162

لكن «باشا» في تلك الليلة نفسها، بعد أن خدمتني في تناول عشائي، جاءت إلى غرفة الطعام تحمل الهدايا وتبكي في صوت عال كما يفعل أهل الريف من الفلاحين، فنظرت إليها فزعا متسائلا، قالت وهي تنهنه بالبكاء: «لا أستطيع قبول هذه الأشياء يا فكتور أندريفتش، أرجوك، أرجوك أن تستعيدها.» - «لا بأس، لكن خبريني لماذا؟ ما السر في هذا؟»

فأشارت على صدرها بعلامة الصليب وقالت: «اللهم غفرانك، لا أستطيع أن أخبرك بشيء، وكل ما أرجوه ألا تضطرني إلى أخذ هذه الهدايا.»

لكني أخذت أستحفزها على الإفصاح، وأتعهد لها بكتمان سرها، فأنبأتني، ثم أضافت إلى النبأ قولها: إنها لا تستطيع أن تقبل الهدايا من رجل طيب القلب بينما هي مكلفة بالإخبار عنه بما ليس في صالحه. - «نعم، منذ اللحظة الأولى التي جئتك فيها ها هنا، لبثت أرفع عنك تقريرا كل أسبوع إلى القسم السياسي، لقد جئت من الريف وأعطيت هذا العمل، لكني ما كدت أستقر في دارك حتى أمرت بالذهاب إلى القسم السياسي حيث رسم لي ما ينبغي أن أفعله، فرفضت وبكيت وقلت: إن ذلك ينافي ديانتي، لكن الرجل صاحب الحلة الرسمية لم يجب إلا بقوله: «لا تكوني حمقاء يا «باشا» ألا ترغبين في عودة أبيك من منفاه؟ إذن فاخدمينا في دقة وإخلاص ننظر لك في عودة أبيك.» - «أذهب مرة كل أسبوع إلى دار خاصة في نيقوبول وأبلغهم كل ما عرفته عنك، وبصفة خاصة ما عرفته خلال الأسبوع عن زائريك وما يقولون، وكانوا يسألونني: ألا يلعنون الحكومة؟ فكنت دائما أشير بعلامة الصليب على صدري وأجيب: كلا، بل هم على عكس ذلك، وإنهم يضحكون مني إذ أشير بعلامة الصليب، ألا لعنة الله عليهم من كافرين!»

فأكدت للمسكينة «باشا» أنني عفوت عنها، وأنني لن أذكر لأحد قط ما أنبأتني به، على شريطة أن تمسك هي بدورها عن ذكر ما دار بيننا، بل إني أقنعتها أنه خير لها أن تقبل هداياي ما دامت قد وضعت ثقتها في.

ولبثت «باشا» تبلغ عني ما بقينا معا في تلك الدار، ولم يحدث قط أن ذكرنا ما اعترفت لي به وهي تذرف العبرات، لكنها كثيرا ما كانت تسألني أسئلة أرادت بها - فيما أعلم علم اليقين - أن تستوثق مني هل أريد لها أن تبلغ عن حوادث بعينها، فوضحت لها في جلاء أنني لا أخفي شيئا، وأن ما لا تخبر به هي سينقله آخرون غيرها على كل حال.

كنت ترى عادة في نيقوبول عددا من المهندسين الأجانب، أمريكيين وألمان، ليقوموا بتركيب الآلات الواردة من خارج البلاد، وليعملوا على رفع كفايتها في الإنتاج، وقد كان هؤلاء الأجانب عند الروس - عاليهم وسافلهم - موضع فتنة تستثير الاستطلاع، كما كانوا مصدر خوف في آن معا، فمن الخطر أن تخالطهم؛ لأنه من الخطر أن «تتصل بأعداء الشعب»، لكن هذا الجو الذي كهربته معاني الخطر كان في ذاته مثيرا لهؤلاء الأجانب الذين كانوا يبدون بحسن هندامهم وبغرابة حديثهم وسلوكهم، كأنما هم مخلوقات جاءتنا من كوكب آخر، ولعل أهم ما كان يستوقف فيهم الأنظار انعدام الخوف من نفوسهم بحيث يعملون ويتكلمون بل وينقدون إلى حد محدود، كأنه ليس هناك قسم سياسي ولا «جرشجورن» ولا مخبرون.

فلما اقترح الرفيق «براتشكو» أن آخذ اثنين من الأمريكيين في داري، لم أكتم ما أحدثه ذلك الرأي من الرعب في نفسي، وكان هذان الأجنبيان قد استدعيا من «ينجستون» ليقيما في نيقوبول بضعة أشهر بحكم المهمة التي جاءا من أجلها، ولما كان الفندق المحلي من القذارة بمكان، ولما كنت عزبا يسكن وحده دارا فسيحة، لم أجد مبررا لرفض استضافتهما في منزلي، لكنني خشيت ما عسى أن يترتب على هذا الاتصال الذي فرض علي فرضا «بعناصر غريبة عن طبقات شعبنا».

كان «لاري» و«جو» طويلين أشقرين طيبين، يضيق صدراهما لقذارة ما حولهما ويحنان إلى الوطن حنينا ظاهرا، ولقد توثقت بيني وبينهما صلات الود في الأشهر التي استضفتهما خلالها على الرغم مما اعترضنا من مشكلة التفاهم من حيث اللغة، ولم يحدث قط أن مس أحد منهما موضوعات السياسة بالحديث، ولم يكن هذا الإهمال لشئون السياسة مما يعز على التصديق، فحسب عند الرجل الروسي الذي كادت السياسة والحياة أن يكونا له شيئا واحدا، بل كان يعده شذوذا لا يجري مع طبائع الأشياء، لكن هذين الأمريكيين حصرا اهتمامهما في عملهما، فإذا ما فرغ الحديث في العمل أخذا يقصان القصص ويلعبان الورق ويبحثان عن «حفلات»، ولما كانت لهما طبيعة الاجتماع بالناس والصراحة في الحديث صراحة لا تخفي شيئا، لم يفهما قط لماذا ينفض الناس من حولهما بحيث يتركان وحيدين، ولماذا لا يحدث إلا نادرا أن يدعوهما من يعملون معهما في مصنع واحد.

وقد حدث ذات صباح أن تلفنني «جرشجورن»، وكان «لاري» و«جو» عندئذ قد قضيا معي بضعة أسابيع.

قال لي منبئا: «ضيفاك الأمريكيان سيطلعان للصيد هذا النهار.» - «أهو كذلك؟ وما شأني بهذا؟» - «أريدك أن تتلفنني بمجرد مغادرتهما لدارك، وقل لخادمتك إن يومها يوم عطلة، فليس عليها أن تعود إليك قبل الخامسة.»

صفحه نامشخص