4
توالى مشرق الشمس ومغيبها على هذه البقعة الخلاء، وإدريس يتردى في مهاوي الشقاوة. في كل يوم يسجل في كتابه حماقة جديدة. كان يدور حول البيت ليقذفه بأقذع الشتائم. أو يجلس على كثب من الباب، عاريا كما ولدته أمه كأنما يتشمس، وهو يترنم بأفحش الأغاني، وكان يتجول في الأحياء القريبة في خيلاء الفتوات، يتحدى كل عابر بنظرات هجومية، ويتحرش بكل من يعترض سبيله، والناس يتحاشونه كاظمين، وهم يتهامسون: «ابن الجبلاوي!» ولم يحمل لغذائه هما، فكان يمد يده بكل بساطة إلى الطعام حيث وجده، في مطعم أو على عربة، فيأكل حتى يكتظ ثم يمضي دون شكر من ناحيته أو محاسبة من الآخرين. وإذا تاقت نفسه إلى العربدة مال إلى أول حانة تصادفه، فتقدم إليه البوظة حتى يسكر، ثم ينطلق لسانه كالنافورة بأسرار أسرته وأعاجيبها، وتقاليدها السخيفة وجبنها المهين، منوها بثورته على أبيه، جبار هذه الأحياء جميعا، ثم يدخل في قافية ليغرق في الضحك، ويغني إذا لزم الحال ويرقص، وتتناهى مسرته إذا ختمت السهرة بمعركة، ثم يذهب مشيعا بالتحيات.
وفي كل مكان اشتهر بهذه السيرة، فتحاماه الناس ما استطاعوا، ولكنهم سلموا بأمره كأنه مصيبة من مصائب الدهر. ونال الأسرة من ذلك ما نالها من الغم والكرب. وغلب الحزن أم إدريس فشلت واحتضرت. وجاء الجبلاوي ليودعها فأشارت نحوه بيدها السليمة محتجة وفاضت روحها في أسى وغضب. وخيم الحزن على الأسرة كخيوط العنكبوت، فتوقف سمر الإخوة فوق السطح، وسكت ناي أدهم في الحديقة.
ويوما تفجر الأب عن ثورة جديدة كانت ضحيته تلك المرة امرأة؛ إذ تعالى صوته الجهير وهو يلعن نرجس الخادمة ويطردها من البيت. وعلم في نفس اليوم أن أعراض الحمل ظهرت على المرأة، فقررت حتى أقرت بأن إدريس اعتدى عليها قبل طرده. وغادرت نرجس البيت وهي تصوت وتلطم خديها، وهامت على وجهها سحابة النهار حتى عثر عليها إدريس فألحقها بركابه دون ترحيب، ودون جفاء كذلك؛ إذ لم تكن تخلو من نفع عند الحاجة.
على أن كل مصيبة وإن جلت لا بد يوما أن تؤلف؛ لذلك أخذت الحياة تعود إلى مجراها المألوف في البيت الكبير كما يعود السكان إلى ديارهم عقب زلزال أكرههم على الفرار منها. عاد رضوان وعباس وجليل إلى ندوة السطح، كما عاد أدهم إلى سهرة الحديقة يناجي الناي فيناجيه. ووجد أميمة تضيء خواطره وتدفئ مشاعره، وصورة ظلها المعانق لظله ترتسم بوضوح في مخيلته، فقصد مجلس أمه في حجرتها حيث كانت تطرز شالا، فأفضى إليها بذات نفسه، إلى أن قال: إنها أميمة يا أمي، قريبتك ...
فابتسمت أمه ابتسامة باهتة دلت على أن فرحة الخبر لم تستطع التغلب على عناء مرضها وقالت: نعم يا أدهم، إنها فتاة طيبة، تصلح لك كما تصلح لها، وستسعدك بمشيئة المولى.
ولما رأت تورد البهجة في وجنتيه استدركت قائلة: لا ينبغي أن تدللها يا بني حتى لا تفسد حياتك، وسأخاطب أباك في الأمر لعلي أنعم برؤية ذريتك قبل أن يدركني الموت.
وعندما دعاه الجبلاوي إلى مقابلته وجده يبتسم ابتسامة لطيفة حتى قال لنفسه: «لا شيء يعادل شدة أبي إلا رحمته.» وقال الأب: ها أنت ذا تطلب زوجة يا أدهم، ما أسرع الزمن! وهذا البيت يحتقر المساكين، ولكنك باختيار أميمة تكرم أمك، لعلك تنجب ذرية صالحة. لقد ضاع إدريس، وعباس وجليل عقيمان، ورضوان لم يعش له ولد حتى اليوم، وجميعهم لم يرثوا عني إلا كبريائي، فاملأ هذا البيت بذريتك، وإلا ذهب عمري هباء.
وكانت زفة أدهم التي لم يشهد لها الحي نظيرا من قبل. وحتى اليوم يجري ذكرها مجرى الأمثال في حارتنا. تدلت ليلتذاك الكلوبات من غصون الأشجار ومن فوق السور حتى بدا البيت بحيرة من نور وسط الخلاء المظلم، وأقيم سرادق فوق السطح للمغنين والمغنيات، وامتدت موائد الطعام والشراب في البهو والحديقة والخلاء المتصل بمدخل البيت الكبير. وبدأت زفة أدهم من أقصى الجمالية عقب منتصف الليل، سار فيها كل من يحب الجبلاوي أو يخافه حتى انتظمت الجميع. وخطر أدهم في جلباب حريري ولاسة مزركشة بين عباس وجليل، أما رضوان فسار في المقدمة، وعلى اليمين وعلى اليسار حاملو الشموع والورود، وتقدم الموكب مجموعة ضخمة من المنشدين والراقصين، وتعالى الغناء، وتبعته تأوهات المطربين وتحيات المعجبين بالجبلاوي وأدهم، حتى استيقظ الحي ودوت الزغاريد. وسار الموكب من الجمالية فالعطوف ثم كفر الزغاري والمبيضة، ينهال عليه الترحيب حتى من الفتوات، وحطب من حطب، ورقص من رقص، ووزعت الحانات البوظة مجانا فسكر حتى الغلمان، وتهادت الجوزة من جميع الغرز في طريق الموكب هدية للمحتفلين فعبق الجو بحسن كيف والهندي.
وفجأة لاح إدريس كمارد انشقت عنه الظلمة في آخر الطريق. لاح عند المنعطف المفضي إلى الخلاء على ضوء الكلوبات التي تتقدم الموكب، فتوقف حاملو الكلوبات عن السير وانتشر التهامس باسم إدريس. ولمحته أعين المنشدين فاعترض الخوف حناجرهم فكفت عن الغناء، ورآه الراقصون فجمدت أوساطهم. وسرعان ما سكتت المزامير وخرست الطبول، وغاضت الضحكات. وتساءل كثيرون عما يفعلون، فهم إن استكانوا لم يأمنوا الأذى وإن ضربوا لم يضربوا إلا ابن الجبلاوي. ولوح إدريس بنبوته وهو يصيح: لمن الزفة يا حثالة الجبناء؟
صفحه نامشخص