عودة المجد وهم أم حقيقة
عودة المجد وهم أم حقيقة
ناشر
مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة
شماره نسخه
الأولى
سال انتشار
١٤٢٨ هـ - ٢٠٠٧ م
محل انتشار
القاهرة
ژانرها
عودة المجد
وهم أم حقيقة؟
تأليف
مجدي الهلالي
صفحه نامشخص
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
١٤٢٨هـ - ٢٠٠٧م
رقم الإيداع: ٢٤١٧٩/ ٢٠٠٦م
الترقيم الدولي:
٩٧٧ - ٤٤١ - ٠٠٤ - ١
مؤسسة اقرأ
للنشر والتوزيع والترجمة
١٠ ش أحمد عمارة - بجوار حديقة الفسطاط
القاهرة ت: ٥٣٢٦٦١٠ ... محمول:٠١٠٢٣٢٧٣٠٢ - ٠١٠١١٧٥٤٤٧
www.iqraakotob.com
E-mail:info@iqraakotob.com
1 / 1
بين يدي هذه الصفحات
هل رؤية هلال المجد لأمة الإسلام في هذا العصر يندرج تحت بند أحلام اليقظة، أم أن هناك أمل حقيقي في ظهوره، وبدء تحقق البشارات القرآنية والنبوية في هذا الجيل؟!
هذا ما تجيب عنه هذه الصفحات.
1 / 2
المقدمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبربوبيته وقيوميته تقوم الأرض والسماء، وبحمده تُسبِّح جميع الكائنات.
والصلاة والسلام على الهادي البشير والسراج المنير، محمد بن عبد الله الرسول الأمين، المبعوث رحمة للعالمين، وبعد:
فعندما يقرأ المرء آيات القرآن وأحاديث الرسول ﷺ التي تحمل المبشرات بانتصار الإسلام، وعودة مجد الأمة من جديد تجده وقد انتابته مشاعر متباينة متقلبة بين الفرح والسرور بهذه المبشرات، والحزن والغم بسب قسوة الوضع الراهن، وشدة الظلام الذي يخيم على الأمة، وتكالب أعدائها عليها من ناحية، وتشرذمها وتفرقها واختلاف أبنائها فيما بينهم من ناحية أخرى، لتقفز في الأذهان أسئلة تقول: هل عودة المجد للأمة في هذا الزمان وهم أم حقيقة؟
هل المبشرات بانتصار الإسلام تحتاج إلى قرون لتتحقق أم أن هناك أمل في تحققها خلال سنوات؟!
من أجل الإجابة عن هذه الأسئلة كانت هذه الصفحات، والتي نسأل الله أن تصحبنا فيها معيته وتوفيقه، وأن يبارك فيها، ويكتب لها القبول ﴿سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: ٣٢].
* * *
1 / 3
المبشرات القاطعة
هل تصدق أخي القارئ - بأن روما- عاصمة إيطاليا ستدخل يوما في حظيرة الإسلام! ليس هذا من قبيل أحلام اليقظة، أو الأماني الكاذبة بل هو ما بشَّر به رسولنا ﷺ، فقد أخبر أصحابه- رضوان الله عليهم- بأن مدينتي القسطنطينية (استانبول)، ومدينة رومية (روما) ستُفتحان على أيدي المسلمين، فسألوه: أي المدينتين تُفتح أولا؟ فقال «مدينة هرقل تفتح أولا» (١).
ولقد فُتحت مدينة هرقل بالفعل، وتحققت البشارة النبوية في جزئها الأول، وبقي الجزء الثاني ألا وهو مدينة روما في انتظار الأمة.
ومما لا شك فيه أن فتح روما التي تعتبر معقلا للكنيسة العالمية يعني بلوغ المسلمين مبلغا عظيما من القوة والمنعة والعلو.
خلافة على منهاج النبوة:
ولا تكتفي البشارات النبوية بذلك فقط، بل أخبرتنا بأن عصور الظلم والاستبداد التي تغرق فيها الأمة منذ أمد بعيد ستزول، وسيكون البديل خلافة على منهاج النبوة، أو بعبارة أخرى: سيظهر النموذج الإسلامي الصحيح مرة أخرى والذي تجلى سابقًا في عصر النبوة والخلافة الراشدة، فقد روى حذيفة بن اليمان، عن النبي ﷺ قوله:
«تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون مُلكا عاضا، ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلكا جبريًا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت» (٢).
الانتصار على اليهود:
ومن المبشرات النبوية التي تستثير مشاعر الفرح والسرور في النفس تلك التي أخبرنا بها رسولنا محمد ﵊ بالنصر على اليهود في معركة فاصلة يتجلى فيها التأييد الإلهي لعباده المؤمنين:
_________
(١) رواه أحمد في مسنده
(٢) رواه أحمد والبزار والطبراني.
1 / 4
«لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فاقتله» (١).
ولك أن تتخيل- أخي القارئ- وقع هذا الحديث على المسلمين منذ مائة عام وقبل هجرة اليهود إلى فلسطين، من المؤكد أن سؤالا قد قفز إلى أذهانهم عن كيفية تحقق هذه البشرى واليهود أشتات متفرقة في بقاع الأرض، والآن بعد أن جمعهم الله ﷿ في فلسطين نجد أن الأمور تسير في اتجاه تحقيق تلك البشرى ﴿وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا﴾ [الإسراء: ١٠٤].
بزوغ شمس الإسلام:
كل هذه المبشرات تندرج تحت قوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [الصف: ٨، ٩].
فالله ﷿ اختص الإنسان لنفسه ونفخ فيه من روحه وأعد له الجنة لتكون له دارًا للإقامة الأبدية، ولذلك فهو سبحانه ﴿لاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ [الزمر: ٧] ويريد لهم جميعا أن يدخلوا الجنة، فأرسل لهم الرسل والكتب لتبشرهم وتنذرهم لعلهم يعودون إلى طريقه.
ولقد اختار سبحانه أمة الإسلام لتقوم بمهمة هداية البشرية وتوصيل رسالته إليهم، وستظل هذه الأمة مكلفة بهذه الأمانة حتى قيام الساعة.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقوم الأمة بأداء تلك الأمانة وهي بهذه الحال المزرية.
من هنا نقول: أن الأحداث التي تجري في العالم تحرك وتدفع الوضع القائم في اتجاه التمكين لهذا الدين وعودة المجد من جديد للأمة فتنطلق راشدة تبلغ الرسالة للعالمين، فُتسلم الدنيا لربها كما قال ﷺ: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز، أو ذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر» (٢).
وليس أدل على هذا- كما أسلفنا- من تجمع اليهود مرة أخرى في فلسطين.
هل هي أحلام وهمية؟!
ومع هذه الأدلة القاطعة بعودة مجد الإسلام من جديد إلا أن قسوة الوضع القائم، وشدة الظلام الذي يحيط بالأمة ويُخيم عليها، جعل الكثير من أبنائها يتشكك ويُشكك في إمكانية تحقق هذا المجد، على الأقل في هذا العصر.
وكيف يتحقق والأمة متفرقة أشتاتًا وشيعا، والأمراض الاجتماعية تكاد تفتك بأبنائها، والعصبيات والنعرات القومية تتحكم في دولها، والأعداء قد أحكموا قبضتهم على مقدراتها، والمشروع الصهيو أمريكي يمضي في طريقه قدُما؟!
نعم، الوضع القائم بالغ السوء، ولكن مع قسوته وظلمته فإن الثابت الصحيح أن الفجر سينبلج، وهلال المجد سيظهر في سماء الدنيا، وشمس الإسلام ستشرق من جديد، وليس ذلك فحسب بل بإمكاننا نحن- أبناء هذا الجيل- أن نكون ممن يرى تباشير هذا كله، ونشارك في صناعة هذا المجد.
_________
(١) رواه مسلم.
(٢) رواه أحمد والطبراني.
1 / 5
واستكمالا لهذه الحقيقة لا بد من القول إن عودة مجد الأمة من جديد سيظل من قبيل الأحلام والأماني البعيدة المنال إن استمر حالنا على ما هو عليه، وكيف لا ونحن نعيش في مرحلة تُشبه إلى حد كبير مرحلة التيه التي عاشتها بنو إسرائيل حين رفضوا الاستجابة لطلب نبيهم موسى ﵇ بدخول الأرض المقدسة، فكانوا كلما توهموا مخرجًا يخرجهم مما هم فيه، وانطلقوا إليه، فوجئوا بعد جهد جهيد أنهم قد عادوا إلى نفس نقطة الانطلاق.
ومع ذلك فلو استطعنا أن نتعرف على سبب الحال المزرية التي وصلنا إليها، وأن نتوصل إلى المخرج الآمن، والدواء الناجح الذي يخلصنا مما نحن فيه فسيتغير الوضع سريعًا، وسينطلق المارد من محبسه، وتتحقق البشارات ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللهِ لاَ يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: ٤ - ٦].
1 / 6
بين الماضي والحاضر
كنت في يوم من الأيام أقوم بزيارة لأحد الأصدقاء، فاسترعى انتباهي لوحة ملصقة على باب حجرة من حجرات المنزل تحمل عنوانًا يقول: هكذا كنا فمتى نعود؟
جذبني العنوان فوقفت مشدوهًا تجاه الملصق أقرأ ما جاء فيه والذي كان يحمل رسالة من أحد ملوك الإفرنج في أوربا إلى ملك الأندلس أيام عزها .. فماذا قال فيها؟
إلى صاحب العظمة- خليفة المسلمين- هشام الثالث، الجليل المقام:
من جورج الثاني ملك إنجلترا والسويد والنرويج، إلى الخليفة ملك المسلمين في مملكة الأندلس، صاحب العظمة هشام الثالث الجليل المقام.
بعد التعظيم والتوقير، نفيدكم أننا سمعنا عن الرُقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة، وأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج من هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أركانه الأربعة، وقد وضعنا ابنة شقيقنا الأميرة (دوبانت) على رأس بعثة من بنات الأشراف الإنجليز لتتشرف بلثم أهداب العرش، والتماس العطف لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم، وقد زودت الأميرة الصغيرة بهدية متواضعة لمقامكم الجليل ... أرجو التكرم بقبولها مع التعظيم والحب الخالص.
خادمكم المطيع
جورج الثاني
لم أصدق نفسي وأنا أقرأ تلك الرسالة .. أهكذا كنا بالفعل؟! أهكذا كان وضعنا بين الأمم؟
فإن كان الأمر كذلك، فما الذي حدث لنا؟!
لماذا أصبحنا بهذا الذل والهوان؟
لقد صرنا أضيع الأمم وأذلها وأجهلها، لم يعد لنا وزن، وليس ثمَّة من يرهبنا أو يعمل لنا أي حساب، بل على العكس، تكالب علينا الجميع لسرقتنا وانتهاك شرفنا وأعراضنا، أصبحنا كالغنيمة التي بلا صاحب.
إندونيسيا:
وفي إحدى الليالي شاهدت برنامجًا عن التنصير في إندونيسيا، وهالني ما سمعت ورأيت.
كل هذا العدد من المسلمين قد تم تنصيره؟
آلاف وآلاف بل ملايين تركوا إسلامهم حتى الأطفال الصغار رأيتهم وهم في إحدى دور التبشير يلعبون ويأكلون الحلوى ويمرحون، وبعد ذلك يطلب منهم المنصرون أن يقوموا بأداء إشارات التثليث، فما كان من أطفال المسلمين إلا أن قاموا بفعل ما يُطلب منهم بطريقة ميكانيكية تعودوها وعلموا أنها تُدّر عليهم الكثير من الحلوى والعطايا.
يا الله!! أهكذا يحدث لأطفالنا؟! أهذا كله يحدث ونحن نائمون .. صامتون .. غافلون؟!
وقبل أن ينتهي البرنامج إذا بأحد الدعاة الشباب هناك يوجه نداء لجميع المسلمين يقول فيه:
نحن بأشد الحاجة إليكم .. هُبّوا لنجدتنا .. لن نعذركم أمام الله لتقاعسكم عن نصرتنا
1 / 7
زاد حزني وألمي وشعوري بالعجز عن تلبية نداء هذا الشاب .. فماذا نفعل يا رب، والأمر قد استفحل، والنار قد شبت في ديارنا، ولا نستطيع إطفاؤها؟!
نشرات الأخبار:
حاولت أن أنسى ما سمعته ورأيته لا سيما وقد استقر في داخلي بأنني لن أستطيع أن أفعل شيئًا، وإذا بالنار تزداد اشتعالا، فما من نشرة للأخبار أشاهدها في الآونة الأخيرة إلا وأرى فيها مآسٍ ومآسٍ جديدة للمسلمين، بل هناك جزء في النشرة مخصص لعرض مأساة العراق وصور القتلى من المسلمين الذين وصل عددهم إلى مئات الآلاف.
وفي النشرة كذلك جزء ثابت مخصص لفلسطين .. وما أدراك ما فلسطين!
فالبيوت تُهدم بالجرافات على رءوس أهلها .. والرصاص يخترق أجساد الصغار، والشهداء يتساقطون بالعشرات .. والذل والهوان والضياع والتشريد لا يمكن للعبارات أن تصفه.
مآسٍ هنا وهناك ولا ندري ما هي النهاية؟
لماذا تركنا الله ﷿؟
سألت نفسي: ولكن أليس الله بقدير؟ أليس الله بجبار؟!
أليس سبحانه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء؟! فلماذا يتركنا هكذا نتجرع كؤوس الذل والهوان؟!
لقد رأينا آثار الزلزال الذي حدث في المحيط الهندي (تسونامي) وأثمر عن فيضانات واسعة عنيفة أودت بحياة عشرات الآلاف، وأزالت جزرًا وقرى بأكملها من الوجود.
رأينا فيه قدرة المقتدر التي تتضاءل وتتلاشى بجوارها أي قدرة مزعومة أخرى.
سألت نفسي: لماذا لا يُرسل الله ﷿ مثل هذا الزلزال على اليهود والأمريكان فيأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ويخلصنا منهم ومن شرورهم؟!
تزاحمت على ذهني الأسئلة: ألسنا مسلمين؟! أليس الكثير منا يصلي ويصوم؟! ألسنا ندعو الله ونتضرع إليه بأن يكشف عنا الغمة؟! فلماذا لم يستجب دعاءنا وهو القادر على نصرتنا في لمح البصر؟!
القرآن يجيب:
فكرت كثيرًا عن مصدر يجيب عن أسئلتي، فقفزت إلى خاطري فكرة البحث عن الإجابة في القرآن، أليس القرآن هو كلام الله؟! ألم يقل لنا ربنا: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠]؟
أقبلت على القرآن باحثًا عن بُغيتي، ففوجئت بأن الإجابة فيه واضحة تمام الوضوح، ليس فيها لبس ولا غموض، فالله ﷿ قادر مقتدر ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ﴾ [الرعد: ١١]. يستطيع أن يغير ما حاق بنا في لمح البصر ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: ٨٢].
ومع ذلك فقد أخبرنا القرآن بان الله ﷿ لن يفعل لك إلا إذا قام المسلمون أولا بتغيير ما بأنفسهم من اعوجاج، والتزموا منهجه، واستقاموا على أمره ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: ١١].
فالأمر واضح وجلي: إن أردنا استجلاب النصر الإلهي فلا بديل عن تنفيذ أوامر الله، ونصرته سبحانه على أنفسنا ﴿إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: ٧].
وفي المقابل فإن ما يحدث لنا ما هو إلا عقوبة من الله ﷿ نتيجة طبيعية لما فعلناه ﴿أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٦٥].
فالمعاصي التي نرتكبها، والأوامر التي نخالفها .. كل هذا أدى إلى غضب الله علينا، ومن ثم استدعاء العقوبة ﴿وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللهِ﴾ [النحل: ٩٤].
1 / 8
إذن فما نذوقه من سوء وذل وهوان ما هو إلا نتيجة ما فعلناه، ولا ينبغي لمن ارتكب المخالفة أن يستغرب العقوبة، فإن كان الشك يساورك من هذا التشخيص فانظر إلى شوارعنا وما فيها من مظاهر للتفسخ الأخلاقي، وانظر إلى الفضائيات وما تبثه من دعوة للفحش والفجور، وتأمل حجم المعاملات الربوية التي تتعامل بها بنوكنا.
أليس الغش والكذب والرشوة منتشرة في ربوع بلادنا؟!
أليست موالاة الكافرين والتقاعس عن نصرة المستضعفين من المسلمين أمر واقع بيننا؟!
فلماذا إذن نستغرب العقوبة؟
لماذا نستغرب عدم إجابة الله لدعائنا ونصرته لنا؟!
أنا وأنت السبب!
فما يحدث إذن في فلسطين والعراق والسودان وإندونيسيا وسائر بلاد المسلمين، لنا دور أساسي في حدوثه بأفعالنا وبما كسبت أيدينا، وإن استمر الوضع قائمًا، وإن استمرت المعاصي يُجهر بها في بلادنا فالعقوبة ستتضاعف، وقد نفاجأ بين ليلة وضحاها بمجلس الأمن يصدر قرارًا باحتلالنا تحت أي مسمى؛ خدمة للمشروع الصهيوني، وتمكينًا له، فنصبح في يوم وليلة بالعراء فنفقد بيوتنا ووظائفنا، ويضيع مستقبل أولادنا الذي ضحينا بالكثير من أجله، وتصبح نساؤنا سبايا وخدمًا لبني صهيون.
سألت نفسي: ولكننا لسنا جميعًا نرتكب المعاصي، ففينا الصالحون والصائمون القائمون، الذاكرون الله كثيرًا .. فلماذا يشملهم العقاب الإلهي؟
بحثت في القرآن عن إجابة لهذا السؤال، فوجدت أن الخطاب فيه موجه إلى المسلمين بصيغة الجمع لا بصيغة المفرد، مثل: يا أيها الذين آمنوا .. انفروا ... أنفقوا ... فالله ﷿ يتعامل مع الأمة الإسلامية ككيان وجسد واحد لا بد أن تصح وتسلم جميع أجزائه معًا. معني ذلك أن صلاح أي جزء مرتبط بصلاح الكل، أو بعبارة أخرى فإن صلاح الفرد في نفسه لا بد أن يصاحبه عمل يهدف إلى إصلاح الأمة جمعاء وإلا فسيكون العقاب الذي يصيب الجميع بلا استثناء ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: ٢٥].
وهذا ما حدث بالفعل.
لماذا العقاب لنا وحدنا؟
قفز إلى ذهني سؤال آخر وهو: لماذا نعاقب نحن بهذه العقوبات الأليمة دون غيرنا من الأمم والتي تفعل من المعاصي أضعاف أضعاف ما نفعل؟!
وجدت الإجابة في قوله تعالى ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [البقرة: ١٤٣] فالله ﷿ اختص هذه الأمة بالرسالة الخاتمة وائتمنها عليها، وطالبها بأن تقوم بما فيها، وتبلغها لسائر الأمم لاستنقاذها من الضلال والنار.
مهمة عظيمة حمّلها الله لأمة الإسلام ألا وهي القيام بدور الشهادة على الناس ودعوتهم إلى الله، ومن أجل ذلك فضل الله الأمة الإسلامية على سائر الأمم ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ [آل عمران: ١١٠].
وللأسف الشديد ضيعنا الأمانة، فلم نقمها في أنفسنا، ولم نبلغها لغيرنا، فصار العقاب لزامًا علينا، وقد كان.
1 / 9
من يستحق العقوبة أكثر؟
ولتأكيد هذا المعنى إليك- أخي القارئ- هذا المثال:
تخيل أن أبا من الآباء يعيش في بلد بعيد عن أبنائه، وقد بلغه أنهم جميعًا أصيبوا بمرض عضال وأن هذا المرض في سبيله للقضاء عليهم إن لم يتداركوه، فبحث عن الدواء الذي يعالج هذا المرض فوجده لكنه لم يستطع السفر به إليهم لظروف كثيرة تحيط به، فأرسل في طلب أرجحهم عقلا وأعطاه الدواء، ثم شدَّد عليه بأن يتناوله أولا، ثم يتولى توصيله لإخوته، وأن يتعاهدهم في تناوله حتى يبرؤوا جميعًا، وأكد عليه أن يثابر على ذلك حتى يتم شفاؤهم جميعًا بإذن الله، وله نظير ذلك المكافآت العظيمة والحظوة والقرب، وفي المقابل سيكون الغضب الشديد والحرمان والعقوبة في انتظاره إن قصَّر في مهمته، ثم حمَّله ببعض الهدايا له ولإخوته.
عاد الولد إلى وطنه، فماذا فعل؟ انشغل بما حمله من هدايا وأموال، ونسي وصية أبيه فأهمل نفسه فلم يأخذ الدواء، وترك إخوته فريسة المرض العضال. فماذا تظن أن يكون رد فعل أبيه تجاهه؟ وهل ستظل منزلته عنده كما كانت، وهل سيكون غضبه عليه وعلى تقصيره في التداوي، وإهماله لإخوته مثل غضبه من تقصير إخوته في علاج أنفسهم سواء بسواء، أم سيكون غضبه عليه أشد وأشد؟!
ما الذي يُرضي الله؟
معنى ذلك أنه لا بديل من أن نبدأ بالإسلام الشامل فنقيمه في أنفسنا، ثم في أرضنا، ثم ننتقل به إلى العالم أجمع.
أو بعبارة أخرى: لن يتم حل المشكلة التي نعاني منها، والخروج من النفق المظلم الذي نسير فيه إلا إذا استبدلنا غضب الله برضاه حتى يوقف سبحانه عقوبته عنا ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: ٤٠].
فكيف لنا أن نفعل ذلك؟!
ما الذي يريده الله منا كي يرضى عنا وينصرنا؟
عدت إلى القرآن ثانية وبحثت فيه عن إجابة لهذه التساؤلات فوجدت أن الأمر واضح تمام الوضوح، فالله ﷿ يريد منا عدم الشرك به، يريد أن نخلص أعمالنا كلها له، فلا نتعلق بغيره، ولا نعتقد أن هناك من يملك نفعنا أو ضرنا سواه.
يريد منا أن نقيم شرعه ونرفع رايته.
يريد منا أن نطيعه ولا نعصيه، أن نصلي الصلاة على وقتها، أن ترتدي نساؤنا الزي السابغ الساتر الذي لا يصف ولا يشف.
يريد منا أن نغض أبصارنا عما لا يحل لنا، يريد منا أن نكف عن سماع الأغاني الخليعة والموسيقى الماجنة، يريد منا إلا يخلو الرجال بالنساء.
يريد منا أن تكون عزتنا به وحده، لا بمناصبنا أو نسبنا أو أموالنا، أو ... إلخ.
ويريد منا أن نحبه ونحب رسوله أكثر مما نحب أهلنا وأبناءنا وأموالنا وعقاراتنا.
يريد منا أن نتحد ولا نتفرق، وأن نتآخى فيه، وأن نتعامل بالإحسان فيما بيننا.
يريد منا أن ننطلق بالدعوة إليه في كل مكان، فنرد التائهين، ونرشد الحائرين، ولا يهدأ لنا بال حتى يكون الدين كله لله.
فإن لم نفعل، وظل الحال على ما هو عليه، فلا تسل عن أي تحسن للوضع القائم، وعن أي أمل في التغيير، بل عليك أن تنتظر الأسوأ والأسوأ.
وكيف لا والله لا يخُلف وعده، ولقد وعدنا بعظيم المثوبة إن فعلنا ما يرضيه، ووعدنا كذلك بالعقوبة إن خنا أمانته، وابتعدنا عن طريقه، ولقد تحقق وعده سبحانه بالعقوبة، وإن لم نسارع ونبادر باسترضائه وحمل أمانته فستستمر العقوبة، وستتضاعف.
* * *
1 / 10
مشكلتنا إيمانية
سألت نفسي: وما الذي يمنعنا عن فعل ما يرضي الله خاصة أن الجميع يعلم بأنه مستهدف، وأن الحرب على الإسلام قد اشتعلت، والنار قد أمسكت بأطراف ثيابنا، ومع ذلك فنحن نتصرف وكأن شيئًا لم يكن.
متى ننتبه ونستيقظ؟
ألا توجد وسيلة ننتبه من خلالها ونعود إلى الله ونفعل ما يرضيه قبل وقوع الكوارث القادمة ودخولنا في دائرة الطوفان والذل والعذاب المهين؟
حب الدنيا:
بحثت في القرآن عن الأسباب التي يمكنها أن تقعد الناس، وتمنعهم عن فعل ما يرضي الله ﷿، وتجعلهم في حالة من الغفلة والتيه، فوجدتها في قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التوبة: ٣٨، ٣٩].
فالآيات تُشخص سبب عدم فعل الناس ما يرضي الله ألا وهو الرضا بالدنيا وحبها والتعلق بها، ومن لم يتخلص من ذلك فالعذاب ينتظره. وهذا هو الحادث معنا، وواقعنا خير شاهد على ذلك.
وما يؤكد هذا التشخيص قول رسول الله ﷺ: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» (١).
لقد طبقنا كل ما في هذا الحديث: رضينا بالزرع وتاقت أنفسنا لتملك الأراضي والضياع والعقار، وتبايعنا بالدّين والسلف لشراء مستلزمات الحياة العصرية المرفهة، حلم الثراء يسيطر علينا، ويقيدنا ببنود تحقيقه، تركنا الجهاد والتضحية في سبيل الله .. فماذا كانت النتيجة؟
عاقبنا الله ﷿ كما يشير الحديث بالذل، وعلى يد من؟ على يد إخوان القردة والخنازير أجبن شعوب الأرض وأذلها عند الله.
إذن فحب الدنيا والتعلق بها هو الذي يمنعنا من القيام بما يريده الله ﷿.
حب الدنيا وإيثار شهواتها هو الذي يجعلنا نسهر أمام التلفاز نشاهد الأفلام والمباريات ونترك صلاة الفجر.
حب الدنيا وطلب المنزلة عند الناس هو الذي يجعل الفتاة تخرج بهذا الوضع السافر الذي نراه، وإن غطت شعرها بغطاء رقيق فإن باقي ملابسها تظل بعيدة عما يرضي الله ﷿.
حب الدنيا وطلب العلو فيها هو الذي يجعلنا نعتد برأينا، ونتناحر فيما بيننا ونختلف ونتباغض ونتحاسد ونتدابر.
حب الدنيا هو القيد الذي يقيد قلوبنا، ويجذبنا نحو الأرض، ويمنعنا من فعل ما يرضي الله كلما هممنا بذلك.
عددنا كبير ولكن!!
لقد أكد لنا رسول الله ﷺ هذه الحقيقة، ففي يوم من الأيام، وبينما كان ﷺ يتحدث مع الصحابة إذ قال لهم: «يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها».
فانزعج الصحابة انزعاجًا شديدًا من هذا الوضع المخيف، فسأل أحدهم عن سبب ذلك، وهل هو من قلة العدد.؟! فأجاب ﷺ: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل».
فاشتد الأمر غموضا، فما هو السبب إذن؟!
هنا يستطرد ﷺ في الكلام شارحًا وموضحًا وضع الأمة آنذاك: «ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن» فيسأل أحد الحاضرين: وما الوهن؟!
يجيب ﷺ: «حب الدنيا وكراهية الموت» (٢).
_________
(١) صحيح الجامع الصغير (٤٢٣).
(٢) السلسلة الصحيحة (٩٥٨).
1 / 11
أرأيت- أخي القارئ- كيف شخَّص رسولنا ﷺ حالة أمتنا في مأزقها الراهن وكأنه يعيش بيننا.
أرأيت كيف وصف حالا للأمة تكون فيه «مفعولا به» وليست «فاعلا»، وأن السبب وراء هذا الوضع المخزي المهين ليس نقصا في العدد ولا العدة ولكن السبب هو حب الدنيا وسيطرتها على القلب، واستيلاؤها على إرادة الإنسان.
مشكلتنا مشكلة إيمانية:
إن مشكلة أمتنا هي بالدرجة الأولى مشكلة إيمانية، فكلما تمكن حب الدنيا من القلب نقص الإيمان، وكلما نقص الإيمان ازداد التثاقل في أداء التكاليف والواجبات، ومن ثمَّ ازداد التقصير في جنب الله، وازداد الانكفاء على الذات، والتعلق بالأرض والطين، وازداد تبعا لذلك غضب الله علينا.
معنى ذلك أن نقطة البداية الصحيحة للخروج من المأزق الراهن هي أن نبدأ بالإيمان فنقويه فتقل تبعًا لذلك مساحة حب الدنيا في القلب، وتنفك القيود والأثقال، فيسهل على المرء القيام بالواجبات المختلفة، ويكون دوما في حالة من الانتباه واليقظة.
يبحث عن كل ما يرضي ربه ليفعله، وكل ما يغضبه فيجتنبه.
الإيمان وحده لا يكفي:
ومع الأهمية القصوى للإيمان، وكونه يُشكِّل نقطة البداية الصحيحة لعودة المجد لأمتنا، إلا أنه لا يكفي وحده، بل لا بد أن يترجم هذا الإيمان إلى أعمال صالحة تبني ما تهدَّم، وتقيم المشروع الإسلامي للنهضة بخطواته ومراحله المختلفة، فالله ﷿ يريد منا قلبًا حيا مفعما بالإيمان، متعلقًا به، متوكلا عليه، ويريد منا كذلك بذل الوسع والطاقة في سبيل إقامة دينه، فإن رأى منا ذلك كانت معونته وولايته ونصرته في انتظارنا.
فالولاية من الله ﷿ على قدر ذلك، واستمرارها باستمراره، وزيادتها ونقصانها مرتبطين بزيادة الإيمان ونقصانه ﴿وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٩].
لسنا كبقية الأمم:
إن مشكلة أمتنا ليست في المقام الأول بسبب نقص الكفاءات، ولا الثروات، ولا الأعداد، بل هي نقص في الإيمان، وأي تجاوز لهذا التشخيص سيزيدنا حيرة وضياعا.
وليس معنى هذا- كما أسلفنا- هو الانشغال بتقوية الإيمان فقط بل علينا بذل الجهد، والتحرك في كل المجالات وإيجاد الكفاءات المختلفة شريطة أن يكون ذلك مصاحبًا للعمل الدائم على تقوية الإيمان، وكيف لا وكلما ازداد الإيمان ازدادت قيمة الفرد عند الله، وازدادت تبعًا لذلك معيته وكفايته ونصرته له.
فإن قلت: إن الأمم الأخرى تقدمت لأنها امتلكت أسباب الرقي، وانتفعت بقوانين التسخير في الأرض مع كفرها بالله.
نعم، حدث لها هذا بالفعل، ولكنه لن يحدث معنا مهما فعلنا مثلهم وتجاوزنا البدء بالإيمان أما سبب ذلك فهو أننا لسنا كبقية الأمم، فنحن مكلفون ومنتدبون من الله ﷿ لهداية البشرية، فإن قصرنا مع أنفسنا أو مع الآخرين كان العقاب الخاص في انتظارنا كما أشرنا في مثال الأب والدواء.
1 / 12
من أين نبدأ الحل الإيماني؟!
بعد أن تأكدنا أن البداية الصحيحة لاستعادة مجد الإسلام من جديد هي العمل على زيادة الإيمان والتمكين له في قلوبنا، يبقى السؤال: كيف لنا أن نفعل ذلك؟ وما هي الوسائل التي من شأنها أن تشفي قلوبنا، وترفع عنا أثقالنا، وتحرر قيودنا، وتدفعنا لأن نكون دوما في حالة من الانتباه واليقظة، وسرعة الإذعان والتلبية لله ﷿؟!
قبل أن يتم الحديث عن الوسائل المقترحة لحل مشكلتنا الإيمانية، إليك -أخي القارئ- بعضا من النماذج العملية التي تترجم الحالة الإيمانية التي نريد أن نكون عليها أو نقترب منها، لننطلق من خلالها باحثين ومدققين عن كيفية الوصول إليها.
وقد آثرنا أن تكون تلك النماذج من الجيل الأول الذي قال الله عنه: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: ١٠٠].
الصلاة الفريدة:
كان بعض الصحابة يصلي العصر في مسجد من مساجد المدينة النبوية، وكانت قبلة المسلمين آنذاك هي بيت المقدس، وبينما هم في ركوع الركعة الثالثة إذ دخل عليهم رجل ونادى بصوت مرتفع بأن القبلة تحولت إلى الكعبة، وأنه صلى مع رسول الله ﷺ في اتجاهها.
تخيل نفسك يا أخي لو كنت مكانهم، وقد انتصفت الصلاة ومضى منها ركعتان، ماذا كنت ستفعل؟! أليس من الطبيعي أن تنتظر حتى تفرغ من صلاتك، ثم تتبين الأمر؟!
نعم هذا هو التصرف الطبيعي والشيء المتوقع، لكن الصحابة كان لهم رأي آخر.
أتدري ما هو؟! لقد استداروا وهم راكعون إلى اتجاه الكعبة، تحركوا في نصف دائرة .. النساء، الرجال، الإمام.
ما الذي دفعهم إلى ذلك؟!
ما السبب الذي جعلهم يستجيبون بهذه السرعة ودون مناقشة ولا تردد أو تلكؤ؟!
وهل كانت هذه هي الحالة الوحيدة التي تم فيها رصد هذا الإذعان العجيب لله ﷿؟! لنقرأ هذه الأسطر لعلها تجيب عن هذه الأسئلة.
تحريم الخمر
تعوَّد العرب على تخمير التمر والشعير، والعنب والعسل والحنطة وشرب مائها الذي كان من شأنه أن يذهب ببعض العقل، وكانت القلال التي تحتوي على هذا الشراب تملأ البيوت، وفي يوم من الأيام وبينما كان أحد الصحابة، وهو أنس بن مالك ﵁، يسقي البعض من هذا الشراب إذا برجل من المسلمين يمر عليهم ويقول لهم: هل علمتم أن الخمر قد حُرّمت؟! فماذا فعلوا؟! وهل ناقشوه ليستوثقوا من الخير؟! هل قالوا: لنكمل ما في أيدينا ثم نذهب لنتأكد من صحة الخبر من رسول الله ﷺ؟!
لا، لم يفعلوا ذلك، بل انتفضوا وقالوا: يا أنس اسكب ما بقي في إنائك، ولم يعودوا إليها أبدًا، وكذلك فعل جميع من في المدينة من المسلمين، لدرجة أن بعضهم كان في شُربه والقدح في يده، ولا زال فيه بقية، ولما سمع بالتحريم سارع بنزعه من فمه، وسكبه.
امتلأت شوارع المدينة وسككها بالخمر خلال زمن يسير، كل ذلك حدث بمجرد نزول قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُم مُّنتَهُونَ﴾ [المائدة: ٩٠، ٩١] وإذا بهم جميعًا يرددون: انتهينا ربنا، بل كان ما يشغلهم وقتها هو حكم من مات من الصحابة وهو يشربها، فأنزل الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا﴾ [المائدة: ٩٣].
غسِّيل الملائكة:
وهذا حنظلة أحد الصحابة الذين استشهدوا في غزوة أحد. بينما كان مع زوجته في أيام عرسه، إذ سمع منادي الجهاد ينادي: حي على الجهاد، فماذا فعل؟!
ماذا فعل وهو في أشد لحظات الاستمتاع بالدنيا؟!
من الوارد أن يسرع بتلبية النداء ولكن بعد أن يغتسل من جنابته، ويتجهز للقتال، لكنه كان أسرع من ذلك، فقد سارع إلى ساحة المعركة دون تفكير في أي شيء آخر، وقاتل وقتل، وعندما أراد المسلمون دفنه وجدوا جسده يقطر ماءًا، فاستغربوا الأمر، وذهبوا إلى الرسول ﷺ ليخبروه بما حدث، فقال لهم: سلوا أهله، فأخبرتهم زوجته بما كان منه، فأنبأهم ﷺ بأن الملائكة قد قامت بتغسيله بالماء ليتطهر من جنابته.
1 / 13
تُرى ما الذي دفع حنظلة لهذه المسارعة العجيبة دون التفكير في هذا الأمر الضروري؟!
وما الذي دفع الصحابة إلى المسارعة بإراقة الخمر بمجرد سماعهم نبأ التحريم؟!
وما الذي دفع الراكعين إلى تغيير وضعهم واتجاه صلاتهم فلم ينتظروا حتى يفرغوا من الصلاة؟!
بلا شك أن وراء ذلك كله أمرًا عظيمًا، وشيئًا ما كان يجذبهم إليه، ويدفعهم إلى المسارعة لتنفيذ أوامر الله دون النظر إلى أي شيء آخر.
إنهم- يقينًا- كانوا في حالة يقظة وانتباه وإدراك لطبيعة وجودهم في الدنيا.
يقينا كانوا ينظرون إلى الأمام، إلى رضا الله وجنته، ولذلك لم يكونوا يحتاجون إلى وقت طويل لكي يهيئوا أنفسهم لتنفيذ أوامر الله ورسوله، كانوا دائمًا على أهبة الاستعداد بسب وضوح الهدف أمامهم، مع يقظتهم المستمرة وشدة انتباههم وتحررهم من أي أثقال تجذبهم إلى الأرض.
فكيف وصلوا لهذه الحالة؟!
ما الوسيلة التي رفعتهم لهذه الآفاق العليا حتى نحذو حذوهم؟!
فإن قلت: قد يكون وجود الرسول ﷺ بينهم هو السبب في ذلك.
بلا شك أن وجود الرسول ﷺ بين الصحابة له دور كبير في استقامتهم، فهو المعلم والمربي، لكن لو كان الأمر يقف عند هذا الحد لأصبح من المستحيل الوصول إلى هذه الدرجة من الانتباه واليقظة وقوة الإيمان في غياب شخص رسول الله ﷺ، ومن ثم يصبح الحديث عن الاستقامة وعودة المجد حلم من الأحلام التي لا يمكن تحققها.
هذه واحدة، والأخرى أنه ﷺ عندما هاجر إلى المدينة وجد مستويات إيمانية عالية من أناس لم يسبق له أن رآهم أو تعامل معهم، فبعد بيعة العقبة أرسل ﷺ مصعب بن عُمير لأهل المدينة الذين كانوا على شركهم لينشر فيهم الإسلام، وقد كان، وانشرحت الصدور للدين الجديد، وامتلأت القلوب بالإيمان من قبل مجيء الرسول ﷺ والمهاجرين إليهم، كما وصفهم الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: ٩] ويكفي في الاستدلال على قوة إيمانهم ما فعلوه مع المهاجرين من إيثار عجيب.
هل تتحمل هذا الفعل؟!
تخيل نفسك وقد عدت إلى منزلك في يوم من الأيام فوجدت فى انتظارك أناسا لا تعرفهم وكان المطلوب منك أن تستضيفهم في بيتك، وليس ذلك لمدة يومًا أو يومين، بل ما شاء الله من شهور وسنين ... بيتك الذي هيأته لنفسك وأهلك جاء من يقتسمه معك، يقتسم طعامك وشرابك، فماذا تظن أن يكون شعورك؟!
أليس من المتوقع أن تجد في نفسك من ذلك، وتتمنى أن لا يحدث هذا الأمر؟!
نعم، هذا هو المتوقع منى ومنك، أما الأنصار فقد كان منهم العكس عندما تعرضوا لمثل هذا الموقف، فقد سعدوا سعادة غامرة بهذه الاستضافة، بل إنهم كانوا يتنازعون المهاجري الجديد فيما بينهم، حتى وصل الأمر لإجراء القرعة على كل مهاجري لمعرفة من سيفوز به.
فكيف وصل الأنصار لهذا المستوى وأغلبهم حديثو عهد بالإسلام، ولم يروا الرسول ﷺ من قبل؟!
وما الذي أوصل الصحابة جميعًا لحالة الانتباه واليقظة وسرعة المبادرة إلى فعل ما يرضي الله؟!
إنه أمر يحتاج إلى تفكير وتفكير لمعرفة السر الذي من خلاله وصل هؤلاء لهذه الدرجة السامقة من قوة الإيمان والتي استدعت رضا الله ومعونته لهم فأوفى بعهده معهم، وجعلهم سادة للأرض في سنوات معدودة ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [الفتح: ١٨، ١٩].
1 / 14
لنسأل أنفسنا:
ليسأل كل منّا نفسه: هل يريد أن يكون مثل هؤلاء الأطهار في يقظتهم وانتباههم وسرعة مبادرتهم واستجابتهم لله ورسوله ﷺ؟
من المؤكد أننا سنجيب جميعا بنعم، ليأتي السؤال المتوقع:
وما الذي يمنعنا من ذلك؟!
ما الذي يمنعني وإياك من فعل ما يُرضي الله واجتناب ما نهى عنه؟!
فإما أننا لا نعرف ما هو المطلوب لتحقيق الاستقامة.
وإما أننا نعرف المطلوب، ولكننا نغفل عنه وننساه.
وإما أننا نتذكره، ولكن لا نقدر على التضحية بتكاليف القيام به، ولا نجد همة أو عزيمة تدفعنا لفعله، وإذا ما وجدناها فوجئنا بالأثقال تجذبنا وتمنعنا من التنفيذ.
نريد وسيلة:
إذن فلكي تنقاد حياتنا لله، وتستقيم على أمره لا بد من البحث عن وسيلة أو وسائل من شأنها أن تعرفنا بما ينبغي علينا فعله، وتبصرنا بأهدافنا الحقيقية في الحياة، وتذكرنا إذا نسينا، وتستثير هممنا، وتحرك عزائمنا، وتدفعنا للقيام بمتطلبات الاستقامة، أو بمعنى آخر: تبث الروح، وتولد الطاقة، والقوة الدافعة التي من شأنها أن تنهض بالهمة، وتقاوم الأثقال وتنتصر على الهوى وتدفع للعمل.
فما هي هذه الوسيلة
ما هي الوسيلة التي تُعرِّف، وتُبَصر، وتُذَكِّر، وتجذب الواحد منا للعمل الذي يرضي الله ﷿؟!
لنفكر في الوسائل التي بين أيدينا لعلنا نصل إلى مبتغانا.
القراءة:
لنبحث في الكتب الموجودة في المكتبة الإسلامية عن كتاب يحتوي على كل ما ينبغي علينا فعله، ويحتوي كذلك على كيفية مواجهة الحياة والتعامل مع متغيراتها.
إذا تخيلنا أن مثل هذا الكتاب موجود بالفعل، فهل يكفي وجوده لتحصيل الاستقامة وحالة الانتباه واليقظة؟
إننا لا نريد فقط ما يعرّفنا أو يعلّمنا، ولكن نريد كذلك ما يذكّرنا دومًا بما عرفناه وتعلمناه، فمن طبيعة الإنسان النسيان.
ومع التعريف والتذكير، نريد منه أيضًا أن يستثير هممنا ويقوِّي عزائمنا، ويدفعنا لفعل ما عرفناه وتذكرناه.
فهل من الممكن أن نجد كتابًا من تصانيف البشر يجمع بين كل هذه الخصائص؟!
فمهما كانت قيمة الكتاب، وقدرته- بإذن الله- على التأثير في المشاعر، فإنه بعد فترة سيمل منه قارئه، وسيعود لسابق عهده من ضعف الهمة والإرادة.
وهذا لا يقلل من شأن القراءة، ولكننا هنا نتحدث عن الاستقامة، وعن الوسيلة التي من شأنها أن تجعلنا في حالة شبه دائمة من الانتباه واليقظة، ومن ثمَّ يسهل علينا فعل ما نتعلمه من قراءتنا للكتب وسماعنا للتوجيهات.
الخطب والمواعظ والمواد السمعية والمرئية:
ونفس الكلام ينطبق على الخطب والمواعظ، والمواد السمعية والمرئية، فهي بلا شك لها دور ملموس في التعريف والتذكير واستثارة الهمم، ولكن في نطاق محدود، ولا يمكن للمرء أن يداوم عليها كل يوم، وإن داوم فستفقد تدريجيًا تأثيرها عليه.
هي وإن كانت وسيلة مهمة، لكنها ليست هي مقصدنا الأساسي الذي نسعى إليه، ونأمل وجوده، ونعوّل عليه الكثير في الاقتراب من المستوى الذي كان عليه الصحابة، فتأثيرها هي أيضًا وقتي، لا يدوم طويلا.
الصحبة الصالحة:
ومن الوسائل المهمة للتذكير، والإعانة على القيام بأعمال الاستقامة: الصحبة الصالحة، فالإنسان عندما يوضع في وسط طيب فإنه يتأثر به، ولكن مع أهمية الصحبة الصالحة، وضرورتها إلا إنه من الصعب أن يتجمع الأصحاب كل يوم.
نعم، هي تستثير الهمم، وتقوم بدور خطير في التعليم والتذكير، ولكن الفرد في النهاية يخلو مع نفسه فترات طويلة يحتاج فيها إلى ما يولد داخله الدافع الذاتي للقيام بأعمال البر المختلفة.
لنفكر سويا:
فإن كان الكتاب والشريط والصحبة الصالحة- مع أهميتهم وضرورة الأخذ بهم- لا تكفي للوصول بنا إلى حالة الانتباه شبه الدائمة فما الحل إذن؟!
1 / 15
لنفكر سويا في الأمر: الاستقامة تستلزم معرفة بها، ودوام تذَكُر لها، وقوة دافعة تدفعنا للزومها، وحالة انتباه تجعلنا نداوم عليها، فإن التفتنا يمنة أو يسرة وجدنا من يعيدنا إليها.
فما هي الوسيلة التي يمكنها أن تفعل ذلك؟!
لنبحث في كل ما نعرفه.
هل هي الصوم؟!
الصوم مع أهميته الكبيرة في ترويض النفس إلا أنه لا يفعل كل ما نريده، ولا يستطيع أحد أن يصوم أبد الدهر.
هل الذكر .. التسبيح .. التهليل .. الاستغفار ..؟!
نعم، الذكر له ثواب عظيم، وفوائد جمة لكنه لا يمكنه القيام بكل الأدوار التي نريدها من تذكير، وتعريف، وتوليد للطاقة والقوة الدافعة.
فماذا إذن؟!
عودة إلى جيل الصحابة:
لنعد مرة أخرى إلى جيل الصحابة، ونبحث عن الشيء الذي جعلهم في الحالة التي نتمنى أن نكون عليها أو قريبًا منها لعلنا نجد فيه بغيتنا.
بماذا فتحت المدينة؟!
ذكرنا- بفضل الله- أن رسول الله ﷺ عندما هاجر إلى المدينة وجد مستويات إيمانية رائعة من الأنصار، فما الذي أوصلهم لذلك خاصة أن كثيرًا من العبادات لم تكن قد فُرضت عليهم، كالصوم مثلا؟!
كل ما في الأمر أن رسول الله ﷺ قد أرسل إلى المدينة- قبل هجرته إليها- مصعب بن عمير ﵁، وكان معه قدر من القرآن، فكان يدعوهم إلى الإسلام، ويتلو عليهم القرآن، فانشرحت له القلوب، ودخلها النور ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ﴾ [الزمر: ٢٢].
كان مصعب ﵁ يطوف من بيت إلى بيت يتلو عليهم آيات القرآن، فأسلمت المدينة، ولم يبق دار من دورها إلا وقد دخله الإسلام.
إذن فالقرآن هو السبب الرئيسي لوصول الأنصار إلى هذا المستوى العالي من الإيمان، بل إن العلماء يقولون: «إن المدينة قد فُتحت بالقرآن».
وليس هذا الأمر يتعلق بالأنصار فحسب، بل إنه يشمل جميع الصحابة.
تأمل معي ما أجاب به علي بن أبي طالب ﵁ على مَن سأله من التابعين هل خصّكم رسول الله ﷺ بشيء، فنفى ذلك، وبين السبب الذي من خلاله وصل الصحابة إلى هذا المستوى فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهمًا يؤتيه الله عبدًا في كتابه.
وتأمل كذلك جواب أم أيمن لأبي بكر وعمر ﵄ عدما ذهبا لزيارتها بعد وفاة رسول الله ﷺ فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسول الله ﷺ، فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله ﷺ، ولكني أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء. (١)
توجيهات المربي العظيم
ومما يؤكد هذا المعنى ما نُقل إلينا من التوجيهات التي كان ﷺ يوجهها إلى الصحابة بضرورة الانشغال بالقرآن، وعدم الانشغال بغيره.
أخرج عبد الرزاق والبيهقي عن أبي قلابة أن عمر بن الخطاب ﵁ مر برجل يقرأ كتابًا، فاستمعه ساعة، فاستحسنه، فقال للرجل: أكتب لي من هذا الكتاب، فقال: نعم، فاشترى أديما فهيأه ثم جاء به إليه فنسخ له في ظهره وبطنه، ثم أتى النبي ﷺ فجعل يقرأه عليه، وجعل وجه رسول الله ﷺ يتلون، فضرب رجل من الأنصار بيده الكتاب، وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب أما ترى وجه رسول الله ﷺ وأنت تقرأ هذا الكتاب، فقال النبي ﷺ عند ذلك: «إنما بعُثت فاتحًا وخاتمًا، وأعطيت جوامع الكلم وفواتحه، واختصر لي الحديث اختصارًا فلا يهلكنكم المتهوكون» (٢)
_________
(١) رواه مسلم في فضائل الصحابة.
(٢) الدر المنثور للسيوطي ٥/ ٢٨٤، والمتهوكون أي المتحيرون.
1 / 16
ويقول سعد بن أبي وقاص ﵁: أنُزل القرآن على رسول الله ﷺ فتلاه عليهم زمانًا، فقالوا: لو قصصت علينا، فنزل: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ﴾ فتلاه عليهم زمانا، فقالوا: لو حدثتنا، فأنزل: ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ﴾ (١) [الزمر: ٢٣].
وكان ﷺ دائم التذكير لأصحابه، ولأمته من بعده، بضرورة اللقاء المستمر مع القرآن تأمل قوله: «اقرءوا القرآن واعملوا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به» (٢).
التشديد النبوي على ضرورة فهم القرآن:
وكان ﷺ يخشى من تحول اهتمام الصحابة بالقرآن إلى لفظه دون معانيه، ودون الاغتراف من منابع الإيمان التي تحتويها آياته، لذلك كانت توجيهاته ﷺ بضرورة تعاهد القرآن والانشغال به مع ضرورة أن يصاحب ذلك الفهم والتأثير ليتحقق المقصد العظيم من التلاوة ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ [الأنفال: ٢].
ويكفيك في هذا أنه ﷺ لم يأذن لعبد الله بن عمرو بن العاص أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاثة أيام معللا ذلك بقوله ﷺ: «لا يفقهه من يقرؤه في أقل من ثلاث». (٣)
وعندما قال ﷺ يوما لبعض الصحابة: «من قرأ القرآن في سبع ليالٍ كتب من المخبتين» قالوا: فمن قرأه في خمس يا رسول الله؟ قال: «إني أخاف أن يعجلكم عن التفهم، إلا أنه تصبروا على مباكرة الليل، فمن فعل كُتب من المقربين».
قالوا: ففي ثلاث يا رسول الله؟ قال: «لا أراكم تطيقون ذلك، إلا أن يبدأ أحدكم بالسورة وأكبر همه أن لا يبلغ آخرها» قالوا: فإن أطقناه على تفهُّم وترتيل، قال: «فذلك الجهد من عبادة النبيين» قالوا: ففي أقل من ثلاث يا رسول الله؟ قال: «لا تقرءوه في أقل من ثلاث» (٤).
الصحابة والقرآن:
استقبل الصحابة القرآن استقبالا صحيحًا، وذاقوا حلاوته، وأدركوا أهميته القصوى في التذكير، والتوجيه، وزيادة الإيمان، وتوليد الطاقة الدافعة للعمل لذلك انشغلوا به وأعطوهُ جُلَّ أوقاتهم.
فهذا عبد الله بن مسعود ﵁ يسأله البعض عن سبب إقلاله من صيام التطوع فيقول: إن الصوم يضعفني عن قراءة القرآن. (٥)
وهذا عبد الله بن عباس يحكي عن عمر بن الخطاب ﵄ أنه كان إذا دخل البيت نشر المصحف فقرأ فيه.
أما أسيد بن حضير ﵁ فكان يقرأ ويقرأ لدرجة أن فَرَسَه كان يهتز ويهتز، فخاف على ولده الذي كان بجوار الفرس، فقطع قراءته، وأسرع إلى رسول الله ﷺ يخبره بالأمر، فقال له ﷺ: «اقرأ أسيد فإن الملائكة لم تزل يستمعون صوتك فلو قرأت أصبحت ظُلة بين السماء والأرض يترآها الناس فيها الملائكة». (٦)
وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى الأشعري: يا أبا موسى ذكرِّنا ربنا، فيقرأ وهم يسمعون ويبكون، وكان أصحاب محمد ﷺ إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ والباقي يستمعون. (٧)
_________
(١) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ٥/ ٣٣٤٧ - طبعة دار الريان.
(٢) صحيح الجامع الصغير (١١٦٨).
(٣) السلسلة الصحيحة (١٥١٣).
(٤) أورده الغافقي في لمحات الأنوار (١٨٠٢).
(٥) شعب الإيمان للبيهقي.
(٦) رواه الطبراني.
(٧) التحفة العراقية في الأعمال القلبية لابن تيمية.
1 / 17
تخيل معي:
تخيل معي- أخي القارئ- الواحد من الصحابة وهو يجلس مع القرآن ساعات وساعات يقرأ بفهم وتدبر ويتأثر بآياته، ويبكي معها، على أي حال سيكون بعد هذه القراءة؟!
بلا شك سيكون محلقًا في آفاق عليا، وسيقترب ويقترب من ربه، وسيتعلم ما لا يعلمه، وسيتذكر ما قد نسيه، وستتولد داخله طاقة جبارة تدفعه دفعًا شديدًا لعمل الخير
لقد وصل ارتباطهم بالقرآن لدرجة أنهم كانوا يبحثون عن حل لأي مشكلة تواجههم في طياته، كما قال ابن عباس ﵄: لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في القرآن.
فماذا تقول بعد ذلك؟!
﴿أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ [العنكبوت: ٥١].
يا خادم هات الطست:
كان الصحابة- رضوان الله عليهم- يدركون أن السر وراء رفعة هذه الأمة، وأفضل قائد يمكنه قيادتها إلى الله هو القرآن، لذلك كانوا شديدي الحرص على ألا ينشغل من بعدهم بشيء غيره، فإن كنت أخي الحبيب في شك من هذا فأقرأ معي هذا الخبر.
ذهب اثنان من التابعين إلى عبد الله بن مسعود ﵁ لكي يطلعوه على صحيفة أعجبتهم وبهرتهم، وظلا في انتظاره حتى خرج إليهما، وأخبراه بسب مجيئهما، فماذا فعل؟! قال: يا خادم، هات الطست، وأخذ الصحيفة ووضعها في الطست وسكب الماء ليمحو ما فيها ويقول: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ [يوسف: ٣].
يفعل ذلك وهما يقولان له: انظر فيها، إن فيها حديثًا عجبًا، فيرد عليهما بقوله: إن هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره. (١)
لقد كان عبد الله بن مسعود ﵁ يريد أن ينبههم إلى أهمية القرآن، وضرورة الانشغال به، وملء القلب بمعانيه، وليس معنى ذلك ترك القراءة في الكتب أو عدم الاستفادة من الوسائل الأخرى، ولكن بقدر محدود لا يشغل المرء عن تعامله المستمر وانشغاله بالقرآن.
* * *
_________
(١) فضائل القرآن لأبي عبيد.
1 / 18
القرآن هو مخرجنا
أخي الحبيب:
لعل اقتنعت وازددت يقينًا بأن القرآن هو الوسيلة التي تبحث عنها، والمخرج الآمن الذي لا يوجد غيره ليخرجنا بإذن الله من الظلمات التي نتخبط فيها، ومرحلة التيه التي نعيشها إلى النور والمجد والعزة مرة أخرى.
ومما يؤكد صحة هذه النتيجة ما أخبرنا به ﷺ، فكما أسلفنا أنه ﷺ قد تحدث عن وضع مخيف ستمر به الأمة تصبح فيه مفعولا به، حيث تتداعى وتتكالب عليها جميع الأمم كالجائع الشره الذي ينقض على الطعام، وأخبرنا في هذا الحديث أن السبب لذلك هو ضعف الإيمان.
وفي موضع آخر أخبرنا ﷺ بكيفية الخروج من هذه المصيبة وتجاوزها، فقد قال يوما لأصحابه: «ستكون فتن» فقالوا له وهم منزعجون: وما المخرج منها؟ فكانت الإجابة الحاسمة: «كتاب الله». ثم بدأ ﷺ يشرح لهم لماذا القرآن هو المخرج من الفتن: «فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، هو الذي من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تنقض عجائبه، وهو الذي لم ينته الجن إذا سمعته أن قالوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا﴾ [الجن: ١]. هو الذي من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به هدي إلى صراط مستقيم» (١).
وعندما تحدث ﷺ مع حذيفة بن اليمان عن الفتن التي ستمر بالأمة. ما كان من حذيفة إلا أن سأله: وماذا أفعل إن أدركت تلك الفتن؟
_________
(١) رواه الدارمي.
1 / 19