وقلما كان يمر يوم واحد لا تروى فيه قصص مروعة عن المذابح المدبرة في الأحياء اليهودية، وعن غارات العصابات المسلحة على المصارف المالية، وعن الهجوم على قطر السكك الحديدية، وتعاقبت الحكومات فكانت كلما جاءت واحدة منها لعنت سابقتها ووصفتها بأنها «عصابة مسلحة»، حتى إذا أفلت زمام الحكم من يدها أصبحت هي الأخرى «عصابة مسلحة» كأختها، ومر بنا أسبوع، ولعله أطول من أسبوع، بلغ فيه الاضطراب غايته حين تولت الأمر حكومة «مخنو» أو الحكومة الفوضوية التي تحصنت في إيكترنوسلاف، ولكن الحمر لم يلبثوا أن عادوا إليها، وقضوا على حكومة مخنو فأضحت كأن لم تغن بالأمس.
وليس من السهل أن يرسم أحد صورة لهذا العهد كما ارتسمت في مخيلة غلام ممن كانوا يعيشون فيه، نعم إن كثيرا من الأحداث التي عرفناها أو فهمنا معناها بعدئذ قد انطبعت في تلك الصورة، ولكن الحقيقة المدهشة التي لا تفتأ على طول العهد ماثلة في أذهاننا هي أن شئون الحياة العادية ظلت تجري في مجراها بطريقة لا نعرف كنهها خلال الاضطراب الناشئ من الحرب الأهلية والفتن الحماء، وأخطار ذلك العهد وأهواله، فقد ظللنا كسابق عهدنا نعمل وندرس ونأكل وننام ونقرأ ونضحك ونعقد صداقات جديدة، بل بلغ من أمرنا أننا كنا نضع الخطط للمستقبل؛ ذلك أن الاضطراب أصبح في تلك الأيام من الأمور الطبيعية المألوفة، بل إنه كاد يصبح طريقة من طرائق الحياة، لقد كان هذا الاضطراب عنصرا جديدا من عناصر الحياة اليومية الرتيبة.
وسبب ذلك أن الحياة - أي إرادة البقاء وعادة البقاء - كانت أقوى من أعمال العنف ذاتها.
كانت البرقية التي جاءت إلينا من ألكسندروفسك بتوقيع عمتي شورا، وكانت تسألنا فيها هل جاءنا عم بطرس لسبب ما؟ وأبرق أبي في الحال أنه ليس عندنا، ثم جاءتنا بعد بضعة أيام رسالة تقول: إن عمى بطرس قد وجد ميتا مقتولا، وإن حضورنا جنازته إن استطعنا قد يخفف من وقع المأساة على الكبار من أفراد الأسرة.
وسافر أبي من فوره وإن كان قليل الرجاء في أن يصل إلى ألكسندروفسك قبل موعد الجنازة، وقرر بعد أن استشار والدتي في الأمر أن يأخذني أنا وكوتيا معه، فقد يكون منظر الحفيدين الصغيرين القويي الجسم المفتولي العضلات بلسما لجراح الأبوين الثاكلين.
ولم يشترك بطرس في اضطرابات الثورة؛ لأن شئونها كلها كانت تسبب له الملل والضيق، وكان يخيل إليه أنها تقطع على الناس حياتهم، وهي حياة في وسعهم أن يجعلوها على قصرها سارة هنيئة إذا امتنعوا عن العبث بها ومحاولة إصلاحها، ولما عاد من ميدان القتال خلع حلته العسكرية وحصل على منصب مدير لمصرف صغير في ألكسندروفسك، ولم نكن ندري حين ركبنا القطار كيف قضى الرجل نحبه.
وكان القطار مزدحما بالركاب حتى كاد يختنق بهم، فقد كان آلاف الآلاف من الناس وقتئذ - أو لعلنا قد خيل إلينا أن آلاف الآلاف منهم - يسافرون فارين من نار إلى نار لينجوا بأنفسهم من أتون الثورة القومية المشتعل في جميع أنحاء البلاد، وكانوا تارة يبتعدون عن الانتقام بضع خطوات، وتارة أخرى يندفعون إليه ليتعجلوه، ولم يكن في القطار شبر واحد خاليا من الركاب والأمتعة، فقد كان الناس يجلسون على رفوف النوم العليا تصطدم أحذيتهم الموحلة وأقدامهم الملفوفة بالخرق البالية بأرجل من تحتهم من الآدميين، وكان جو القطار ثقيلا مليئا بالرائحة الكريهة.
ولما وصل محطة سلافجو رود ذهبت إلى دورة المياه لآتي بقليل من الماء، فلما عدت رأيت رجلا واقفا بباب العربة يحمل في يده مسدسا من طراز موزر، فراعني هذا المنظر وصحت قائلا: «بابا»، فرد علي الرجل بقوله: «لعن الله أباك! ادخل إلى العربة وأمسك عن الصياح، وإلا أرديتك قتيلا.»
وبدأ القطار يتحرك ساعة أن اتخذت طريقي إلى جانب أبي، ورأيت الركاب جميعهم وقد رفعوا أيديهم فوق رءوسهم، وأخذ الأطفال يبكون من الخوف بأصوات خافتة، ووقفت عند كل من طرفي العربة شرذمة من الرجال المسلحين، وأخذت شراذم أخرى تجمع النقود والبضائع القيمة من ركاب العربة جزءا جزءا بطريقة منظمة حتى وصلت إلى الجزء الذي كنا فيه.
وصاح أحد أفراد العصابة في وجه أبي بصوت الآمر المغيظ: «أي شيء معك؟ هاته!»
صفحه نامشخص