ولذلك نحونا في «أوراق الورد» أسلوبا خاصا، تدور به المعاني الحية في ألفاظها بألين مس وألطفه على وضع مستحكم كما يمس الدم الحي عروقه التي يدور فيها. •••
ولم نقف على اسم كتاب أفرد لرسائل الحب، ولو أنهم كتبوا فيها لجمعت كغيرها وأفردت بالتدوين، بيد أن للقيان الأديبات المتظرفات ضربا من رسائل الحب يكتبنها بالذهب والمسك والزعفران في بديع الحرير الصيني وضروب الديباج، ويجعلن ظروفها طرائف المناديل؛ ويتخذن لها الزنابير الحريرية تربطها، ويطيبنها بالمسك والذرائر،
11
ولا يكتبن فيها إلا «نتف الألفاظ المهلكة ... وملح المكاتبة، وطرائف المعاتبة، وجميل المطالبة، وشكيل المداعبة، وقد جمع أبو الطيب الوشاء من أدباء القرن الثالث كتابا من هذه الرسائل سماه: (فرح المهج) والذي يؤخذ من كلامه أن أكثر ما يكتب في ذلك هو الشعر والمثل وأبيات العتاب والسلام ونحوها، مما هو محفوظ مأثور، فليست هذه من رسائل الحب وإنما هي من وسائله.
وأبعد في الاستحالة من كل ما مر أن يكون في الأدب العربي ديوان من الرسائل الغرامية لكاتب واحد، فلقد كان مثل ذلك في الشعر كالندرة والفلتة، حتى قال الجاحظ: «لولا أن العباس بن الأحنف أحذق الناس وأشعرهم وأوسعهم كلاما وخاطرا! ما قدر أن يكون شعره في مذهب واحد لا يجاوزه، لأنه يهجو ولا يمدح ولا يتكسب ولا يتصرف، وما نعلم شاعرا لزم فنا واحدا ولزومه فأحسن فيه وأكثر.
ولأديبات الجواري رقاع في مكاتبة عشاقهن، بيد أنها لا تذهب إلا مذهبا واحدا في الكلام، فهي في القلم كما هي في اللسان، وليس الكتاب إلا رسولا لا رسالة، وقد نقل صاحب الأغاني في ترجمة «عريب» الحسناء الفاتنة المغنية الشاعرة الكاتبة البليغة المتعشقة التي تكاد تشبه الأديبة الفرنسية الشهيرة المتسمية (جورج ساند) في عشقها واستكلابها ... نقل أنها عشقت صديقا لمولاها يقال له حاتم بن عدي قال؛ فمد عينه إليها «فكاتبها فأجابته» وقال أيضا: إنها لما صارت في دار المأمون، احتالت حتى أوصلت محمد بن حامد وكانت قد عشقته «وكاتبته»، ونقل عن بعضهم قال: وسمعت من يحكي أن بلاغتها في كتبها ذكرت لبعض الكتاب، قال: فما يمنعها من ذلك وهي بنت جعفر بن بحيى؟
12
ثم روى صاحب الأغاني من مجونها وإفحاشها، فلو أن لها رسائل حب لاستطرف منها هو أو غيره، ولكنها كما قدمنا، رقاع في مثل الكلام الذي يتراجعه كل صاحبين إذا تحدثا أو تشاكيا أو تواعدا، وليست من الرسائل المصنوعة المجودة القائمة في فنها على شاعرية الجمال وتفلسف الحب وغزل الروح وخصائص المعاني.
وتبذل بعض أدباء المتأخرين فكتبوا في الرسائل الغرامية يخاطبون فيها بكاف الخطاب المفتوحة. كقول الأديب الشهير ابن سيناء الملك في رسالة: «وأنا والله في أمرك مغلوب، والسبب أني أنا المحب وأنت المحبوب، ولا أتجلد عليك فأغرك وأخون حبك، ولا أتصنع عليك فأغشك، وأغم قلبك ... اعمل ما شئت فأنا الصابر، وافعل كيف شئت فأنا الشاكر، وقل فلي سمع يعشق قولك، والتفت تر آمالي ترفرف حولك، وافعل فأنت المعذور، واستطل فما أنا المضرور بل المسرور، وارجع إلى الواد الذي بيننا فكل ذنب لك مغفور».
وهذا كما ترى، كلام غث سمج، وحب قد يكنسه في الطريق الكناسون، ولبديع الزمان رسالة مشهورة، إلى بعض من عزل عن ولاية حسنة، أثبتنا في ديوان رسائله، ولابن الأثير في كتابه «المثل السائر» رقعة قال إنها من عاشق لمعشوق، وعدها فيما عد من معانيه المبتدعة، وكل ذلك عندنا لا قيمة له.
صفحه نامشخص