ولما كانت هذه المجاعة قد وقعت في نفس الوقت الذي بلغنا فيه ختاما ظافرا لأول مشروع وضع ليتم في أربعة أعوام، فقد طفقت الصحف فيما يشبه الهوس، تعلن في ازدهاء «جليل أعمالنا»، لكن هذه الدعاوة التي تصم الآذان بصياحها، لم تستطع أن تطمس في عجيجها أنات الذين كانوا يكابدون الموت، وقد رنت هذه الصيحة «بالحياة السعيدة» الجديدة في أسماع فريق منا رنين الصراخ تبعثه الشياطين، ويروع النفوس أكثر مما تروعها المجاعة نفسها.
وكان الأمر كله مرهونا بالحصاد الجديد، أفيكون لهؤلاء الزراع المتهافتين جوعا، أفيكون لهم من القوة والعزيمة ما يحصدون به وما يدرسون، والموت ضارب حولهم بجرانه؟ لكي يضمن أولو الأمر جمع الحصاد، ويحولوا بين الفلاحين أعضاء المزارع الجماعية وبين أن يدفعهم القنوط إلى التهام الزرع وهو بعد أنجم خضراء، ويصونوا نظام المزارع الجماعية من أن يتداعى بنيانه إذا ما دب دبيب الفوضى، ويقاتلوا أعداءه. لكي يحققوا ذلك كله؛ أنشئوا في القرى أقساما سياسية يديرها رجال من الشيوعيين الأكفاء، فمنهم رجال الجيش والموظفون وأصحاب المهن ورجال القسم السياسي والطلاب، وهكذا جندت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي جيشا يربى على مائة ألف من الصناديد، جندتهم في ربوع هذه المزارع الجماعية، ليكون واجبهم صيانة الحصاد الجديد، وقد كنت أحد هؤلاء المجندين، اجتمع منا عند مقر اللجنة الإقليمية ثلاثمائة جيء بهم من هيئات مختلفة من المدينة، وألقى فينا الخطاب الرئيسي أمين سر اللجنة، وهو من طليعة الشيوعيين في أوكرانيا، وأعني به الزميل هاتايفش، ولم يخف في خطابه ما عسانا ملاقوه في القرى من صعاب، وكان يعيد في خطابه مرة بعد مرة ذكر «التطهير» الذي وضع الحزب خطته بحيث يتم في زمن معين من ذلك العام، فكان تلميحه هذا أوضح من أن يخطئه سمع سامع، فبقاؤنا السياسي مرهون بما يصيبه في مناطق المجاعة من فشل أو نجاح.
أعلن فينا محذرا: «إن ما تعملونه في القرى هو برهان ولائكم للحزب وللرفيق ستالين، وهو مقياس ما تضمرونه من ذلك الولاء، ليس أمامنا للتخاذل من سبيل، كلا، ولا في هذا الميدان موضع لمتهافت، فلا مندوحة لكم عن معدات قوية وعزيمة من حديد، ولن يقبل الحزب عذرا إذا ما فشل في المهمة فاشل.»
بهذه السلطة التي سلمتني بها اللجنة المركزية، أخذت سمتي نحو إقليم «بياتيخاتسكي» يرافقني «يوري» وهو زميل في الدراسة وصديق، فوجدنا أولي الأمر في ذلك الإقليم قد نفد صبرهم لما خاضوه من عقبات، وأخذنا نستفسر عن المحصول الجديد، فلم يجيبوا إلا بنبأ المجاعة التي تفتك بالناس جماعات جماعات، وبنبأ التيفوس وقد تفشى، وبأخبار الناس يقتاتون على لحوم البشر.
وكانوا إذا ما استنهضتهم يوافقونك قائلين: نعم لا بد من إعداد أنفسنا لحصد الغلة الجديدة ودرسها، أما كيف يبدءون فقد كان ذلك فيما يظهر فوق عزائمهم التي كأنما أصابها شلل، وغصت مكاتب الشرطة كما غصت السجون بالمزارعين سيقوا إليها من القرى المجاورة، متهمين بجمع غلال لم يأذن لهم الحاكمون بجمعها، وكانت تهمتهم الرسمية في ذلك هي «التخريب» و«سرقة أموال الدولة».
بلغنا قرية كبيرة - بتروفو - عندما دنت ساعة الغروب، فوجدنا صمتا كصمت القبور قد ساد المكان، وكان معنا فلاح يهدينا الطريق إلى القسم السياسي، فقال: «لقد أكل الناس الكلاب جميعا، وهذا هو السر فيما ترون من سكون.» ثم أضاف إلى ذلك قائلا: «إن الناس لا يطيلون المسير، فليست لديهم قوة تعين على ذلك.» وقابلنا رئيس القسم السياسي، ومن ثم بعث بنا إلى كوخ لفلاح حيث نقضي المساء.
لم يكن يضيء الدار إلا سراج ضئيل، وكانت صاحبة الدار فلاحة شابة، خيل إلي أن قسماتها التي شفها الجوع، قد غاض منها كل الشعور، فلم يبق لها منه شيء حتى شعور الحزن والخوف، كانت قسماتها بمثابة قناع من الحياة يخفي وراءه الموت، وعلى مخدع ضيق في ركن من أركان الدار، رقد طفلان رقادا ساكنا كأنما فارقتهما الحياة، فلم يكن فيهما من علائم الحياة إلا عيون تنظر، فكنت إذا ما التقت تلك العيون بعيني، أهتز من ألم.
قال «يوري»: «يؤسفنا أن نقحم أنفسنا عليك إقحاما، لكننا لن نسبب لك عناء، وسنغادر الدار مع الصباح.» قال هذا بصوت متكلف خفيض كأنما كان يتحدث في غرفة مريض أو بين القبور.
قالت الشابة: «لقد حللتم أهلا، وإنما يؤسفني ألا أملك ما أقدمه إليكم، فلم تشهد دارنا لقمة من خبز طيلة أسابيع طوال، لدي قليل من بطاطس، لكني لا أجيز لنفسي أن نمضي في أكلها فنأتي عليها في وقت أقصر مما ينبغي.» ثم قالت وهي تبكي في صوت خافت: «ألهذه الغمة نهاية تنقشع بعدها، أم أنه لا منجاة لي ولصغاري من الموت كسائر الناس؟»
فسألتها: «وأين زوجك؟» - «لست أدري، أمسكوه! ولعلهم أبعدوه، كما أبعدوا أبي وأخي، لست أشك في أنهم قد خلفونا ها هنا لنلاقي حتفنا جوعا.»
صفحه نامشخص