كنت أسمع هذه العبارة «لا يحمد على مكروه سواه» تتردد على لسان جدتي آمنة وخالتي فهيمة، كانت «طنط فهيمة» تدرس للبنات في مدرسة المعلمات، وأسألها: «مين اللي لا يحمد على مكروه سواه؟»
تتنهد طنط فهيمة تنهيدة طويلة، عيناها الجاحظتان من وراء النظارة البيضاء تزدادان جحوظا، وتقول بغضب: «حيكون مين يعني غير ربنا؟» ثم تنتفض واقفة كأنما لدغها عقرب متمتمة: «أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم.» وتمشي فوق الأرض تدب بكعب حذائها الحديدي، تدق الأرض، تخرق الأرض بكعب حذائها، تنادي الخادم أو الخادمة بصوت حاد: «هات كباية مية يا ولد»، «هاتي الشبشب بتاعي يا بنت»، لا تكف من إعطاء الأوامر للخدم، صوتها في جميع أنحاء البيت، تتقمص شخصية أبيها «شكري بيه»، فإذا ظهر أبوها عند عتبة الباب الخارجي انخفض صوتها إلى حد الهمس، وانكمش جسمها إلى حد الاختفاء في غرفتها وإغلاق الباب.
بيت جدي كان فيللا من دورين في ضاحية الزيتون في مدينة القاهرة، تحوطه حديقة كبيرة لها سور عال، نصفه الأسفل حجر، والنصف الأعلى من الحديد على شكل أعمدة لها نهايات مدببة مثل السكاكين، نمت عليها أشجار «البوجانفيليا» بزهورها الحمراء والبنفسجية، وأشجار الياسمين ذات الزهور البيضاء الصغيرة الفواحة بعطر الياسمين، وأشجار الورد البلدي الأحمر والأبيض برائحتها القوية البنفسجية، وعباد الشمس، الزهور الصفراء الكبيرة، تتحرك أوراقها إذا لامسها شعاع الصبح، تدور معه ويدور حولها كما تدور الأرض حول الشمس. •••
كان هناك جرس معلق أعلى الباب الخارجي الحديدي، يصلصل بدقات عالية إذا انفتح الباب أو انغلق، مع الصلصلة ينطلق الكلب الوولف يجري نحو الباب في نباح حاد، العيون داخل البيت تتطلع من الذي جاء أو من الذي خرج.
حين يخرج جدي تتنفس جدتي آمنة الصعداء، تزحف قدماها داخل «البانتوفلي» الأسود من غرفة نومها إلى الصالة، رأسها ملفوف بالطرحة البيضاء، وجهها أبيض خال من الدم، عيناها رماديتان منطفئتان بلا قطرة ضوء، كالميت يخرج من القبر، تجلس في مكانها المعتاد فوق الكنبة بين يديها السبحة تتمتم بآيات من القرآن.
خالتي نعمات تفتح باب غرفتها وتخرج هي الأخرى شاحبة الوجه مثل أهل الكهف، جفونها متورمة كأنما تبكي طول الليل، ترمقني من بعيد بنظرات صفراء كأنما أنا السبب في تعاستها.
كنت في السادسة من عمري، لا أعرف معنى التعاسة، فوق جسدي أحسها مثل قشعريرة البرد، مثل ملمس الجدران الحجرية، رمادية اللون مثل عيني جدتي آمنة، مثل الصمت الذي يملأ هذا البيت، لا أسمع فيه إلا طرقعات الأوامر الصادرة إلى الخدم، أو قرقعة الريح تضرب النوافذ، أو نباح الكلب مع صلصلة الجرس.
حين تعود خالتي فهيمة من المدرسة تدب في البيت حركة، يدق حذاؤها الأرض، يرتفع صوتها وهي تتشاجر مع أختها نعمات، أختان شقيقتان من أم واحدة وأب واحد، لكن الواحدة منهما تختلف عن الأخرى في كل شيء، لا شيء يجمعهما إلا الكراهية، تتخاصمان فلا تنظر الواحدة إلى الأخرى، فإذا انتهى الخصام بدأ الشجار بلا سبب أو لأقل سبب، مجرد الهواء تحركه واحدة منهما حين تمشي بالقرب من الأخرى، أو ربما هي نظرة من بعيد صفراوية اللون ترشق بها نعمات أختها فهيمة.
طنط نعمات تبتلع على الريق كنكة من القهوة السادة السوداء، تربط رأسها بمنديل أسود، وتجلس على الكنبة الأخرى في مواجهة أمها، وتحملق حولها بالنظرات صفراء من بين الجفون المتورمة.
قد يصدف في هذه اللحظة أن تمر أختها فهيمة أمامها في طريقها إلى الصالة الداخلية، تسقط واحدة من هذه النظرات فوقها، فإذا بها تتوقف، قبل أن تتوقف تدب بكعب حذائها الأرض مثل الجندي في الجيش، تشد قامتها القصيرة وتنفر العروق في عنقها، تضع يدها في خصرها وعيناها جاحظتان من وراء النظارة. - بتبصيلي كدة ليه يا نعمات؟ مش عاجباكي؟ - أيوة مش عاجباني يا فهيمة. - ليه يا أختي؟ مش أحسن منك واللا إيه؟ - أحسن مني في إيه يا أم شنب يا عانس. - العانس أحسن من المطلقات يا نعمات. - فشر، ع الأقل لقيت حد يجوزني ويطلقني، لكن انتي يا حسرة لا حد بيجوزك ولا يطلقك.
صفحه نامشخص