آغاز پاییز: داستانی از یک بانوی شیک

رشا صلاح دخاخني d. 1450 AH
50

آغاز پاییز: داستانی از یک بانوی شیک

أوائل الخريف: قصة سيدة راقية

ژانرها

حدث ذلك قبل سنوات - ولا بد أن الصبي صار شابا الآن - ولكنها تذكرت الصبي فجأة خلال اللحظة التي التفت فيها أوهارا وقال لها: «سيعني لي ذلك الكثير، أكثر مما يمكنك أن تتخيلي.»

أدركت أن تلك كانت هي حقيقة أوهارا؛ رجل حزين ووحيد بعض الشيء، وكأنه في خضم كل النجاحات التي حققها، وحياته المهنية المزدهرة ومنزله الجديد الكبير وكلابه وخيوله وكل الأشياء الأخرى مما كان يمتلكه من عتاد مبهر يخص رجلا نبيلا، تطلع إليها وقال بجدية: «ألعب.»

كانت سابين قد أدركت منذ وقت طويل أن المرء بإمكانه أن يتذوق طعم الحياة حين ينحي جانبا كل القواعد الصغيرة التي تربك كيانه، وكل الروابط، والمعتقدات والتقاليد التي كانت قد دربت عليها تدريبا مكثفا وقاسيا حتى انتهى بها الأمر إلى أن صارت متمردة عليها. ووراء كل اللامبالاة البادية على ملامحها والتعقيدات الذهنية، تستقر ركيزة من الصدق والإخلاص الشديدين اللذين دفعاها إلى البحث عن رفاقها، فكانت تتعرف إليهم بطريقة مباشرة كما يبلغ السهم هدفه، فقط من بين الأشخاص الذين أسمتهم «كاملين». كانت تسمية لم تكلف نفسها جهد تعريفها لأي أحد، ربما لأنها كانت تشك في أن أحدا غيرها سيلتفت إلى معنى هذه التسمية؛ بل كانت هي ذاتها ترى أن تلك التسمية تفتقر إلى الدقة. وعلى نحو مبهم، كانت تقصد بكلمة «الكمال» الأشخاص الذين يعولون على أنفسهم، والذين لديهم كيان قوي بما يكفي للصمود أمام أي اعتداء أو انهيار يصيب أي بيئة يكونون فيها، أشخاص يمكنهم العيش مستقلين عن أي عالم مادي، يفتخرون بامتلاكهم إحساسا بالفردية، ويمكنهم أن يثبتوا أقدامهم ويقررون مصائرهم بنجاح أينما شاء القدر أن يضعهم. كانت قد اكتشفت أن وجودهم شيء نادر، ومع ذلك كانوا موجودين في كل مكان، وهؤلاء أمثال جون بينتلاند وأوهارا وأوليفيا وهيجينز.

لذا، كانت قد خلصت إلى أن تبحث عن حياتها بينهم، مجتذبة إياهم بهدوء حولها أينما يتصادف في هذا العالم أن تتوقف لتستريح لبعض الوقت. فعلت ذلك بهدوء ودون هتافات عالية منادية ب «الحرية» و«الحب المتحرر» و«حق المرء في أن يعيش حياته»؛ لأنها كانت متحضرة بما يكفي لأن تدرك عبثية لفت أنظار العالم إليها، وكانت تتسم بانفعالية مفرطة وبنزعة فردية لدرجة أنها لم تحاول مطلقا تغيير الآخرين. لعل هنا تكمن قوتها الناعمة ومصدر ذلك الغموض الذي يجعل وجودها مربكا ومزعجا لأناس مثل آنسون والعمة كاسي. كان أمرا لا يطاق للعمة كاسي أن تظن أن سابين حقا لم تعبأ حتى باحتقارها، لا يطاق لامرأة عجوز أمضت حياتها كلها في ترتيب حياة الآخرين أن تجد أن شابة طائشة مثل سابين لا تنظر إليها إلا باعتبارها مثيرة للسخرية والشفقة. ولم تحتمل عدم قدرتها على إخراج سابين من لامبالاتها الهادئة المتغطرسة، ولم تحتمل معرفتها بأنها كانت تراقبها دائما بعينيها الخضراوين، وتتفحصها ببصرها مرارا وتكرارا وكأنها حشرة لتكتشف أنها حشرة من نوع متدن. فأولئك الذين شاركوا في اكتشاف سرها كانوا مغرمين بها، أما أولئك الذين لم يفعلوا فكانوا يبغضونها. وعلى أي حال، كان سرا شديد البساطة، مفاده ضرورة تحلي المرء بالبساطة والود والإنسانية و«الكمال». فلم يكن لديها صبر على المبالغة في إظهار العواطف، والتكلف وتصنع التقوى.

وهكذا، بدأ حضور سابين يشكل تدريجيا صدعا غير محدد المعالم في عالم قانع وراض بل وفخور بذاته. شيء ما في عينيها الخضراوين الباردتين، في صوتها الرنان، في الملاحظات المباغتة الحصيفة، المحررة من الأوهام التي كانت تعلنها في لحظات مربكة، ملأ أناسا مثل العمة كاسي بالقلق وأثار في نفوس أناس مثل أوليفيا شعورا متقدا بالتبرم والتمرد. ازدادت أوليفيا نفسها وعيا بالفارق مع مرور الأيام، وتشككت أحيانا في أن حماها، العجوز القاسي، كان واعيا بالأمر. كان الأمر بينا ومفحما لأن سابين لم تكن دخيلة؛ فمن شأن سخرية الدخلاء أن ترتد عن عالم دورهام دون تأثير مثلما ترتد الأسهم عن ظهر حيوان المدرع. لكن سابين كانت واحدة منهم؛ وكان ذلك ما أحدث الفارق؛ إذ كانت دوما داخل القوقعة.

4

في إحدى ليالي صيف يونيو الحارة التي خلت من أي نسمات، تغلبت سابين على شعورها بالخمول الباعث على الملل وجهزت وجبة عشاء في منزل «بروك كوتيدج»؛ عشاء فاخرا، به ما لذ وطاب من طعام، وربما قيل إنها أعطت لضيوفها إيحاء بلامبالاة هائلة من الكرسي الذي على رأس المائدة، حيث جلست تغطي وجهها الأصباغ، وترتدي ملابس قبيحة ومبهرجة، تراقبهم جميعا بمتعة منحرفة. فشل هذا العشاء فشلا ذريعا في ضيافة المدعوين؛ لأنه كانت قد مرت سنوات طويلة منذ أقامت سابين عشاء لم يكن فيه الضيوف الحاضرين بارعين بما يكفي لأن يؤدوا واجبات الضيافة بأنفسهم، والآن بعد أن عادت مرة أخرى إلى عالم تعددت فيه أسباب دعوة الناس إلى العشاء عدا سبب الرغبة الحقيقية في صحبتهم، تقاعست عن بذل أي جهد. وفشل العشاء أيضا، لأن تيريز، التي أقيم العشاء من أجلها، تصرفت تماما كما تصرفت في ليلة الحفل الراقص. سرت حالة من الاضطراب والتوتر، وشعور بالحرج بين الشباب الغر أما سابين وأوليفيا فشعرتا بالملل. كان أوهارا حاضرا؛ إذ كانت سابين قد أوفت بنصف وعدها؛ ولكن حتى هو جلس بهدوء، واختفت جرأته واندفاعه وحل محلهما خجل صبياني. وبدا أنه سيطرت على الوضع كله حالة من التراخي، تلك اللعنة التي أحاطت بالبيت القديم على الضفة الأخرى من النهر.

كانت أوليفيا قد جاءت، رغما عنها تقريبا، وسيطرت عليها حالة من الإرهاق بعد زيارة طويلة دار فيها حوار بينها وبين العمة كاسي حول موضوع الشائعات بوجود علاقة غرامية بين سيبيل وجارهم الأيرلندي. وحين نهضوا، تسللت بهدوء إلى الحديقة؛ لأنها لم تستطع تحمل فكرة إجراء محادثة متوترة ومصطنعة. أرادت، بشدة، أن تترك وحدها في سلام.

كانت ليلة رائعة، حارة كما ينبغي لليلة صيفية أن تكون، ولكنها كانت ليلة صافية أيضا، فبدت السماء بأكملها وكأنها قبة ياقوتية مرصعة بماسات. وعند مقدمة المنزل، خلف حدود الحديقة الصغيرة ذات الشرفات، امتدت الأهوار كسجادة داكنة صوب الكثبان الرملية البعيدة، التي كانت قد صارت مع حلول الظلام معتمة وزرقاء قبالة الخط الفاصل الأبيض الأكثر نقاء الذي صنعته الأمواج ذات الزبد. ودفعها إحساسها بالعشب الرطب الكثيف تحت نعل صندلها الفضي إلى أن تتوقف للحظة، وتتنفس بعمق، وملأها برغبة لطيفة، شبه غامضة، في الامتزاج بكل هذا الجمال المحيط بها، بأجواء الهواء الساخن، وعبير الزهور المتفتحة والسيقان الخضراء المنبثقة، بالعشب والبحر والأهوار ذات الرائحة النفاذة، لتنساق إلى حالة من العدم وفي الوقت نفسه من الكمال، لتسبح نحو الخلود. انتابها فجأة إحساس غريب، ومحير بسرمدية كل هذه القوى والأحاسيس، بسرمدية البحر والأهوار، والسيقان الخضراء المنبثقة والقبة الياقوتية المرصعة بالماسات فوق رأسها. رأت لأول مرة في حياتها كلها قوة شيء استمر ودام، متجاهلا المخلوقات الصغيرة المثيرة للشفقة مثلها ومثل الآخرين الموجودين في المنزل خلفها، قوة تجاهلت المدن والجيوش والأمم، قوة ستدوم زمنا طويلا بعد أن يكون العشب قد غطى أطلال المنزل القديم في أرض عائلة بينتلاند. كانت هذه القوة تجتاحها، تاركة إياها عالقة في مكان ما في المياه الراكدة. وانتابتها رغبة مفاجئة ملحة، للمشاركة في هذا المشهد العظيم للخصوبة السرمدية، التي كانت لغزا أقوى من أي منهم وأقوى منهم مجتمعين، قوة من شأنها أن تسحق في النهاية كل ما كان لديهم من كبرياء تافه زائل ومعتقدات وتقاليد عارضة ضئيلة.

ثم فكرت في نفسها، وكأنها كانت تدرك ذلك لأول مرة: «أنا متعبة، متعبة بشدة، وغضبى قليلا.»

صفحه نامشخص