اثر عرب در تمدن اروپایی
أثر العرب في الحضارة الأوروبية
ژانرها
كلمة في تقديم الطبعة الثانية
من هم العرب؟
العقائد السماوية
آداب الحياة والسلوك
التدوين
صناعات السلم والحرب
الأصل والنقل
الطب والعلوم
الجغرافيا والفلك والرياضة
الأدب
صفحه نامشخص
الفنون الجميلة
الموسيقى
الفلسفة والدين
أحوال الحضارة
الدولة والنظام
أثر أوروبا الحديثة في النهضة العربية
سداد الديون
الاجتماع والسياسة
الحكومة البرلمانية
الوطنية
صفحه نامشخص
الحركات الدينية
الأخلاق والعادات
الأدب والفن
الصحافة
إجمال
كلمة في تقديم الطبعة الثانية
من هم العرب؟
العقائد السماوية
آداب الحياة والسلوك
التدوين
صفحه نامشخص
صناعات السلم والحرب
الأصل والنقل
الطب والعلوم
الجغرافيا والفلك والرياضة
الأدب
الفنون الجميلة
الموسيقى
الفلسفة والدين
أحوال الحضارة
الدولة والنظام
صفحه نامشخص
أثر أوروبا الحديثة في النهضة العربية
سداد الديون
الاجتماع والسياسة
الحكومة البرلمانية
الوطنية
الحركات الدينية
الأخلاق والعادات
الأدب والفن
الصحافة
إجمال
صفحه نامشخص
أثر العرب في الحضارة الأوروبية
أثر العرب في الحضارة الأوروبية
تأليف
عباس محمود العقاد
كلمة في تقديم الطبعة الثانية
وصل إلى علمي - منذ ظهرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب - مراجع كثيرة في موضوعه لم أكن قد اطلعت عليها، كما ظهرت في المكتبة الأوروبية مئات من كتب البحث والرحلة تزخر بالمعلومات الجديدة عن الشرق العربي القديم والحديث؛ لأن فترة ما بعد الحرب - كما هو معلوم - صرفت جهود الباحثين والمستطلعين في الغرب إلى تحقيق أحوال الأمم الشرقية التي برزت بعد الخفاء في ميادين السياسة الدولية.
وكانت أمم الشرق العربي في مقدمة الأمم التي انصرفت إليها جهود أولئك الباحثين والمستطلعين؛ إذ كانت في موقعها المتوسط بين القارات الثلاث قبلة الأنظار، ومحور المقاصد، ومدار البحث في أصول التواريخ والعقائد، بل أصول الثقافة الأوروبية التي لا تعدو أن تئول إلى الديانات الكتابية أو ثقافة اليونان.
وأعود بعد المقابلة بين هذه المراجع الحديثة والمراجع التي اعتمدت عليها من قبل، فلا أرى اختلافا في النتيجة، مع هذه الزيادة الضافية في المعلومات ومصادرها المتعددة.
فليس فيما وصل إلينا عن تاريخ الثقافة العربية شيء ينقض قواعد الفكرة الغالبة عن أثر حضارة العرب في التاريخ الأوروبي الحديث، وإنما تتجه هذه الزيادة إلى التوكيد والتثبيت، ولا تتجه إلى النقض والتغيير، فمن المراجع الأخيرة نعلم - مثلا - أن أثر السلالة العربية أقدم جدا مما يظنه الكثيرون، وأنها توغل في القدم إلى ما قبل التاريخ، وقد يكون هذا الأثر نتيجة لهجرة العرب إلى القارة الأوروبية قبل هجرة القبائل الهندية الجرمانية إلى تلك القارة.
ويعزز هذا الرأي أن البلاد العربية كانت في تلك العصور القديمة أقدر على صناعة السفن، وأرقى عدة للملاحة في عرض البحار؛ لأنها كثيرة الغابات، موفورة المنابع التي يستخرج منها الطلاء واللحام.
صفحه نامشخص
ومن الباحثين اللغويين من يرجح نسبة بعض المواقع اليونانية إلى سلالة من العرب أسستها أو سكنتها في زمن مجهول، ومنها مدينة لاريسا (العريش)، ومدينة لسكرا (العسكر)، وجبل الفنديس (الفند)، وهو في العربية الجبل العظيم.
فالمراجع الحديثة تؤكد أثر العرب في القارة الأوروبية، وتعود به إلى أزمنة أقدم من تاريخه الذي كان مفروضا قبل جيل أو جيلين.
وهذه المراجع الحديثة تزودنا في العصور التاريخية بالبراهين التي كانت تعوزنا لتقرير بعض الحقائق، والخروج بها من دائرة الظن والاستنتاج المعقول ... فمنذ أربعين سنة كان المستشرق الإسباني بلاسيوس يظن أن الشاعر الإيطالي، دانتي أليجيري، قد استمد وصفه لمناظر الجحيم والأعراف والفردوس من الكتب الإسلامية التي تتكلم عن البعث وعن المعراج، وهو يشير إلى سبق أبي العلاء المعري إلى هذا الضرب من القصص في رسالة الغفران، ويبني ظنه على مجرد التشابه بين الأوصاف العربية والأوصاف التي ترددت في أناشيد الكوميدية الإلهية.
ولكن الدراسات الأخيرة تثبت وجود هذه الأوصاف العربية في المكتبة اللاتينية والإيطالية التي كانت متداولة في أيدي المثقفين من الإيطاليين في حياة دانتي، ويقول الدكتور محمد عوض محمد: إنه اطلع على هذه «الحلقة المفقودة» طبقا لعنوان الترجمة اللاتينية والفرنسية القديمة والإيطالية.
قال الدكتور الفاضل في محاضرة ألقاها بمؤتمر أندية القلم في مدينة طوكيو منذ سنتين: ... هذه الترجمة علمت كما هو منتظر في قصر الملك ألفونسو في إشبيلية، الذي كان يعد نفسه ملكا مزدوجا على المسلمين والنصارى على حد سواء. وفي حوالي عام 1264م قام الطبيب اليهودي، إبراهيم الفقين، بترجمة قصة المعراج المتداولة بين الناس إلى لغة قشتالة، وهذه الترجمة فقدت، غير أن العالم الإيطالي «بونا فنتورا» (1221-1274) تولى ترجمة هذا النص الإسباني إلى اللغتين اللاتينية والفرنسية.
ووجدت نسخ من هذه الترجمة في أكسفورد وباريس والفاتيكان، وهذه النصوص نشرت في وقت واحد بواسطة الأستاذ تشيرولي في إيطاليا، والأستاذ مونيوز في إسبانيا، وكلاهما لم يكتف بنشر هذا النص القديم الذي يرجع إلى عام 1264؛ أي في العام السابق لميلاد دانتي، بل تحدث أيضا عن أثره في كتاب دانتي.
وقد أورد الأستاذ جبرييلي أدلة عديدة تثبت أن هذه التراجم كانت متداولة وفي متناول الكتاب بوجه خاص، وأورد من جملة الأدلة قصيدة من مرتبة دون مرتبة دانتي بكثير، ولكنه معاصر له، ويشير فيها صراحة إلى محمد وقصة المعراج ...
فالمراجع الحديثة التي تستقصي البحث عن أثر العرب في الحضارة الأوروبية لم تغير شيئا من قواعد الفكرة الغالبة التي شرحناها في هذا الكتاب، وإنما استحدثت في هذا البحث توكيدا لها وأدلة عليها، ولا تزال تتجه كل عام إلى مزيد من التوكيد والتثبيت. •••
أما الشق الآخر من هذا الكتاب - عن أثر الحضارة الأوروبية في العالم العربي الحديث - فهو من مسائل العيان التي لا تلجئنا إلى تاريخ وراء ما نذكره ونشاهده يوما بعد يوم.
إن العالم العربي يتقدم في الاستفادة من حضارة الغرب، ويخرج من محنة الخضوع السياسي للدول الغربية بكيان مستقل، وحياة ثقافية تنسب إليه، وتوشك أن تسلك به مسلك المناظرة لأمم الغرب في ميادين الأدب والفن، ومسلك الاقتداء الناجح في ميادين العلم والصناعة ... ومن الآمال الصادقة - لا من الأماني الحالمة - أن تكون مهمة الكاتب عن أثر العرب في الحضارة الأوروبية وأثر الأوروبيين في حضارة العرب المحدثين مهمة الموازنة بين كفتين متقابلتين، قبل نهاية القرن العشرين.
صفحه نامشخص
ويعلم قارئ هذا الكتاب من نعنيهم باسم العرب في التاريخ القديم، فهم أولئك الأسلاف من المتكلمين بالعربية التي لم تكن في العالم عربية سواها قبل خمسة آلاف سنة. ويخلفهم اليوم بهذا الاسم جميع الناطقين بالضاد ممن يشتركون في تراث واحد، ويرتبطون بمصير واحد، كلما تميزت الأقوام بمصايرها في ميادين الفكر والعمل والاجتماع.
وصفوة القول في موقف العالم العربي اليوم أنه الموقف الذي يطيب فيه النظر إلى الغد، كما يطيب فيه النظر إلى الأمس، فلا يفرد فيه الفخر بالآباء دون الأمل في الأبناء.
عباس محمود العقاد
من هم العرب؟
هم أمة أقدم من اسمها الذي تعرف به اليوم؛ لأنها على أرجح الأقوال أرومة الجنس السامي التي تفرع منها الكلدانيون والآشوريون والكنعانيون والعبرانيون، وسائر الأمم السامية التي سكنت بين النهرين وفلسطين، وما يحيط بفلسطين من بادية وحاضرة. وقد تتصل بها الأمة الحبشية بصلة النسب القديم مع اختلاط بين الساميين والحاميين.
فهذه الأمم كلها تتكلم بفرع من فروع لغة واحدة هي أصل اللغات السامية، ويدل على تلك اللغة اشتراك فروعها في بنية الفعل الثلاثي الذي انفردت به بين لغات العالم بأسره، وتشابه الضمائر والمفردات وكثير من الجذور والمشتقات، فضلا عن التشابه في ملامح الوجوه وخصائص الأجسام، قبل أن يكثر التزاوج بينها وبين جيرانها من الأمم الآسيوية أو الأفريقية.
وإذا كان لهذه الأمم جميعا أصل واحد، فأرجح الأقوال وأدناها إلى التصور أن يرجع هذا الأصل إلى الجزيرة العربية لأسباب كثيرة؛ منها: أن التحول من معيشة الرعاة إلى معيشة الحرث والزرع والإقامة في المدن طور من أطوار التاريخ المعهودة، وليس من أطواره المعهودة أن يتحول الناس إلى معيشة الرعاة الرحل في بوادي الصحراء بعد الإقامة في الحواضر والبقاع المزروعة.
ومنها أن الجزيرة العربية - في عزلتها المعروفة - أشبه المواقع بالمحافظة على أصل قديم، وهي كذلك أشبه المواقع أن تضيق فيها موارد الغذاء عن سكانها فيهجروها إلى أودية الأنهار القريبة.
ومنها أن اتجاه الهجرة من ناحية البحرين وناحية الحجاز متواتر في الأزمنة التاريخية القريبة والبعيدة، وأقربها ما حدث بعد الإسلام في وقت واحد من زحف العرب على العراق وزحفهم على الشام في عهد الخليفة الصديق. وليس لدينا ما يمنع أن يكون التاريخ الحديث دليلا على التاريخ القديم، ولا سيما إذا خلا التاريخ كل الخلو من رواية يقينية أو ظنية تومئ إلى هجرة النهريين وسكان الأودية إلى الجزيرة العربية في زمن بعيد أو قريب، فإن السمريين سكان ما بين النهريين الأقدمين كانوا هنالك قبل عشرة آلاف سنة، ولم يصل إلينا قط خبر عن هجرتهم إلى مكان في الجزيرة العربية، كائنا ما كان موقعه من تلك البلاد، بل ثبت على التحقيق أن الساميين هم الذين هجروا مواطنهم إلى ما بين النهرين؛ حيث قامت العواصم التي تسمى بالأسماء السامية كمدينة بابل «باب الله» أو «باب إيل». •••
أما الرأي الآخر الذي يرجح أن الأمم السامية نشأت في بقعة من الأرض غير الجزيرة العربية، فأشهر القائلين به هو الأستاذ «جويدي الكبير»، العالم الإيطالي المعروف في القاهرة، وأقوى الحجج التي يستند إليها مستمد من مضاهاة اللغات السامية، وكثرة أسماء النبت والأمواه في لهجاتها الأولى. وعنده أن اشتراك اللغات السامية في هذه المفردات مما يدل على أرومة نشأت في بلاد مخصبة كثيرة الزروع والأنهار، ولم تنشأ في صحراء العرب وما شابهها من البقاع.
صفحه نامشخص
وهذا الرأي ضعيف لا يقوم بالحجة الناهضة، ولا تؤيده حالة الجزيرة العربية قبل الكشوف الحديثة بزمن طويل، فضلا عن حالة الجزيرة التي تدل عليها تلك الكشوف في طبقات الأرض وعوارض الجو وعلم الأجناس.
فالمروج الفيحاء والبقاع المخصبة لم تكن مجهولة قط في جنوب الجزيرة ولا في جوانبها الشرقية الشمالية عند البحرين ووادي اليمامة، وهي البقاع التي مر بها المهاجرون من قديم الزمن، تارة من اليمن إلى البحرين إلى ما بين النهرين وبادية الشام، وتارة من البحرين بداءة إلى ما وراءها من المشارف الشمالية.
ولم تزل بقاع اليمامة إلى ما بعد الإسلام مشهورة بالمراعي الواسعة، والعيون الثرارة، والأمطار الغزيرة، والمروج المعشبة التي تخلفت مما هو أخصب منها وأعمر بالإنسان والحيوان في أقدم الأزمان. وقد لاحظ الرحالة الألماني شوينفرت أن القمح والشعير والجاموس والمعز والضأن والماشية وجدت في حالتها الآبدة في اليمن وبلاد العرب القديمة قبل أن تستأنس في مصر والعراق.
وتبين من الكشوف العلمية في العهد الأخير أن الجزيرة العربية تعرضت لأدوار الجفاف وطوارئ الزلازل منذ عصور موغلة في القدم ، فكان القفر فيها يجور على الخصب في أدوار طويلة بعد أدوار أخرى على التدريج، قبل أن تجور الصحراء على معظمها في عصور التاريخ.
فحالة الجزيرة العربية كافية لتفسير التشابه بين لغات الساميين في ألفاظ الخصب والثمرات والأمواه، ولكن الرأي الآخر - رأي الأستاذ جويدي - لا يفسر لنا الفرض القائل بهجرة العرب مثلا مما بين النهرين أو من الشام إلى قفار الصحراء. وهو فرض لا دليل عليه من الروايات القديمة، ولا من الأحوال المرجحة على حسب التقدير المعقول، ولا من السوابق المألوفة كما رأينا الأمثلة عليها في التاريخ الحديث. •••
وعلى هذا يصح أن نعتبر أن سلالة العرب الناشئين في جزيرتهم الأولى قد سكنت أواسط العالم المعمور منذ خمسة آلاف سنة على أقل تقدير، وأن كل ما استفاده الأوروبيون من هذه البقاع في هذه العصور هو تراث عربي أو تراث انتشر في العالم بعد امتزاج العرب بأبناء تلك البلاد.
وليس هذا التراث بقليل؛ لأنه يشتمل على كل أصل عريق - عند الأوروبيين - في شئون العقل والروح، وأسباب العمارة والحضارة؛ وهي: (1) العقائد السماوية، و(2) آداب الحياة والسلوك، و(3) فنون التدوين والتعليم، و(4) صناعات السلم والحرب وتبادل الخيرات والثمرات.
العقائد السماوية
والأديان الكتابية هي أول ما يخطر على البال حين يجري الكلام على العقائد السماوية التي تلقاها الأوروبيون من تراث الجزيرة العربية، أو من تراث الأمم السماوية؛ لأن الأديان الكتابية الثلاثة - وهي الموسوية والمسيحية والإسلام - ظهرت وانتشرت بين سلالات الجزيرة العربية، على اختلاف موعدهم من الهجرة منها إلى الأقطار التي تليها.
ولكننا لا نعني هذه الأديان حين نتكلم في هذا الفصل عن العقائد السماوية؛ لأنها من وقائع العيان التي لا تزال قائمة في وقتنا الحاضر بغير حاجة إلى استقراء التواريخ، ومضاهاة الأخبار والروايات.
صفحه نامشخص
وإنما عنينا بالعقائد السماوية كل ما عرفه الأوروبيون الأقدمون عن السماء وأفلاكها ومداراتها، وسلطانها المزعوم على الأرضين، وطوالعها النافذة في جميع الأحياء، سواء ما انطوى منها تحت عنوان «علم الفلك»، أو ما انطوى تحت عنوان الكهانة والتنجيم.
فمما لا خلاف عليه أن العرب نشئوا في بلاد أصحى سماء، وأسطع فضاء من البلاد الأوروبية، وأنهم سبقوا أبناء البلاد الغائمة والآفاق المحجبة إلى رصد النجوم، ومراقبة المطالع والمغارب في القبة الزرقاء؛ لأنهم على سهولة الرصد عندهم كانوا في حاجة دائمة إلى توسم المطر، وترقب الأنواء، والخبرة بمواقيت الإدلاج والإسراء في رحلاتهم الطويلة بالصحراء.
ووافق علمهم هذا علم المدائن والأمصار التي قامت بين النهرين؛ إذ من المحقق أن تقسيم الأشهر والأيام كما شاع في بلاد الكلدانيين والساميين قد كان عليه طابع اللغة العربية القديمة، وأن النسيء في حساب الأشهر، والأسبوع في حساب الأيام كانا من المخلفات السامية في تلك البلاد، وظلت بقاياه بين العرب في الصحراء إلى ما بعد الإسلام.
وكائنا ما كان الرأي في الاقتباس من الحضارات السمرية بين النهرين، فليس «الأسبوع» من عمل السمريين، ولم يظهر بينهم قبل ظهور البابليين.
وعن هذه الأقوام العربية الأولى تلقى الأوروبيون عقائدهم عن الأسبوع، وأرباب الأيام وسلطانها على الأحياء أو على الأحداث والزروع والضروع.
ولا تزال أسماء الأيام الإفرنجية تحمل طابع العقائد «السماوية» كما كان يعتقدها أسلاف العرب المعرقون في القدم، وتتداولها لغات الغربيين إلى هذه الساعة التي نحن فيها.
جاء في الجزء الأول من إخوان الصفاء عن أوائل ساعات الأيام: «اعلم أن الليل والنهار وساعاتهما مقسومة بين الكواكب السيارة؛ فأول ساعة من يوم الأحد للشمس، وأول ساعة من يوم الاثنين للقمر، وأول ساعة من يوم الثلاثاء للمريخ، وأول ساعة من يوم الأربعاء لعطارد، وأول ساعة من يوم الخميس للمشترى، وأول ساعة من يوم الجمعة للزهرة، وأول ساعة من يوم السبت لزحل ...»
ونضرب صفحا عن تقسيم الليالي والساعات؛ لأن تقسيم أوائل الأيام يغنينا فيما نحن فيه، فيوم الأحد يعرف في الإنجليزية باسم «سنداي»
Sunday
أو يوم الشمس.
صفحه نامشخص
ويوم الاثنين يعرف باسم «منداي»
Monday
أو يوم القمر، ويوم الثلاثاء يعرف باسم «ثيوزداي»
Tuesday
أو يوم «ثيوز»؛ إله الحرب عند أمم الشمال الأولى، وتوضحه التسمية الفرنسية لهذا اليوم؛ لأن يوم الثلاثاء يعرف فيها باسم
Mardi
أو يوم مارس، وهو المريخ.
ويوم الأربعاء يعرف في الإنجليزية باسم «ودنزداي»
Wednesday
أو يوم «ودين»؛ إله المعارف والفنون عن قدماء التيوتون، وتوضحه التسمية الفرنسية أيضا؛ لأن يوم الأربعاء يعرف فيها باسم
صفحه نامشخص
Mercredi ؛ أي يوم عطارد، وهو بالفرنسية
Mercure
أو بالإنجليزية
Mercury .
ويوم الخميس يعرف في الإنجليزية باسم «ثورزداي»
Thursday ، أو يوم «ثور» إله الرعد عند قدماء التيوتون، وتوضحه التسمية الفرنسية؛ لأن يوم الخميس فيها يعرف باسم
Jeudi ؛ أي المشترى أو الإله جوبيتر
Jovis dies . ويرجع هذا الاسم «ياهو»
Jehova
الذي يشير به أبناء الأمم السامية إلى الله، ولا يزال كثير من العرب حتى اليوم يستغيثون بالله فينادون «يا هو!»
صفحه نامشخص
ويوم الجمعة يعرف في الإنجليزية باسم «فرايداي»
Friday ، أو يوم الربة فريج
Frig
زوجة عطارد ومقابلة الزهرة في صفاتها، وتوضحه التسمية الفرنسية؛ لأن يوم الجمعة يعرف فيها باسم يوم الزهرة
Vendredi ، أو يوم فينوس.
ويوم السبت يعرف في الإنجليزية باسم «ساترداي»
Saturday ، أو يوم زحل
Saturn
في تلك اللغة إلى اليوم. •••
ويتبين من معاني أيام الأسبوع عندهم أن عقائد التنجيم التي أخذوها عن السلالات العربية قد تغلغلت في شعوبهم الأوروبية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وهي العقائد التي ترتبط بالمعيشة اليومية، وطوالع الأوقات، وسلطان الأفلاك العليا على الأحياء وحوادث الأيام.
صفحه نامشخص
فهي على هذا أكبر شأنا وأشد إيغالا في الحياة من تسمية مقتبسة من تقويم منقول.
وقد اصطبغت حياتهم العاطفية بما تلقوه من أسماء تلك الأرباب وخصائصها، فشملت الشعور بالقداسة، والشعور بالغضب، والشعور بالحب والغرام والجمال.
فاسم الإله الأكبر
Jove
أو
Jehova
مأخوذ كما قدمنا من اسم «ياهو» الذي يجري على ألسنتنا إلى أيامنا الحاضرة.
وإله الغضب والحرب عندهم مأخوذ بلفظه ومعناه عند الساميين الأقدمين؛ لأن
Mars
هي تصحيف ظاهر لكلمة المريخ.
صفحه نامشخص
وربة الحب أو العذراء الفاتنة «فينس» هي تصحيف كلمة «بنت» السامية، وكانت تكتب عندهم بالباء ثم صحفت إلى الفاء كما يقع ذلك في كثير من الأسماء، وهكذا فعلوا بأسماء الزهرة الأخرى، فصحفوا عشتار إلى «استار»؛ أي النجمة، وهي عثتار في اللغة العربية اليمانية القديمة، ثم عرفها الساميون في شمال الجزيرة العربية باسم عشتار وعشتروت.
وكذلك أخذوا أدونيس
Adonis
إله الفتوة والجمال من «أدوناي»، بمعنى السيد أو الرب عند الكنعانيين.
فهم قد مزجوا معيشتهم اليومية وحياتهم العاطفية بعقائد السماء التي تلقوها عن السلالة العربية، ولم يقصروا النقل على علم الفلك ولا أزياج النجوم؛ فإنهم - كما سيلي في بعض فصول هذا الكتاب - قد ظلوا ينقلون عن العرب في هذا العلم إلى ما بعد الإسلام بزمن طويل، وقد بقيت في لغاتهم عشرات الأسماء العربية للكواكب والمصطلحات الفلكية بتحريف قليل أو بغير تحريف.
آداب الحياة والسلوك
وقد كانت المدرسة الكبرى المعنية بآداب الحياة والسلوك - بين مدارس الفلسفة التي اشتهرت باسم «الفلسفة الإغريقية» - هي مدرسة شرقية في أصول أساتذتها، وأصول مبادئها، وأصول تفكيرها التي انفردت بها بين أصول التفكير الغالبة على عقول حكماء الإغريق الأصلاء.
ونعني بتلك المدرسة الشرقية الرواقيين؛ فقد كان رأس هذه المدرسة «زينون» من أصل «كنعاني» أو فينيقي كما كان الإغريق يسمون بعض الكنعانيين، وكان مولده على الشاطئ الشرقي من جزيرة قبرص في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد.
وكان من أقطاب هذه المدرسة من ولد في صيداء، ومن ولد على ضفاف نهر العاص أو نهر دجلة.
وكان لها شأن جليل في الثقافة الإغريقية، ثم في الثقافة الرومانية، ثم في المدرسة الأفلاطونية التي نشأت بالإسكندرية، وبقي لها هذا الشأن في تفكير الأوروبيين وآداب سلوكهم إلى عصور النهضة والإصلاح الديني وما لازمه من ضروب الإصلاح الأدبية، فكانت الفلسفة الرواقية هدى لطلاب الإصلاح في طلب الكمال، وطلب السعادة، وطلب الحكمة العلمية في الحياة.
صفحه نامشخص
وحسبك شاهدا على مكان هذه المدرسة من السيطرة على الآداب الأوروبية في دولة الرومان، أن سنيكا وشيشرون وإبيكتيتس ومارك أورليوس كانوا من أتباع الرواقيين، وأنها المدرسة التي طاولت كل مدرسة أخرى في أمد البقاع واتساع النطاق، فلم تضارعها في طول بقائها واتساع نطاقها مدرسة فلسفية نشأت على عهد الإغريق والرومان، وأن النمط الرواقي في الحياة كان ولم يزل بين الغربيين قدوة الرجل الكامل - أو طالب الكمال - إلى عهد ديكارت الفرنسي، وإمرسون الأمريكي، ومن تتلمذ عليهما إلى هذا الجيل.
وقد كان طابع الذهن السامي - ونكاد نقول: طابع الجزيرة العربية - ملحوظا على كل ما علمته المدرسة الرواقية في باب الغيبيات، أو باب العلم الطبيعي، أو باب الأخلاق.
فكانت تدين بالتوحيد ونسبة الفعل كله إلى الله، والانفعال كله إلى المادة، وقد تميل أحيانا إلى وحدة الوجود فيما طرقته من بحوث ما وراء الطبيعة.
وكانت ترى في باب العلم الطبيعي أن الشيء الموجود هو الذي يفعل أو ينفعل، ولا وجود لغير ذلك من الفروض المثالية أو الفروض الخيالية؛ فكل ما في الكون مرجعه إلى الحس والتجربة، وقدرة الفعل والانفعال.
ولعلهم كانوا في هذا الباب روادا سابقين للمدرسة التجريبية التي ظهرت بعدهم بألفي سنة. ويعزو «سترابو»، الجغرافي الكبير، إلى موخوس الصيداوي أنه أول من قال بالجوهر الفرد قبل حرب طروادة. ويستند في هذا الخبر إلى رواية بوسيدنيوس، الفيلسوف الرواقي المعروف، وهو سبق له معناه في عصر الكلام على الجوهر الفرد والقنبلة الذرية.
أما في الأخلاق، فلا قيمة عندهم للبحث الفلسفي إن لم يكن له نفع في طلب الحياة الفاضلة، ونشدان السعادة، والتطلع إلى الكمال. ومساك الأخلاق المثلى عندهم ضبط النفس، وتربية الإرادة، واجتناب المطامع والشهوات.
وليس من العسير تعليل هذه النزعة الرواقية، أو هذه الفلسفة العربية القديمة؛ لأنها تنبعث من مصادر ثلاثة كل منها خليق أن يتجه بها هذا الاتجاه؛ وهي: سلطان القبيلة، وسلطان الدين، وسلطان الدولة والنظام.
فالقبيلة تفرض على أبنائها حياة الصبر والشظف، والمحافظة على التراث القديم، وتجعل كل فرد من أبنائها مسئولا عن القبيلة بأسرها، فعليه من أجل ذلك حساب عسير في كل صلة بين سائر الأفراد من تلك القبيلة، أو من أبناء القبائل الأخرى، وغاية ما يحذره الرجل في ظل هذا السلطان أن «يخلع»؛ فيصبح كما يسمونه خليعا لا حساب عليه.
ثم يأتي سلطان الدين والكهانة بعد انتظام القبيلة في دور الحضارة والعرف الموروث، ولم تفترق الكهانة القديمة عن المواسم والآداب التي تلتزم في آداب المعيشة والسلوك، ويتعرض الخارج عليها لخطر جسيم يضارع خطر «الخلع» أو يزيد عليه؛ لأنه يخلعه من حظيرة قومه وحظيرة الله على السواء.
ويتمشى مع سلطان الدين سلطان النظام والقانون في الدولة المهيبة قائما على ركنين من وشائج العصبية وفرائض العبادة، أو قائما على الحاسة الموروثة في عنصر النسب، وعلى العقيدة المستقرة في الضمير.
صفحه نامشخص
فإذا اتفقت هذه المصادر الثلاثة على إنشاء مدرسة من مدارس الحكمة، فلن يكون عجيبا أن تنشأ هذه المدرسة على مثال الرواقيين، فإن نشأتها بين السلالات العربية مفهومة قريبة التعليل، وإنما المستغرب الذي يخفى تعليله للوهلة الأولى أنها انتشرت في البيئة الإغريقية والبيئة الرومانية أو البيئة الأوروبية على الإجمال، فلولا ما أصاب العالم الأوروبي من القلق النفساني بعد فتوح الإسكندر وقبل الدعوة المسيحية لتعذر فهم ذلك الانتشار.
التدوين
ولا تستطاع المبالغة فيما استفاده البشر من اختراع طريقة لإثبات المعاني بالحروف، وإثبات الأعداد بالأرقام؛ فإن تدوين المعارف البشرية كلها راجع إلى هذا الاختراع النفيس.
ومما يقل فيه الخلاف بين المؤرخين والمنقبين أن حروف الكتابة العربية والكتابة الإفرنجية ترجع إلى مصدر واحد، وأن الأوروبيين اعتمدوا على الكنعانيين أو الإرميين في اقتباس حروفهم الأولى، وهي مشابهة في لفظها ورسمها لبعض الحروف السامية، ولا سيما الألف والباء والجيم والدال، وكلها ذات معان معروفة في لغات الساميين.
ومعظم الباحثين في هذا الموضوع يرجحون أن الحروف الكنعانية أو الإرمية تدرجت من حروف مصرية مأخوذة عن الصور الهيروغليفية القديمة، وأن اللوحة التي عثر بها سير فلندرس بتري، في شبه جزيرة سيناء (سنة 1906)، تشتمل على النموذج الوسط بين الصور القديمة والحروف الأبجدية كما نشرها الكنعانيون والإرميون. ويقدرون أن هذه اللوحة ترجع إلى أقدم من ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة. وقد كان الإرميون في ذلك العهد يعيشون في شبه جزيرة سيناء.
ولعل الصور الهيروغليفية في مصر سبقت مثيلاتها في بلدان العالم لتوافر ورق البردي ومداد الكتابة الثابت في وادي النيل. ولكن الأوروبيين لم يقتبسوا مباشرة من وادي النيل لحرص الكهنة على إخفاء هذه الأسرار ... فلما بلغت من الزمن طور الحروف الشائعة أمكن أن تنتقل إلى جوار مصر في سيناء وتخومها الشرقية، حيث أقام الإرميون والكنعانيون .
ومما لا شك فيه أن فضل النشر والتعميم لأبناء الجزيرة العربية في هذا الاختراع النفيس؛ لأنهم نقلوه إلى الأقطار الآسيوية كما نقلوه إلى الأقطار الأوروبية، فأخذ الهنود حروفهم من اليمن كما أخذ الإغريق حروفهم من عرب الشمال بفلسطين.
وطريقة الترقيم الحسابية أحدث كثيرا من طريقة الكتابة بالحروف، ولكن تقويم الحروف بالقيم الحسابية قديم في الشعوب السامية، ولما اقتبسوا الأرقام الهندية بعد الإسلام صقلوها، وأضافوا إليها علامة الصفر والطريقة العشرية، ومن ثم عرفت هذه الأرقام عند الأوروبيين باسم الأرقام العربية، ولا يزال اسم الصفر عندهم «زيرو»
Zero
محرفا عن اسمه فيها.
صفحه نامشخص
صناعات السلم والحرب
ويرى «إسحاق تايلور»
Issac Taylor
أن الإغريق اقتبسوا نظام الأوزان وسك النقود عن البابليين من طريق الإرميين فالليديين في آسيا الصغرى.
وقد كان للإرميين بطون في العراق وبطون في سيناء وفلسطين، فكانوا ينشرون ما اقتبسوه من وادي النهرين ووادي النيل على السواء، وكان الإغريق على اتصالات بهم في الموانئ الشرقية من آسيا الصغرى إلى تخوم سيناء، فنقلوا عنهم وسائل الحضارة والتجارة قبل أن يهتدي إليها أبناء القارة الأوروبية بزمن طويل.
والإغريق ملاحون قدماء في صناعة الملاحة، ولكنهم لم يسبقوا الكنعانيين إلى هذه الصناعة؛ لأن هؤلاء قد عكفوا على نقل التجارة البحرية وأوشكوا أن يحتكروها في شرق البحر الأبيض إلى ما بعد أيام الإسكندر ونشأة الإسكندرية، وأعانهم على تجويد الملاحة كثرة الأخشاب الصالحة لبناء السفن في أرض كنعان، وكثرة المحاصيل التي يحتاجون إلى بيعها والمبادلة عليها في الموانئ القريبة أو البعيدة، ووقوع بلادهم على شواطئ بحر تفضي إليه التجارة الآسيوية في أبعد الأقطار.
وربما تعلم الإغريق صناعة السفن من الكنعانيين أو من البابليين، وقد تفيدنا هنا قصة نوح وسفينته؛ لأنها سفينة ورد لها ذكر في التاريخ، ولا شك أنها لم تبن في بلاد الإغريق، بل بنيت في بلاد قريبة من بلاد التوراة، أو قريبة مما بين العراق وفلسطين، وقد وجدت آثار السفن الفينيقية القديمة الجنوبية. وقد ذكر هيرودوت رحلات الفينيقيين والمصريين في عهد الفرعون نيخاوس، وكانوا أول من عرف الأمم في ساحل أفريقيا الشرقية معرفة يقين. إنما كان الإغريق يعرفونهم على أيام هوميروس معرفة سماع.
فإذا كان تحقيق السبق عسيرا اليوم، فالأمر الذي لا يعسر تحقيقه أن الكنعانيين - أو الفينيقيين كما سماهم الإغريق - توسعوا في الملاحة وإقامة المستعمرات البحرية البعيدة توسعا لم يبلغه الإغريق في الزمن القديم، وأنهم إذا كانوا قد اقتبسوا الموازين والنقود والكتابة وأرصاد النجوم وخصائص الأيام الفلكية عن الساميين، فليس بالبعيد أنهم تلقوا عنهم دروسا في الملاحة والتجارة، وبناء السفن وتوجيهها في البحر على حسب الطوالع والنجوم.
ومما يلاحظ في سياق الكلام على مقتبسات الإغريق من الدول السابقة في شئون الحياة اليومية وشئون الحضارة عامة، أن أبقراط الملقب بأبي الطب قد نشأ في جزيرة كوس، وأن جالينوس أشهر الأطباء اليونان بعده قد نشأ في آسيا الصغرى، وأنهما قد ساحا في أرض كنعان وإرم كما ساحا في الديار المصرية، ولا خلاف في اقتباس أبقراط وجالينوس من طب الفراعنة القديم، ولكن المعارف التي اقتبسها أهل آسيا الصغرى من كنعان وبابل لا بد أن تشمل المعارف الطبية التي تلازم الحضارات العريقة، ولا يمكن أن تستثنى منها بفرض من الفروض. •••
وتلك هي خلاصة الحضارة القديمة في كلمات معدودات، فلم تكن هناك صناعة من صناعات السلم لم يتتلمذ فيها الإغريق على أمة من سلالة الجزيرة العربية، أو لم يكونوا فيها لاحقين على إثر سابقين.
صفحه نامشخص
وعلى هذا الاعتبار - أي اعتبار الساميين جميعا من سلالة الجزيرة العربية - يجب أن يعود إليهم فضل الفنون الحربية التي استفادها الرومان من القائد القرطاجي المشهور باسم هنيبال؛ فإن معركة «كاني»
Gannae
التي هزم فيها الرومانيين بنصف عددهم على وجه التقريب لا تزال محورا للبحث والمناقشة، ومرجعا للدرس والتعلم في أحدث مدارس أوروبا العسكرية، وهي على هذا لم تكن إلا فنا من فنون كثيرة فوجئ بها الرومانيون من أساليب ذلك القائد العظيم في نقل الجنود بالبر والبحر، والنزول بهم على الشواطئ المكشوفة، والصعود بهم إلى قلل الجبال، واستخدام السفن المبتكرة في البحر، وابتكار الخطط السريعة لتسخير الحيوان في المعارك البرية، ومنه الفيل والحصان.
ولو شاء المؤرخ أن يعد هنيبال عربيا بحتا - ولا يجعله من السلالة العربية وحسب - لكانت له قرينة من اسمه واسم وطنه وتاريخ ظهوره ... فإنه ظهر في القرن الثالث قبل الميلاد حين كانت الأمة العربية قد شارفت طورها الحديث الذي بقيت عليه إليه اليوم، وكانت في اسمه لهجة العربية كما كانت تلفظ في ذلك الزمان، أو على نحو مقترب منها غاية الاقتراب؛ لأنه سمي «حنى بعل»، وهو اسم يرادف نعمة بعل أو نعمة الله. وسميت بلدته «قرية حداش» أو القرية الحديثة، فصحفت إلى قرتاش فقرطاج - بتعطيش الجيم - كما نطق بها الرومان. وكان اسم أبيه حامي القرية أو «هاملكار» بعد التصحيف والتحريف. •••
وخلاصة ما تقدم أن الأوروبيين تتلمذوا على أبناء الجزيرة العربية في مسائل العقيدة ومسائل الحضارة والمعيشة اليومية، قبل أن تبلغ أوروبا مبلغ المعلم لغيره في أمر من الأمور.
ولا يقدح في هذا أن السمريين - سكان ما بين النهرين الأولين - كانوا شعبا من شعوب العنصر الآري، كما جاء في بعض التقديرات التي تستحق النظر والترجيح.
فإن المحقق الذي لا تختلف فيه الظنون أن المعارف الفلكية التي وصلت إلى الأوروبيين، وبنوا عليها عقائدهم في الكواكب والأيام مصبوغة بالصبغة البابلية، سواء في الأسماء أو الصفات، وأن الكتابة قد وصلت إلى الأوروبيين والهنود من طريق أبناء الجزيرة العربية في أقصى الشمال أو أقصى الجنوب، وأنه مهما يكن الظن بالابتكار في أطواره الأولى، فالطابع السامي ظاهر على أول ما اقتبسه الأوروبيون من دروس الفلك والكتابة والحكمة الرواقية، وبعض أسباب التجارة والملاحة والعمارة، وليس في شيء من ذلك، لا في غيره، طابع ظاهر للسمريين.
الأصل والنقل
الأصالة قدر مشترك بين جميع الحضارات، فكل حضارة أبدعت ونقلت، وكانت لها سمة تميزها بين الحضارات العالمية، ولم توجد قط حضارة تفردت بالإبداع، أو تفردت بالنقل، أو خلت من السمة التي تميزها بين سمات الحضارة.
إلا أن البدعة الحديثة التي نشأت حول الآرية والسامية قد جنحت بالأوروبيين منذ ظهرت فيهم إلى اختصاص الحضارة العربية بالنقل دون الإبداع، وحببت إليهم أن يميزوا عليها حضارات الأمم الآرية - ولو كانت شرقية - بملكة الإبداع والتفكير الحر، ولا سيما في المباحث النظرية التي يراد بها العلم للعلم، ولا يراد بها العلم للتطبيق أو للانتقاع به في مرافق المعيشة؛ لأن تمييز الشرقيين الآريين ينتهي إلى تمييز العنصر الأوروبي في أصوله الأولى، وهي الدعوى التي يسوغ بها سيادته على أمم العالمين.
صفحه نامشخص
وقال منهم قائلون: إن هذه السمة - سمة النقل - لازمت الجنس العربي منذ كان له تاريخ متصل بتاريخ العالم في أقدم العصور، فالسمريون سبقوا الأمم العربية فيما بين النهرين، وبلغوا شأوا عظيما من الحضارة والعمران تدل عليه الآثار التي بقيت بعدهم، ولا تزال فضلة منها كافية لتقديرها أحسن تقدير؛ فلا جرم كان البابليون الكلدانيون مسبوقين إلى حضاراتهم فيما بين النهرين، ولم يكونوا فيها سابقين ولا مبتدعين.
ولما تجدد ظهور العرب بعد الإسلام كانت لهم حضارة، ولكنها كانت كذلك حضارة منقولة، ولم تكن بالحضارة المبتدعة على أيديهم، وثبتت سمة النقل بإحصاء أسماء العلماء والمفكرين الذين نهضوا بأمانة الثقافة في ظل الدولة العربية، فإنهم كلهم - إلا القليل منهم - كانوا من الشعوب الأعجمية التي دانت بالإسلام، ولم يكونوا من العرب الأصلاء، وتلك هي الحجة التي يستند إليها دعاة العصبية الأوروبية في تجديد الأمم التي لا تتوشج بينها وبين الأوروبيين واشجة قرابة، من مزايا الإبداع والتفكير.
وهذا الكتاب - فيما نرى - هو موضع الفصل في هذه الدعوى الشائعة، أو هو على الأقل موضع الإشارة إلى البيئة الراجحة والبيئة المرجوحة من أقوال دعاتها؛ لأن تمحيص المزايا العربية هو قوام الكلام على آثار العرب في الحضارة الأوروبية.
وأول ما يوجب التشكيك في هذه الدعوى أن نسأل: أين هي الحضارة التي أبدعت ولم تنتقل؟ وأين هي الحضارة التي يقال عن جميع علمائها: إنهم من عنصر محض خالص ينتمون إليه ولا يمتزج بالعناصر الأخرى؟
فالإغريق نقلوا قبل أن يبدعوا، وعلماؤهم - كما أشرنا إلى ذلك في غير هذا الموضع - قد نبغوا في آسيا الصغرى وجزر الأرخبيل وصقلية والإسكندرية وفلسطين والشام وتخوم العراق، ولم ينحصر نبوغهم في مكان واحد يقال إنه هو موطن العنصر الخالص الذي لا يشوبه عنصر دخيل.
ويصدق هذا على الهند وفارس والصين، كما يصدق على أية أمة من سلالات الأوروبيين المحدثين.
ولا شك أن السمريين الأقدمين كانوا سلالة أخرى غير السلالة العربية؛ لأنهم يخالفونها في معدن اللغة وخصائص المزاج، ولكن الجزم بمنشئهم الأصيل أمر لم ييسر للباحثين إلى يومنا هذا؛ فقد تباين القول في منشئهم حتى قال أناس: إنهم من المغول، وقال آخرون: إنهم من المصريين، وقال غير هؤلاء وهؤلاء: إنهم أوروبيون منحدرون من الشمال.
إلا أن القول بأن العرب الذين وفدوا إلى بلادهم لم يبدعوا شيئا غير ما أبدعه السمريون هو محض تخمين وتظنين؛ لأن العالم لم يتلق عن السمريين أثرا من آثار حضارتهم في حينها، ولما اتصلت العلاقة بين بلادهم وما جاورها كانت السمات العربية ظاهرة في معدن اللغة، وعادات الاجتماع، ومزايا التفكير؛ فلا موضع هنا للجزم بأن العرب نقلوا ولم يبدعوا، وأن السمريين قبلهم أبدعوا ولم ينقلوا، مع جهلنا كل الجهل بما أبدعوه وما نقلوه.
أما في العهد الإسلامي فقد اشتركت الأمم الأعجمية حقا في أمانة الثقافة، وكان لفضلائها قسط عظيم في مختلف العلوم والدراسات، ولكنها لم تنهض هذه النهضة إلا بعد ظهور الإسلام فيها، ولم تكن لها في إبان مجدها القديم فضلة على العنصر العربي في الدراسات النظرية التي يراد بها العلم للعلم، ولا يراد بها العلم للتطبيق أو للانتفاع به في مرافق المعيشة.
وكل نظر صحيح في هذه المسألة يوجب الشك في السبب الذي يردها إليه دعاة العصبية العنصرية، وهو العجز الأصيل في تفكير العربي، وقلة استعداده للبحث الفلسفي، والدراسة النظرية، والاهتمام بالمعرفة والاستطلاع لغير الكسب والانتفاع، مثال ذلك: أن الذين جمعوا الحديث في أول حركة الجمع كانوا من الأعاجم، وكانوا أقلهم من العرب الأصلاء، ولم يقل أحد قط: إن العربي تعوزه ملكة الرواية وحفظ الأنساب والإسناد، وهو الذي وعى بالمحافظة من أنسابه وإسناده ورواياته ما لم يدخل في وعي أمم كثيرة من أمم البداوة أو الحضارة .
صفحه نامشخص