وفتح الباب فإذا مجمع اللهو قد انقلب مشهدا للاضطراب والجزع، وأخذ النساء في البكاء، فقالت إحداهن: «إنما جئت إلى هنا مدفوعة بالجوع.» وقالت أخرى باكية: «لقد دفعوني إلى الحضور دفعا.» فأمرت النساء أن يرتدين ثيابهن ويغادرن المكان، ثم طلبت إلى رفيقي أن يفتشا الدار، فوجدا مقدارا من اللحم وكثيرا من الزبد والجريش والعسل، كما وجدا عددا كبيرا من أكياس الدقيق.
صحت صيحة غاضبة: «بينا يموت جيرانكم جوعا، تسرقون من أفواههم الطعام أيها القعدة؟ ثم تسمون أنفسكم شيوعيين! احملوا هذه المؤن على ظهوركم وسيروا بها الآن إلى دار السوفيت!»
سرت خلف الرجال الثلاثة حتى بلغنا دار السوفيت في القرية، ولما أصبح الصباح جاء فريق من الجند وساقوا اللصوص الثلاثة إلى المحاكمة في عاصمة الإقليم «بيانيخانكي»، ولما شاع النبأ في القرية سخط له الفلاحون.
قال لي كثير منهم: «ما كان ينبغي لك إرسالهم للمحاكمة، فنحن أعلم من المحكمة بما يجب أن يلاقوه.»
ولما بدأنا تسليم محصول الغلال إلى مخازنه القريبة من محطة السكة الحديدية، كشفت عن حقيقة وقعت فظاعتها من نفسي وقوع الصواعق؛ ذلك أني وجدت في تلك المخازن مقدارا هائلا من غلة العام السابق! كانت هذه الغلة المخزونة ما أمرت به الدولة من احتياطي يحفظ لهذا الإقليم، فانظر إلى هذا المقدار من الغلال يأمر الموظفون الرسميون بإخفائه عن أعين القوم وهم يموتون من الجوع! لقد مات مئات من الرجال والنساء والأطفال في هذه القرى، ماتوا من قلة الغذاء، في الوقت الذي خزنت فيه الغلال قاب قوسين من دورهم أو أدنى!
وحين كشفت عن «احتياطي الدولة» من الغلال، كان معي طائفة من الفلاحين، فحدقوا الأبصار لا يكادون يصدقون ما هم مبصرون، ثم أخذوا يسبون في ثورة من غضب، وبالطبع لم ألمهم على سبابهم ذاك، لكني استحلفتهم ألا يذيعوا النبأ في الناس حتى لا تتحطم فيهم القوة المعنوية فتتأثر بذلك حركة الحصاد، وقد علمت فيما بعد أن هذا الأمر بنفسه وقع في كثير من أنحاء البلاد، فتخزن الحكومة الغلة احتياطا، وبموت الناس من جوع، فيم هذا الفعل؟ إن الجواب عند حاشية ستالين السياسية وحدها وهي لا تجيب.
تم الحصاد فخرجت أشق الحقول ذات يوم رخي في عربة صغيرة، وكانت الشمس قد مالت للغروب، فسمعت على مبعدة أنشودة الحصاد يغنيها رجال ونساء اختلطت أصواتهم في امتزاج جميل، فها هم أولاء يرسلون أصواتهم بالغناء مرة أخرى بعد كل ما شهدوه من موت وشقاء، الله لهؤلاء الناس من أهل التربة الأوكرانية في بساطتهم المباركة وطيبتهم التي ليس لها حدود!
وما هو إلا أن رأيت المنشدين يسيرون نحوي موكبا وعلى رأسه المعلم «إيفان بتروفتش»، فما كان أوقعه في القلب من منظر: الرجال في أبهى حللهم والنساء في أرديتهن المطرزة التي يلبسنها في مواسم العطلة، وعلى رءوسهن أكاليل من ورود الحقول، وفي وجوههن علائم الفرح الذي لا تشوبه شائبة، فأوقفت الجواد وترجلت، ودنا موكب الناس مني ثم وقف، وقد كان قوامه ما يقرب من مائتي فلاح وفلاحة.
قال المعلم في صوت يسمعه الحضور جميعا: «فيكتور أندريفتش، لقد وفينا ما وعدنا، فالحصاد في مخازنه قبل الموعد المضروب بعشرة أيام، وقد رأيت بعينيك كيف كان منا العمل، وإنك لتعلم أن كثرتنا الغالبة كانت جائعة ضعيفة من شتاء فربيع كلاهما فظيع، وإن ذلك منا البطولة بعينها.»
فأجبته قائلا: «أشكرك يا إيفان بتروفتش، وأشكركم جميعا يا رفاق.»
صفحه نامشخص