89

اطیاف از زندگی می

أطياف من حياة مي

ژانرها

فقال له ميخائيل نعيمة: ليس خفقان قلبك إلا نتيجة جورك عليه يا جبران، أنصفه ينصفك، أنت تنهشه نهشا بقلمك وريشتك، وأنت تنبش منه كل خباياه لتعرضها على الناس، وتسرق كل دقة من دقاته لتجعلها نغمة في كلمة، أو خطا في صورة، وأنت تسهر الليل وتقضي جانبا كبيرا من النهار، مطاردا قلبك حيثما ارتحل وأنى استقر، وأنت فوق ذلك تجهد ما فيه من لحم ودم بكثرة ما تتناوله من القهوة والدخان، والمشروبات الروحية، فخفف من كل هذا!

فأجابه جبران: يا ميشا (كما كان يدعو ميخائيل) ألم تر أني انقطعت عن القهوة بتاتا؟ أما الدخان فسأحاول أن أقلل منه، لكنني لن أستغني عنه، وأما المشروبات الروحية فإني أعتقد أنها تنفع قلبي ولا تضره، لكن الداء هو أعمق من كل ذلك يا ميشا، وقد لمست بعضه فيما قلته، فماذا أعمل؟!

أأنقطع عن الكتابة والتصوير وهما كل حياتي؟ أأترك كتاب «النبي» وهو ما يزال جنينا، وهو خير ما حبلت به روحي حتى اليوم؟ بل سأمضي به حتى النهاية، وإن انتهت حياتي بنهايته، ولكن قل لي ما الذي جعلك تكثر السؤال عن صحتي اليوم، أرأيت شيئا جديدا في وجهي؟

فأخبره ميخائيل أنه رأى حلما مزعجا، ولم يخبره بتفاصيله، فدار بينهم حديث عن الأحلام وأنواعها وتأويلها وما تدل عليه، وروى ميخائيل حلما رآه منذ سنتين، حينما كان طالبا في روسيا، وفسر رموزه لجبران، وبين له كيف كان ذلك الحلم بمثابة خريطة لحياته بمعانيها الواسعة لا بدقائقها الصغيرة، فقال جبران: أما أنا، فلا أزال أذكر حلما حلمته من زمان، وكلما ذكرته ارتعشت؛ فقد رأيتني جالسا على صخرة في وسط نهر واسع المخاضة، كثير الرغوة، شديد العربدة، ليس على ضفتيه أثر لإنس ولا لجان، ومع أني لا أحسن السباحة فلم أكن في خوف من طغيان النهر، بل كنت أشكر الله لأنني في مأمن من الحياة الصاخبة، وأعجب كيف توصلت إلى الصخرة، وأفكر في كيفية العودة إلى اليابسة.

وإني لكذلك إذا بأفعى عظيمة هائلة تخرج من النهر وتتسلق الصخرة التي أنا عليها؛ فترتعد فرائصي منها، وأحاول أن أرفسها، ثم أمسك بخناقها لأدفعها عني، ولكن بغير جدوى، أما هي فتأخذ تلتف علي دورة بعد دورة، ويشتد ضغطها وثقلها على أضلاعي إلى أن تنحبس أنفاسي، فأجمع كل قواي لأصرخ طالبا الإغاثة، وعندها أفيق من نومي، وقلبي يقرع أضلاعي قرعا، وقطرات العرق البارد تبلل جبهتي!

فقال له ميخائيل: وما تفسيرك لهذا الحلم يا جبران؟

فقال جبران: فسره كما شئت، أما أنا، فقد رأيت فيه رمزا لحياتي، مثلما رأيت أنت في حلمك رمزا لحياتك! «مي» هي أمنيته الكبرى

ولقد فسر ميخائيل هذا الحلم بأن النهر الصاخب الذي رآه جبران هو العالم الصاخب بأمجاده وأهواله، وملذاته وأوجاعه، ورغائبه وأطماعه، والصخرة هي حقيقة الوجود الثابتة في تيار الحياة العالمية، وقد أدركها جبران بخياله، واطمأن إليها بروحه، أما الأفعى الخارجة من النهر فهي ميول جبران العالمية، وتعطشه إلى مجد العالم، وعظمته وملذاته، وقد أفسدت عليه طمأنينته الروحية ونشوته الخيالية، وقضت على أمنيته الكبرى، وهي التوفيق بين أعماله وأقواله، والتوحيد بين ذاته الظاهرة وذاته الخفية.

وقد كان من هذه الأمنية الكبرى أن يرى «مي» رأي العين، ويحظى بحبها عن كثب، ويعيشان معا في نيويورك أو مصر، ولكنه حرم منها كما حرمت منه؛ فقد كانت تحبه حبا عميقا حتى دعته بحبيبها ومحبوبها، وصارحته بالحب، ولقد أرسلت إليه خطابا في مارس سنة 1922 وهي على عزم السفر إلى أوروبا تتعطش فيه إلى رؤيته، وذيلت هذا الخطاب بهذه السطور:

حاشية : من المحتمل أن أغادر مصر إلى أوروبا في أواخر الشهر الآتي، أو الشهر التابع، وإذا وقع ذلك كنت سعيدة لأني أشعر بأن جميع ذرات كياني تتوق إلى الخروج من الشرق زمنا، ليت نيويورك في أوروبا، ومع ذلك مباركة حيث هي لأجل من تضم، وعليها ألف سلام وسلام.

صفحه نامشخص