ويبدو أن أبي جلد حتى كاد يقضى عليه، وقد ظل طول حياته يفخر بآثار الجراح التي أصابته في هذا الحادث، وأخذ إلى مستشفى السجن، وأكبر الظن أنه سيحاكم هو وعدد من زعماء الثورة إذا بقي على قيد الحياة، وقد يحكم عليه بالأشغال الشاقة في سيبيريا، وربما حكم عليه في هذه المرة بالإعدام.
وجاء الطالب مرة أخرى بعد عدة أشهر من ذلك الوقت، وجاءت معه في هذه المرة فتاة ممشوقة القد بارعة الجمال، وسرعان ما أخذت أمي وهي مضطربة مهتاجة تلفنا في معطفينا وتقول لنا: «إذا ظللتما صامتين وفعلتما ما تؤمران به فإنكما ستريان أباكما.»
ووقفت خارج بابنا عربتان، ركب الطالب والفتاة في إحداهما، وركبنا نحن كلنا في الأخرى، وتقدمت عربة الطالب، وسارت عربتنا من ورائها وعلى مسافة منها لا تترك مجالا للريبة في أمرها، واجتزنا على هذه الحال طريق بشكين الواسع، وسرعان ما كنا في قلب المدينة على مرأى من السجن القديم الكئيب، وتقف العربة لحظة أمام أحد أبراجه الأمامية، وكانت هذه هي الإشارة المتفق عليها، ثم تواصل سيرها، وحين تصل عربتنا إلى هذا المكان نفسه ينزل السائق ويعبث بجل الفرس.
وتبرق عينا والدتي وتلتهبان من شدة الاهتياج وتهمس في آذاننا: «ها هو ذا أبوكما، وتشير إلى نافذة في البرج، وأحاول جهدي أن أرى شيئا، ولكني لا أبصر إلا شبحا أسود خلف إحدى النوافذ ذات القضبان الحديدية يلوح بمنديل، وكان رأس الرجل الذي يشير إلينا حليقا براقا، وتنحدر الدموع على وجنتي والدتي ويصيح كوتيا قائلا: «بابا! بابا!» ثم يصعد السائق إلى مكانه ويضرب جواده بسوطه، فيعدو الجواد، وتنظر أمي إلى ورائها، وتلوح بيديها ما دام في وسعها أن ترى البرج.
ونجد الطالب والفتاة في انتظارنا عند مكان متفق عليه في البستان، ويقبل الطالب يد والدتي، ويحملنا بين ذراعيه القويتين، ويملأ جيوبنا بالحلوى، وكذلك تحنو علينا الفتاة الجميلة حنوا شديدا، وهكذا كان اليوم كله يوما خالدا، بما حواه من أحزان وخطر واهتياج، وكثيرا ما أفكر في ذلك اليوم حين أنفرد بنفسي، وتنتابني المخاوف فأشعر باطمئنان وهدوء لسبب لا أعرفه.
وكثيرا ما قالت بابشكا وهي تشير إلى المصباح القائم في ركن الصورة المقدسة وترسم على جسمها علامة الصليب: إن معجزة من المعجزات هي التي أنجت أبي من الشنق أو النفي إلى سيبيريا؛ ذلك أن المسجونين الذين ينتظرون حكم الإعدام كانوا يوضعون في ذلك البرج بالذات، ولا يؤذن لهم باستقبال الزوار، ولكن الحكم خفف على أبي لسبب لا نعلمه إلى الحبس مدة غير طويلة.
وكنت وقتئذ أصغر من أن أفكر كيف تستطيع أسرة كرافتشنكو أن تعيش، ورب الأسرة الذي يكسب لها أقواتها في داخل السجن، وخاصة بعد أن زادت شخصا بعد مولد أخي يوجين ، والواقع أن بعض رفاق أبي في القضية الوطنية كانوا يمدوننا ببعض العون، كما أن عددا قليلا من العمال في مصانع السكك الحديد كانوا يأتوننا ببعض الهدايا، وكانت تصل إلينا في بعض الأحيان هدايا من الدجاج والبط والفاكهة والخضر من ألكسندروفسك حيث يسكن جداي لأبي، ولم أر شيئا غير عادي في أن والدتي كانت تعمل على الدوام في خياطة الملابس لغيرها من الناس، حتى في الأوقات التي كانت فيها ملابسنا نحن في حاجة إلى الإصلاح.
وحدث ذات ليلة - وأنا بين الخامسة والسادسة من عمري - أن أرقت ولم أستطع النوم، فتسللت خفية على أطراف أصابع قدمي إلى باب حجرتي وفتحته في حذر شديد، فأبصرت أمي مكبة على الخياطة في ضوء مصباح الكيروسين، وكلما فكرت في أمي الآن بعد طول السنين عادت إلي أحيانا صورتها كما رأيتها في تلك الليلة، يغشاها الضوء بشعرها البراق ووجهها الحزين.
فسألتها: «لم لا تأوين إلى فراشك يا ممشكا؟»
فقالت وهي تبتسم: «لم أتعب بعد من العمل، ولكن لم لم تنم أنت؟ لا بأس تعال إلي يا ولدي؛ لأني أريد أن أتحدث إليك.»
صفحه نامشخص