فقالت شفيقة: ليس عجيبا أن يهرب الإنسان من حارة اشتهرت بكثرة فتواتها!
فتساءلت سيدة بسخرية: من أين أتتك هذه القدرة على معرفة الغيب؟
فقال البلقيطي متنهدا: معاشرة الثعابين جعلتني أنجب حيتين! - أتستضيفه يا أبي وأنت لا تدري عنه شيئا؟ - عرفت عنه أشياء، وسأعرف كل شيء. لي عينان يعتمد عليهما عند الحاجة، ثم استضفته متأثرا بشهامته ولن أرجع عن رأيي.
ما كان يتردد عن الذهاب في غير هذا الظرف. ألم يهجر بيت النعيم بلا تردد؟ ولكنه يذعن للقوة التي تشده إلى هذا البيت. وطرب منه الفؤاد حتى سكر لسماع الصوت الذي دافع عنه. صوت الحنان الذي بدد وحشة الليل والخلاء وجعل الهلال السابح فوق الجبل يبتسم كمن يزف بشرى في الظلام. ولبث ينتظر في الظلام، ثم سعل، وأقبل نحو الباب فطرقه. فتح الباب عن وجه البلقيطي الذي انعكس عليه ضوء المصباح في يده. وذهب الرجلان إلى حجرتهما فجلس جبل بعد أن ترك فوق الصينية النحاس لفة جاء بها. ونظر البلقيطي إلى اللفة متسائلا فقال جبل: تمر وجبن وحلاوة طحينية وطعمية ساخنة.
فابتسم البلقيطي، وجعل يشير إلى الجوزة تارة وإلى اللفة أخرى ويقول: خير الليل ما مضى بين هذا وذاك.
وربت كتفه متوددا وهو يتساءل: أليس كذلك يا ابن الواقف؟
وانقبض قلبه على رغمه، وتوالت على مخيلته صور الهانم التي تبنته والحديقة الغناء بأعراش الياسمين والعصافير والمياه الجارية، والطمأنينة والسلام والأحلام الناعمة، دنيا النعيم الزائلة، حتى أوشكت الحياة أن تفسد. وإذا بموجة تدفع ذكرياته الغارقة في الأسى إلى بر الأمان إلى هذه الصبية الودودة الطيبة، إلى القوة الساحرة التي تشده إلى بيت فيه وكر للثعابين، فقال بحماس غير متوقع كتوهج مصباح إثر هبة نسيم: ما أطيب الحياة في جوارك يا عم!
35
لم يعطف عليه النوم إلا قبيل الفجر إذ عانى من الخوف كثيرا. وزاره طيفها في هلوسة المخاوف كما تتساقط أوراق الياسمين على حشائش جافة تسعى بينها الحشرات. كابد الأوهام التي تلدها الظلماء في البيت الغريب. وقال لنفسه في الظلام: «ما أنت إلا غريب في بيت الثعابين، تطاردك جريمة ويهتز قلبك بالعشق.» ولو ترك وشأنه ما رغب في غير السلام والدعة. وما خاف الثعابين قدر خوفه الغدر من ناحية ذلك الرجل الذي يتعالى شخيره في فراشه، فمن أدراه أن شخيره صادق؟ وما عاد يطمئن إلى صدق شيء. حتى دعبس المدين له بحياته ستذيع حماقته السر فيثور زقلط وتبكي أمه وتندلع النيران في الحارة التعيسة. والحب الذي شده إلى هذا البيت، وإلى حجرة رفيقه مروض الثعابين، من أدراه أنه سيعيش حتى يصرح بمكنونه. هكذا لم يعطف عليه النوم إلا قبيل الفجر بعد أن عانى من الخوف كثيرا.
وفتح عينيه المثقلتين عندما نضحت النافذة المغلقة بنور الصباح. رأى البلقيطي جالسا في فراشه متقوس الظهر، يدلك بيديه المعروقتين ساقيه تحت الغطاء. وابتسم في ارتياح على رغم الدوخة الملمة برأسه لقلة النوم. لعن الأوهام التي تعشش في الرأس في الظلام وتتبدد في النور كالخفافيش. أليست أوهاما جديرة بسوء ظن قاتل؟ أجل، إن أسرتنا المجيدة تجري في دمائها الجريمة منذ القدم. وسمع البلقيطي يتثاءب بصوت مرتفع متماوج كالحية الراقصة فهاج صدره وراح يسعل طويلا بشدة حتى خيل إليه أن وجهه سيلفظ عينيه. ولما سكت السعال تأوه الرجل من الأعماق فقال جبل: صباح الخير.
صفحه نامشخص