب من حارس الجنة مقابلة الله، أفقت على الدقة السادسة أو السابعة، رأيتهم من وراء الشراعة كالأشباح في كوابيس الطفولة، لم أفتح الباب، كسروا ودخلوا، ملئوا حقائبهم بكتبي وأوراقي ، أخذوني إلى السجن وهم يقولون بأدب شديد: «مجرد سؤالين يا دكتورة نوال وترجعي البيت.» •••
كنت غارقة في النوم حين دقوا الجرس، الدقة الأولى سمعها شريف وهو نائم، كان يعرف طريقتهم في دق الأبواب، والساعة التي يأتون فيها بعد منتصف الليل، قبل طلوع الفجر بساعة، ينقضون على البيوت يسوقون الرجال والنساء إلى أماكن مجهولة لا يعلمها إلا الله ووزير الداخلية.
كانت ليلة حالكة الظلمة بلا قمر ولا نجوم، الضباب عباءة سواء تغلف الأرض والسماء، لا هواء إلا صهد الحرارة، صيف القاهرة في شهر يونيو، كنت أحلم أنني أسبح في بحر الإسكندرية، تسبح أمي أمامي، مياه البحر سوداء كالسماء، أعلم في الحلم أنه الليل، وأن أمي ميتة، أراها تسبح رغم الموت، تصعد فوق الأمواج العالية، تضربها بذراعيها وساقيها، أسبح خلفها بقوة، رأسي يشق الماء كأنه الهواء، وأطير فجأة في الجو، أحلق فوق مدينة تشبه القاهرة، البيوت والعمارات شكلها غريب مدببة الأسطح تشبه الأبراج، الأهرامات الثلاثة وأبو الهول فوق الهضبة، نهر النيل تتسع مساحته يشبه بحر الإسكندرية، المياه الزرقاء أراها من الارتفاع الشاهق، أقول لنفسي في الحلم: كيف أسير بلا جناحين، أيمكن أن يسقط جسمي بسبب الجاذبية الأرضية؟ السؤال يدور في رأسي وأنا أرفرف بذراعي، يذكرني أن البشر لا يطيرون، فجأة أفقد القدرة على الطيران، يتهاوى جسدي بطيئا حتى يلامس السطح، أحرك ذراعي في البحر وأسبح، المسافة بيني وبين الشاطئ بعيدة، أمي لا أراها أمامي، والأمواج تعلو كالجبال السوداء، جسدي مربوط بحجر، مشدود إلى قاع البحر ، أصارع لأطلق سراح جسدي، أفتح فمي لأصرخ، صوتي لا يخرج، الشاطئ طويل يتدلى ويهتز، يصلصل الجرس بصوت هدير الأمواج، علم أسود علامة الخطر يرفرف في الهواء، ممنوع النزول إلى البحر، أمي جالسة فوق الرمال داخل فستان أسود، علامة الحداد، أراها في الحلم وأعلم أنها ميتة، أسمعها تقول: إن أبي مات، وأعلم أنه ميت منذ ثلاثة وثلاثين عاما.
الدقة الثانية لجرس الباب، سمعتها وأنا غارفة في النوم، جرس المدرسة يصلصل، وأنا جالسة في الامتحان أمامي ورقة الأسئلة، لا أعرف الإجابة عن أي سؤال، أنفاسي تختنق تحت الماء، باق من الزمن خمس دقائق، العرق يتصبب من جسدي، أعيد قراءة الأسئلة، اللغة تبدو غير مفهومة كالهيروغليفية، سوف أسقط في الامتحان، الموت أهون من السقوط، ألهث وأنا أكتب، ليست هي الإجابة المطلوبة، مجرد خطوط وخربشات لا معنى لها، باق من الزمن دقيقة واحدة، القلم يرتعش في يدي، يضع فوق الورقة ذبذبات، قطرات العرق تبلل الأسئلة، لا أرى الكلمات الجرس يدق. انتهى الزمن المحدد، الأصابع الحديدية تشد الورقة من يدي، أهب من النوم مبللة بالعرق، أتحسس الفراش من تحتي ليس مبللا، لست طفلة تبول في النوم، ليس هناك مدرسة ولا امتحانات، أنا في سريري نائمة وجرس الباب يدق.
رأيت شريف ينهض من سريره، تذكرت فجأة أنه زوجي، تزوجنا منذ ثمانية وعشرين عاما، منذ الزواج في غرفة واحدة فوق سريرين منفصلين، نؤمن بحرية الحركة من النوم كاليقظة، الظلمة حالكة، يبحث عن نظارته فوق المنضدة بجوار السرير، حركته هادئة، لا يتعجل شيئا، يسيطر على الزمن، يوقفه حتى يعثر على النظارة، حتى يخرج من السجن بعد أربعة عشر عاما، أراه من الخلف وهو يمشي، انحناءة خفيفة يحملها فوق ظهره ويمشي، رأس مرفوع فوق عنق قوي لم ينثن أمام حبل المشنقة، خرج من غرفة النوم إلى الصالة، فاردا ذراعيه أمامه كمن يمشي في النوم، خطوته فوق الأرض شبه حالمة، لا يسرع الخطو ولا يبطئ، حركته لا تتغير، وإن دقت أجراس الكون فهو يعرفها، لا شيء جديدا تحت الشمس، سمعته يفتح الباب الخارجي، يتحدث إلى رجال غرباء، الأصوات تسري من تحت جفوني المغلقة كالحلم داخل الحلم.
دخلوا إلى الصالة الصغيرة في شقتنا بالجيزة، جلسوا حول المائدة المستديرة تعلوها صينية نحاسية، أحدهم أحدب يرتدي بدلة غير رسمية، يضع منديلا حريريا في الجيب العلوي فوق صدره ناحية اليسار، تفوح منها رائحة الكولونيا «لافندر»، وجهه محلوق، شعره محلوق، ملامحه محلوقة، لا يكشف عن شيء من نفسه، لا تفلت منه كلمة واحدة تضيء الموقف، صوته مثل آلة تسجيل.
سمعت شريف يسألهم عن هويتهم، هو يعرفهم عن يقين، في كل يقيم ذرة شك، لا شيء مطلق أو كامل، كل شيء نسبي أو ناقص، الحذر أيضا مطلوب، شريف كان أكثر حذرا مني، يعرف بحور السياسة الغويطة، ينقلب الأصدقاء أعداء بين يوم وليلة، وينقلب الأعداء أصدقاء، تتخفى المصالح تحت طبقة سميكة من الشعارات. - حضراتكم مين؟ - البوليس.
كلمة البوليس رنت في أذني وأنا غارقة في النوم، لا أريد أن أصحو، أمسك بذيل أمي وهي واقفة إلى جواري، أول مرة سمعت كلمة البوليس كنت في السادسة من العمر، في مدينة الإسكندرية، سمعت أبي يقول البوليس أمسك سعدية، تصورت أن عمل البوليس هو القبض على الخادمات الهاربات أو اللصوص الحرامية، لم أعرف أن البوليس يقبض أيضا على الثوار وذوي الأفكار الجديدة. - خير إن شاء الله! - الدكتورة نوال السعداوي موجودة؟ - أيوة، هي نايمة. - أهلا يا دكتور شريف. - أهلا بكم. - عندنا أمر بوضع الحراسة على الدكتورة.
كلمة الحراسة تخترق الوسادة فوق أذني، سمعتها لأول مرة منذ ثلاثة وثلاثين عاما، في عهد عبد الناصر كانت الحراسة توضع على أملاك الأثرياء الإقطاعيين والرأسماليين، وأنا لا أملك شيئا، حتى الشقة التي نسكن فيها ليست ملكنا، ندفع إيجارها كل شهر لصاحب العمارة، وهي شقة صغيرة من ثلاث غرف وصالة، ابنتنا منى لها غرفة واحدة، الصالة الصغيرة تشمل الاستقبال ومائدة الأكل. - الحراسة على حياتك يا دكتورة. - حياتي؟! - نعم حياتك. - وماذا يهدد حياتي؟! - ليس عندنا معلومات.
صفحه نامشخص