كلا! كلا! إن محمدا لا ينتقم لنفسه، ولا يقتص لأصحابه، ولكنه رسول توحيد، وداعية ألفة وسلام، فقد لقي الجهل بالحلم، والذنب بالعفو، والإساءة بالإحسان، والبغضاء بالمودة.
رسول الله قائم بباب الكعبة يخطب ليعلم هذه الجاهلية شرائع الدين ومكارم الأخلاق، ويحطم في نفوسها أصنام الجهل والهوى والمعصية، كما أنزل عن الكعبة هذه الأصنام الذليلة، يقول:
يا معشر قريش، إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم، وآدم خلق من تراب.
ويقول: يا معشر قريش، ويا أهل مكة، ما ترون أني فاعل بكم؟ فيقولون: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، فيقول: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
2
قبائل هوازن ترتاع لفتح مكة، وتخشى أن يمتد إليها سلطان الإسلام، فتخرج بقضها وقضيضها عامدة لحرب الرسول، وتجتمع بوادي حنين بين مكة والطائف، وتأتي الأنباء رسول الله فيخرج من مكة بعد دخولها بخمسة عشر يوما، ويسير المسلمون للقاء العدو قبل أن يحيط بهم. عشرة آلاف أتوا مع الرسول إلى مكة، وألفان من أهل مكة، يسيرون للقاء هوازن ! ها هو ذا وادي حنين تنحط إليه الجيوش في الغلس مغترة بكثرتها، معتزة بقوتها، والعدو كامن في أحناء الوادي وأحشاء الظلام. يفجأ هذا الحشد العظيم فيضطرب، ويموج بعضه في بعضه، ويأخذ التيار من أراد الهزيمة ومن لم يردها.
وظن الذين لا يعرفون ثبات الإيمان حين يطغى به الكفر، وجلد اليقين حين يحيط به الشك، وعزة الحق حين يثور به الباطل، ظن هؤلاء أنها هزيمة طوت فتح مكة وما قبل فتح مكة من جهاد المسلمين، وحسبوها حروبا تأكل حروبا، وغفلوا عما وراء الحروب من عقائد وأخلاق.
زلزل المسلمون زلزالا شديدا، ولكن القطب لم يزل من مكانه؛ ثبت رسول الله، ونادى العباس أصحاب بيعة الرضوان، فانثالوا إليه بين الجموع كما ينساب الماء القليل بين الصخور والرصف.
وخلق ثبات الإيمان واليقين والحق من هذا التفرق اجتماعا، ومن هذا الاضطراب قرارا، ومن هذا الفر كرا؛ فأخرج من الهزيمة نصرا مؤزرا.
لم يرع رسول الله هذا الفزع، ولم تأخذه هذه الظواهر المائجة، ولكن ثبت ثبات الإيمان، ورسخ رسوخ الحق. وكان في المأزق الشديد يوم حنين كما كان في الموكب العظيم يوم الفتح، واثقا بالله، متوكلا عليه، تجيش النفوس وهو مطمئن، وتموج الجموع وهو ساكن، توقره عظمة لا يهزمها نصر ولا هزيمة، ويقين لا يغيره أمن ولا فزع، ووقار لا تستفزه رغبة ولا رهبة.
صفحه نامشخص