ثم سكتت ونظرت إلى السماء، واغرورقت عيناها بالدموع! (2) عبقريتها ومأساتها
الحياة مد وجزر، وآمال وأحلام، وأفراح وأشجان، وابتسام ودموع.
هكذا هي الحياة، وتلك هي طبيعتها المعمرة المدمرة، المضحكة المبكية، السارة المحزنة، الباسمة الخادعة، الواهبة السالبة، المسالمة المحاربة، الحلوة المرة، التي تذيقنا نشوة خمرتها ثم لا تلبث أن تغصنا بمرارة كأسها وآلامها.
وكلنا يتعاطى هذه الكأس، ويذوق حلوها ومرها، ويتقلب فيها بين الهناء والشقاء، والعطاء والحرمان!
كانت الآنسة «مي» منذ هبطت مصر طفلة تعيش في ظلال أبوين بارين لم ينجبا غيرها، فأودع الله لهما في تلك الابنة الوحيدة من النجابة والنبوغ وشرف السمعة ما لم يودعه في آلاف من البنين والبنات، فكانت قرة عيونهما، وعزاءهما الوحيد، وفخرهما في الحياة.
عاش الأبوان سعيدين بتلك الابنة النابغة، مغتبطين بما أكسبت جنسها من جمال الأحدوثة، وبما قامت به لقومها من خدمات أدبية مجيدة، وبما أضافته من صفحات ممتازة إلى تاريخ الأدب العربي، وتاريخ المرأة العربية في الشرق الحديث. ثم شاءت الحياة القاسية المؤلمة المحزنة أن تمد يد الآلام إلى سعادة هذين الأبوين وأن تنقص من هناءة هذه الأسرة الكريمة، فمرض الوالد «الأستاذ إلياس زيادة» مرضا عضالا، واشتد عليه المرض، وزاد من شدته ما كان يصادفه من بعض الشركاء الذين يقاسمونه قطعة أرض في لبنان.
وانقطع الوالد أشهرا في منزله يعاني آلام هذا المرض الوبيل، وقد كان يخفف من آلامه ويعزيه في مصابه ما يراه من حنان زوجته ورعاية ابنته، وعظيم برها، وفائق فضلها على النهضة الأدبية التي رفعت شأنها وأتاحت لها فخرا لامعا بين الآداب الأخرى، ولقد كان هذا الفخر جديرا بأن يمد بغبطته وسروره في حياة الأب لولا أن للعمر نهاية وللأجل غاية، فطوى القضاء آخر صفحة من صفحاته في سنة 1929.
كان لوفاة هذا الوالد البار تأثير عظيم في نفس الآنسة «مي»، فذاقت لأول مرة مرارة الحزن البنوي العميق، وجرعت أول كأس لمأساتها الأخيرة منذ هذا المصاب الأليم، وابتدأت قصتها المؤثرة بهذا الحادث الجسيم.
وأطمعت هذه الوفاة «البعض» فيها ، فعانت شقاء هذا الطمع، وصاروا يلاحقونها في كل حين حتى ضاقت بهم، وضاقت بالدنيا وسئمت الحياة، وهي في ضيقها الشديد وسأمها الطويل تصبر ولا تشكو، وتخفي ولا تعلن.
ومرضت والدتها واشتد عليها المرض، فتفاقم الخطب، وتضاعفت الآلام ثم شاء القدر إلا أن ينزل بالكارثة الثانية، فتوفيت الأم الحنون، فتجدد حولها طمع الطامعين، فكانت تصرفهم بما عرف عنها من بر وكرم ولطف.
صفحه نامشخص