هنا شعرت أن «تفتكوف» ستخور قواه فيتهافت ساقطا إذا لم يسعف بما يشد بنيانه، ولم يكن بد من إفساح الفرصة أمامه ليستجمع قواه، فكأنما دفعتني الغريزة دفعا أن أنهض فأطلب الإذن بالكلام.
قال الرئيس: «ما سؤالك؟» - «أطالبك بإعلان اسم الشخص الذي وشى بهذا الزميل.» - «هو موظف في مكتب النائب العام.» - «ذلك لا يغير من الموقف يا رفيقي، إن اسمه مهم هنا، فقد كنت في الريف مع الرفيق تفتكوف وأعلم الحقائق.» - فوافق الرئيس قائلا: «إذن فاسمه أرشينوف.» - «ذلك ما رجحت أن يكون.» قلت ذلك في نغمة الظافر فكأنما أثرت بذلك في «سريوزا» حبل الحديث، هذا إلى أن فترة المقاطعة هيأت له فرصة تهدأ فيها نفسه الثائرة، فمجرد ذكر اسم «أرشينوف» قد استثار فيه الغضب - فيما يظهر - وأعاد له الثقة بنفسه.
قال: «أرشينوف! أؤكد لكم أن تقرير هذا الرجل زائف ولا قيمة له؛ لأن دافعه إلى كتابته شخصي بحت، إنه خشي أن أبلغ ما أعرف عنه، فقد اتخذ اتهامي وسيلة لوقاية نفسه، كانت هذه أول مرة لي في الريف، وطبيعي أن كانت تنقصني التجربة، وأنه من الجائز أن أرتكب بعض الأخطاء في عملي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد اصطنع «أرشينوف» من الأساليب ما يصمه بالعار، تلك الأساليب التي استنكرها الحزب وهاجمها منذ ذلك الحين، ولما عدت قدمت تقريرا عن سلوكه إلى اللجنة الإقليمية، فلست أنا المجرم، إنما الذي أجرم هو «أرشينوف» هذا بعينه.» - «لكن أليس صحيحا أن «أرشينوف» ضرب رقما قياسيا في تسليم الغلة، وأنه فعل ذلك حيث منيت أنت بالفشل أحيانا؟» - «نعم، ذلك صحيح في مناسبات كثيرة، لكن ذلك لا يستتبع بالضرورة أن أجاوز تعليمات الحزب فأسلك على النحو الذي سلك.» - «هذا جميل، من ذا يريد الكلام؟»
فوقفت وأشار لي الرئيس أن آخذ في الحديث. - «لقد عملت مع الرفيق تفتكوف والرفيق أرشينوف في «بودجورودنوي» وسأذكر تفصيلات ذلك حين يأتي دوري، لكني أريد الآن أن أقول: إنني وجدت الرفيق «تفتكوف» رجلا شريفا متعاونا ووجدته شيوعيا يحاسبه ضميره على ما يفعل، إنه شخص مهذب بوجه عام، ولو أنه لا يزال قليل الخبرة، فلا ينبغي أن نجعل منه فريسة لأساليب «أرشينوف» هذا، لو كان هنا لمزقته إربا، ولو أذنتم لي لأنبأتكم ببعض أعماله التي تعد الآن من جلائل الأعمال.»
صاح بعض الحاضرين: «لنسمع ما يقوله عنه! امض في الحديث!» لكن الرئيس بدت عليه علامات الفزع واضحة؛ لأنه لا يريد ذكر شيء من مفازع الريف. - «أيها الرفاق، نحن الآن بصدد البحث في ماضي «تفتكوف» لا «أرشينوف»، فهذا الزميل المتحدث من بين النظارة يمكنه أن يتقدم ها هنا ليروي قصته همسا للجنة.»
ذهبت إلى المنصة وأخذت في قصتي عن فظائع «أرشينوف» الوحشية في صوت خفيض، وكنت كلما قلت شيئا سجل أعضاء اللجنة نقطا في مذكراتهم، ولن أدري إلى الأبد هل كانوا يفعلون ذلك عن جهل بأنباء «أرشينوف» أم كانوا يفعلونه على سبيل إيهام النظارة أنهم جادون، لقد كنت قبل ذلك قدمت تقريرا مفصلا عن هذه الحقائق، لكن لم يكن مستحيلا أن يكون لأرشينوف أصدقاء من ذوي السلطان بحيث يبعدون تقريري فلا يقع في أيدي لجان التطهير.
شجع دفاعي عن «سريوزا» كثيرين غيري، فتكلم في صالحه ثلاثة رجال وامرأتان، وبعدئذ أعيدت له تذكرته، فأتى من المنصة رأسا إلي، وضغط على يدي ضغطة المعترف بالجميل وعيناه تغرورقان بالدموع، ثم ذهب إلى أبيه الذي ضمه إلى صدره.
كان رجائي أن أنادى لمحنتي بعد «تفتكوف» مباشرة، ولو حدث ذلك لجاز أن أفيد بالاتجاه الطيب الذي خلفه وراءه، فيما يظهر، لكن الاسم الذي نودي به هو «الرفيق جرنتشنكو» الذي كان يحاضر في مذهب «ماركس» ومذهب «لينين» في معهدنا، فكان بحكم وضعه هذا بمثابة المبشر «الروحي» - على نطاق مصغر وبمعنى من معاني الكلمة - المبشر الذي يذيع مبادئ المذهب الجديد بين الناس، فلو كان في قائمة رجال المعهد رجل واحد يجل عن النقد بحكم عمله، لكان هو هذا الرجل المديد القامة، البسيط المحيا، لقد كان رأينا فيه أنه أقرب إلى بث الملل في النفوس باعتباره معلما، أما باعتباره إنسانا فقد كان في رأينا ممتازا إلى حد يستحيل أن يفوقه فيه سواه.
كان «جرنتشنكو» يحاضر باللغة الأوكرانية، وهي لغته الأصلية، على الرغم من أن أوضاع هذه اللغة القديمة قد أهمل استعمالها، لا بل عدت ضربا من ضروب «الخروج على الوطن»، إنه شيوعي متعصب، يقول عنه طلابه: «إنه يرافق ماركس كل ليلة في مخدعه.» ولأننا لم نكن ندري عن قصة حياته إلا قليلا فقد أنصتنا في انتباه زائد إلى اعترافه.
هو سليل أسرة فقيرة من الريف، ولبث يعمل في إحدى الضياع الواسعة خادما في إصطبل حتى قامت الثورة، وكان قد بلغ من العمر عامه التاسع عشر حين سقط القيصر، فالتحق بصفوف البلاشفة من فوره، وصعد في الجيش الأحمر حتى بلغ مرتبة «قائد فرقة »، وأثخن في ميدان الحرب بجروح كثيرة، ولما أن وضعت الحروب الأهلية أوزارها درس النظرية الشيوعية في أحد معاهدها الخاصة، وها هو ذا يحاضر في مذهب لينين، حقا إنها لسيرة سوفيتية لا تشوبها شائبة من فساد .
صفحه نامشخص