168

إنه الموقف العقلي المصبوب على قالب فلسفتها حين تقول إنك لن تحكمني، ولو أنك في الواقع تحكمني ... وعلى قالب فلسفتي حين أقول: إنني لن أغلب في شيء، ولو أنني في كل شيء مغلوب! ...

كلمة بيننا ليس لها ناهية ولا آمرة من العقل، فلا تنزل في خاص معناها، ولا تقر في معنى يمسكها على وجه مفهوم، وكأنها في موضع مسحور لا يستقيم فيه برهان، ولا يحق حق ولا يبطل باطل، وفيها ملء القفر من الإصرار الجافي الموحش، فإذا تقدمت لها شفاعة الحب لم تقع من كلينا إلا بأبعد البعد: كالذي يضل في صحراء فيظمأ ويلتاح، ثم يذهب يحفر عن بلة أو جرعة، حتى إذا أوشك أن يذبحه الظمأ بنصل من خيال الماء عثر على إناء مختوم فيفضه فإذا فيه جرعة تاريخ قديم ... تنبئ عن مدن وأطلال، ودولة وشعب كانت هنا ... هنا في موضع قبره هو ...!

وليس التعب أشد شدة ولا أثقل ثقلا من موقف عقلي تقفه مغالب نفسك على حقيقتها، فتبغض أنت وهي عاشقة، أو تماري وهي مقتنعة، أو تجحد وهي تقر، أو تعزم العزمة وهي تنقض عليك، فأنت في تزوير فكرك على نفسك، وفي رد نفسك على الفكر، ثم في التواء حقيقتك التي جعلتها محركا واحدا يعمل في حركتين متناقضتين، ثم تهلك بعناد باطل تزعمه ضروريا لنفسك على أن يكون كفكرة فقط وأما كعمل فلا، على حين هو واقع عملا فقط وأما كفكرة فلا ...

ويحك يا من يزعم لأحد الشاطئين رجلا يمشي عليها؛ ليتخلص من مقابلته الشاطئ الآخر ، ومن تقييده بمضادته وممادته على مداه! أرأيت ذلك يكون قبل أن يكون للبحر الذي بينهما جناحان فيطير من بين شاطئيه ...؟

ويحك! فما معنى الهجر والمراغمة عليه، ولم يطر من بينكما الحب؟ •••

أتجنبها وهي في وجودي، وأحطم بعقلي هذا الفؤاد الشعري الرقيق الذي بين جنبي، وأتخذ لها في نفسي من الهجر اسما جافا يابسا كاسم الحطب، وهي باقية زهرة هذه النفس!

إن هنا وهناك وهنالك ثلاثة مواضع للغيظ وللكمد، ولكنها أيضا ثلاثة مواضع؛ لعظمتي وسموي. إنه لا صلح لقلبين لم يصطلح فكراهما ...!

فآه من ألم السمو الذي يجعلني أفرق حياتي على الأشياء والمعاني؛ لتتغير في نفسي، وأعيش أنا في مثل هذا الهجر على المعنى الذي لا يتغير كمعنى البلى، ولا يتسامح كمعنى الضغينة، ولا يترخص كمعنى العقيدة!

وآه من كبر النفس على صغائر الحياة، ومن صغائر الحياة على كبر النفس! ولقد يكون الملك العظيم في حشده وجنده وحوله وطوله، ثم لا تعبأ ذبابة من الذباب أن تقع على وجهه، ولو نطقت لقالت صادقة: وإن كان ملكا فإني ذبابة ...

وآه من عين الحكمة التي تبصر كرة الأرض هباءة طائرة في اللانهاية، وترى الكون العظيم ذرة مكبرة، وتضاعف الأشياء على النفس مرة، والنفس على الأشياء مرة أخرى، ولا تبرح تخلق خلقها على ما تحب وتكره؛ لأن فيها ألوهية الفكر!

صفحه نامشخص