وتبين لي أن ن. جليوبنكو الرئيس الجديد للمصنع رجل ذكي شريف، وإذ كان يعرف علاقتي القديمة بمصنعه، واهتمامي العظيم بتقليل نفقات الإنتاج وإجرائه على أحدث النظم، فقد كان يدعوني مرارا كثيرة إلى حضور الاجتماعات الصناعية، ويعهد إلي من حين إلى حين بعمل دراسات خاصة فيما يستجد في المصنع من مشاكل.
وكنت أعيش مع أبي تحت سقف واحد وأختلط بغيره من صغار العمال، فلم يكن في وسعي أن أغمض عيني عن المأساة المؤلمة التي كانت تمثل فصولها في الضياع والحقول، وكنا نحن الشيوعيين فيما بيننا وبين أنفسنا نحوم حول هذا الموضوع، أو نعالجه بالألفاظ الملطفة المنمقة التي ينطق بها الحزب، فكنا نتحدث عن «جبهة الفلاحين» و«خطر كبار الملاك الزراعيين» و«الاشتراكية القروية»، وكان علينا إن أردنا أن نحيا حياة الشيوعيين أن نغشي الحقائق بستار من الألفاظ المعسولة حتى لا تراها الأعين وتدركها العقول.
أما الصناع العاديون فلم يكن ثمة ما يضطرهم إلى هذا المسلك، فقد كان الكثيرون منهم زراعا قدامى لا تزال لهم كلهم إلا قليلا منهم صلات بالريف؛ ولهذا لم يكن في وسعهم أن ينظروا إلى المزارع الجماعية نظرة «علمية» مجردة عن أشخاص الزراع أنفسهم، فكانوا يتحدثون حديثا صريحا عن العنف والقسوة والجوع والموت، كما يتحدث الناس عن حوادث شخصية تمس زيدا وعمرا في قرية معينة من القرى، لا كما يتحدث العلماء عن قوانين عامة، وكنت أسمعهم من حين إلى حين يروون قصصا عن أشخاص في إقليمنا اضطرهم الجوع إلى أكل لحوم الآدميين، فكنت أعدها منهم مغالاة لا أصدقها، ولكنها رغم عدم تصديقي إياها تقذف الرعب في قلبي.
ولم يكن في وسع من في داخل المعهد أن يغمضوا عيونهم عن رؤية الفظائع التي تحدث في خارج أبوابه وعلى مقربة منه، وكان الرؤساء يحذرون العمال من أنصار «اليمين المنشقين» و«أنصار تروتسكي» و«مأجوري طبقات الزراع الأقدمين» الذين ينشرون «الشائعات المعادية للحزب»، ولكن الشائعات لم تنقطع بل زادها التهديد والقمع انتشارا، وكان من شأن هذا كله أن يجعل حياة طلاب المعهد الألفين حياة يسودها جو التوتر الخفي الصامت. وكان كثيرون من أنشط الطلاب يرسلون إلى القرى في مهام خاصة ، فإذا عادوا حذروا من أن يتحدثوا بما شاهدوا، ولكن صمتهم ومراوغتهم كانا أفصح من الحديث، هذا إلى أن كثيرين منهم كانوا يتحدثون إلي بما رأوا بعد أن أعاهدهم على ألا أذيع ما أسمع منهم، ويروون لي من الفظائع ما يقشعر من هوله بدني.
وكان لي زميل في فصلي عرفته في اجتماعات خلايا الحزب، فقلت له عقب عودته من إقليم بلتافا: «إن من يراك يحسب أنك شاهدت أطياف الموتى.»
فأجابني بقوله: «نعم لقد شاهدتهم.» ثم أطرق ببصره.
ولم أواصل حديثي معه، فقد أحسست بأنه محزون يريد أن يبوح لإنسان ما بما يحز في قلبه، ففررت منه مذعورا مما عسى أن يصيبني من هذا الحديث.
وكان «مروجو الشائعات» بين الطلاب يقبض عليهم من حين إلى حين؛ ذلك أن الرقابة على عقائد الطلاب السياسية كانت تستنفد من جهد المشرفين عليهم أكثر مما تستنفده الدراسات الفنية نفسها.
وكان في المعهد كما كان في كل مشروع سوفيتي وكل فرع من فروع الحكومة إدارة متصلة بالقسم السياسي، وكان يرأس هذه الإدارة عندنا الرفيق لبد، ولم يكن أحد يدخل مكتبه حين يدعى ليستجوب إلا تملكه الرعب، وليس منا من كان يعرف ما يجري وراء الكوة الصغيرة ذات القضبان الحديدية التي بباب غرفته المصنوع من الصلب؛ ومع ذلك فلم يكن بيننا من تبلغ به السذاجة حدا لا يعرف معه أن لكل طالب في هذه الإدارة الخاصة ملفا تسجل فيه كل كلمة ينطق بها، وكل عمل يصدر منه، ولا يفوت المشرفين عليه أن يسجلوا نبرات أقواله وحركاته.
وكانت الملفات الخاصة «بالأحوال الشخصية» تحوي معلومات عن حياة الطالب أو المدرس الخاصة، وعن أهله وماضيه السياسي، وكان أهم ما تحتويه التقارير والشكايات التي كان يرفعها العيون السريون المنبثون في كل فصل من فصول الدراسة، وفي كل منامة في المعهد، أو المخبرون المتطوعون الذين يريدون أن تكون لهم حظوة عند ولاة الأمور، أو الذين تحركهم الأحقاد والحفائظ الشخصية.
صفحه نامشخص