وبعد أن ختمت هذه الرسالة، وضعت معها مقالة بعنوان: «أتعرف الشوق والحنين؟» وقالت له في هامش رسالتها: «كتبت هذه المقالة من وحي قصيدتك، وسوف لا أنشرها الآن حتى أعود إليها مرة أخرى، كما أفعل دائما، وكما يفعل الشعراء في قصائدهم، وأنا أعتبر هذه المقالة قصيدة منثورة، أليس لي أن أدعي ذلك ما دمت لا أستطيع مثلك أن أدبج الشعر المنظوم؟» وفي هذه المقالة تقول بعد سطور: «أعرفت الشوق، وقد ثار وفار؟!
أعرفته وقد أطلق من وجدانك شخصا مجهولا منك، يطمح في وجع وتفطر إلى البعيد السحيق.
أعرفته تنبهه المحسوسات، وتزكيه المدركات، وتؤججه الذكريات!
أعرفته يرعى في كيانك، فأنت روح تلوب، وصوب يلهج، ويد تلتمس، وجوانح تضطرم، وجنان يتسعر، وضلوع تتفجر؟!
إن أنت عرفت مرة الشوق والحنين، وشعرت بالانكماش الأليم يملأ صدرك غما وكربا، وإن أنت كنت مرة ضحية الكلابة التي تعض على القلب بنابها القاسي، وفريسة المطارق التي تطرق فيها بلا رحمة فتدغدغه، وترضضه دون أن تقوى على تحطيمه وملاشاته.
إذن، فاعلم أنك في تلك الساعة متمتع باستعداد الخالق القادر، تضطرم في فؤادك الشرارة التي سرقها الإنسان القديم من نادي الأرباب الأقدمين.
لأن هذا العالم، إنما هو ابن الصبابة والجوى!
وما برأ الباري هذه الأكوان إلا عندما شاء عطفه أن يعرف الشوق والحنين.»
كانت الآنسة مي تضع في رسائلها إلى الأستاذ العقاد بعض خطراتها مما يناسب عاطفة الحب التي ربطت في ذلك الحين بين قلبيهما، أو ترسل إليه في رسالتها الشخصية مقالة أو بحثا تريد أن يطلع عليه قبل غيره، وكثيرا ما تكون المقالات عاطفية، فإذا كانت بحوثا مست عاطفة الإنسان من جانب من الجوانب.
وكان الأستاذ العقاد يضع كذلك ضمن رسائله بعض كلماته العاطفية نثرا أو نظما، وكثيرا ما نظم فيها أبياتا أو قصائد نشر بعضها في الديوان دون التصريح باسمها، بل كان يسميها هندا أو ليلى، أو غيرهما من الأسماء المستعارة، وكان اسم «هند» في شعره هو الأكثر لأنه على وزن «مي».
صفحه نامشخص