306

التوضيح الرشيد في شرح التوحيد

التوضيح الرشيد في شرح التوحيد

ژانرها

- قَوْلُهُ (عَجَّلَ لَهُ العُقُوْبَةَ فِي الدُّنْيَا): أَرَادَ المُصَنِّفُ ﵀ الإِرْشَادَ إِلَى أَنَّ المَصَائِبَ قَدْ يَكُوْنُ فِيْهَا مَنْفَعَةُ العَبْدِ، فَتَكُوْنُ نِعْمَةً فِي حَقِّهِ، وَهَذَا مِمَّا يَحْمِلُهُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا وَالاحْتِسَابِ وَالاسْتِرْجَاعِ، فَتَكُوْنُ المُصِيْبَةُ فِي تِلْكَ الحَالِ خَيْرًا لَهُ.
وَفِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ عَنْ صُهَيْبٍ مَرْفُوْعًا (عَجَبًا لِأَمْرِ المُؤْمِنِ؛ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ - وَلَيْسَ ذلِكَ لأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ -، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ وَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا لَهُ). (١)
وَكَمَا فِي حَدِيْثِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ ﷺ دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ - أَوْ أُمِّ المُسَيَّبِ - فَقَالَ: (مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ - أَوْ يَا أُمَّ المُسَيَّبِ - تُزَفْزِفِيْنَ؟) (٢) قَالَتْ: الحُمَّى، لَا بَارَكَ اللهُ فِيْهَا، فَقَالَ: (لَا تَسُبِّي الحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الكِيْرُ خَبَثَ الحَدِيْدِ). (٣)
- فِي حَدِيْثِ أَنَسٍ هَذَا قَوْلُهُ ﷺ (أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ) مَعَ قَوْلِهِ أَيْضًا ﷺ فِي حَدِيْثٍ آخَرٍ (وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ) (٤) تَفْصِيْلٌ: وَهُوَ أَنَّ الخَيْرَ وَالشَّرَّ مَخْلُوْقَانِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ الشَّرَّ لَيْسَ مَقْصُوْدًا ابْتِدَاءً، بَلْ هُوَ خَيْرٌ فِي حَقِيْقَتِهِ، فَيَظْهَرُ فِيْهِ فَضْلُ اللهِ تَعَالَى عَلَى الصَّابِرِ، وَعَدْلُهُ مَعَ الكَافِرِ. قَالَ العُلَمَاءُ: أَفْعَالُ اللهِ تَعَالَى كُلُّهَا حِكْمَةٌ؛ تَدُوْرُ بَيْنَ العَدْلِ وَالفَضْلِ. (٥)
- أَوْجُهُ بَيَانِ أَنَّ المَصَائِبَ نِعْمَةٌ: (٦)
١) مُكَفِّرَاتٌ لِلذُّنُوبِ (كَمَا فِي حَدِيْثِ أَنَسٍ - عَجَّلَ لَهُ العُقُوْبَةَ -).
٢) تَدْعُو إِلَى الصَّبْرِ؛ فَيُثَابُ عَلَيهَا - كَمَا فِي آيَةِ البَابِ -. (٧)
٣) تَقْتَضِي الإِنَابَةَ إِلَى اللهِ وَالذُّلَّ لَهُ، حَيْثُ يَسْتَشْعِرُ العَبْدُ ضَعْفَهُ وَحَاجَتَهُ إِلَى رَبِّهِ، وَيَظْهَرُ افْتِقَارُهُ إِلَيْهِ، فَتَظْهَرُ عُبُودِيَّتُهُ لَهُ سُبْحَانَهُ. (٨)
٤) رَفْعُ الدَّرَجَاتِ (٩)، كَمَا فِي الحَدِيْثِ (يَوَدُّ أَهْلُ العَافِيَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ - حِينَ يُعْطَى أَهْلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ - لَوْ أَنَّ جُلودَهُمْ كانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيْضِ). (١٠)

(١) مُسْلِمٌ (٢٩٩٩).
وَعِنْدَ أَحْمَدَ (١٦٨٠٦) مِنْ حَدِيْثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ؛ أَنَّ رَجُلًا لَقِيَ امْرَأَةً كَانَتْ بَغِيًّا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَجَعَلَ يُلَاعِبُهَا حَتَّى بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ المَرْأَةُ: مَهْ! فَإِنَّ اللهَ ﷿ قَدْ ذَهَبَ بِالشِّرْكِ، وَجَاءَنَا بِالإِسْلَامِ، فَوَلَّى الرَّجُلُ فَأَصَابَ وَجْهَهُ الحَائِطُ فَشَجَّهُ؛ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَأَخْبَرَهُ؛ فَقَالَ: (أَنْتَ عَبْدٌ أَرَادَ اللهُ بِكَ خَيْرًا، إِذَا أَرَادَ اللهُ ﷿ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَجَّلَ لَهُ عُقُوْبَةَ ذَنْبِهِ، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرًّا أَمْسَكَ عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَفَّى بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ). صَحِيْحٌ. اُنْظُرْ تَخْرِيْجَ كِتَابِ (كَلِمَةُ الإِخْلَاصِ وَتَحْقِيْقُ مَعْنَاهَا لِلحَافِظِ ابْنِ رَجَب) (ص٤٧) لِلشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ ﵀.
(٢) قَالَ النَّوَوِيُّ ﵀ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (١٣١/ ١٦): «تُزَفْزِفِيْنَ): مَعْنَاهُ: تَتَحَرَّكِيْنَ حَرَكَةً شَدِيْدَةً، أَيْ تَرْعَدِيْنَ).
(٣) مُسْلِمٌ (٢٥٧٥).
(٤) وَهُوَ مِنْ حَدِيْثِ عَليٍّ مَرْفُوْعًا فِي مُسْلِمٍ (٧٧١).
وَقَرِيْبٌ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الإِشْكَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوْكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُوْنَ﴾ (الأَنْبِيَاء:٣٥).
(٥) قُلْتُ: وَتَأَمَّلْ قِصَّةَ مُوْسَى ﵊ مَعَ الخَضِرِ وَمَا فِيْهَا مِنَ الحِكَمِ، ثُمَّ تَأَمَّلْ قَوْلَ الخَضِرِ ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ (الكَهْف:٨٢).
(٦) وَلَكِنَّهَا بِقَيْدِ الحَدِيْثِ السَّابِقِ (وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلمُؤْمِنِ).
(٧) قُلْتُ: وَفِي حَدِيْثِ البُخَارِيِّ (١٢٨٣)، وَمُسْلِمٍ (٩٢٦) عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوْعًا (إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُوْلَى).
قَالَ النَّوَوِيُّ ﵀ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (٢٢٧/ ٦): (مَعْنَاهُ: الصَّبْرُ الكَامِلُ الَّذِيْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الأَجْرُ الجَزِيلُ لِكَثْرَةِ المَشَقَّةِ فِيْهِ، وَأَصْلُ الصَّدْمِ الضَّرْبُ فِيْ شَيْءٍ صُلْبٍ، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي كُلِّ مَكْرُوْهٍ حَصَلَ بَغْتَةً).
(٨) (وَالمُؤْمِنُ إِذَا اسْتَبْطَأَ الفَرَجَ وَأَيِسَ مِنْهُ بَعْدَ كَثْرَةِ دُعَائِهِ وَتَضَرُّعِهِ - وَلَمْ تَظْهَرْ لَهُ اسْتِجَابَةٌ - رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ بِاللَّوْمِ، وَهَذَا اللَّوْمُ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ كَثِيْرٍ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَإِنَّهُ يُوْجِبُ انْكِسَارَ العَبْدِ لِمَوْلَاهُ، وَاعْتِرَافَهَ لَهُ بِأَنَّه أَهْلٌ لِمَا نَزَلَ بِهِ مِنَ البَلَاءِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ، فَلِذَلِكَ تَسْرعُ إِلَيْهِ حِيْنَئِذٍ إِجَابَةُ الدُّعَاءِ وَتَفْرِيْجُ الكُرَبِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى عِنْدَ المُنْكَسِرَةِ قُلُوْبُهُم مِنْ أَجْلِهِ). بِتَصَرُّفٍ يَسِيْرٍ مِنْ كِتَابِ (جَامِعُ العُلُوْمِ وَالحِكَمِ) (٤٩٤/ ١).
(٩) هَذَا مَعَ بَيَانِ أَنَّ الأَصْلَ فِي المَصَائِبِ أَنَّهَا بِسَبَبِ الذُّنُوْبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيْبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيْكُمْ وَيَعْفُوْ عَنْ كَثِيْرٍ﴾ (الشُّوْرَى:٣٠)، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِسَبَبِ الذُّنُوْبِ كَانَتْ امْتِحَانًا لِلْعَبْدِ كَيْ يَظْهَرَ صَبْرُهُ وَيَنَالَ الدَّرَجَاتِ العَالِيَةَ عِنْدَ رَبِّهِ، كَمَا فِي حَدِيْثِ البُخَارِيِّ (٥٦٤٨) عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ ﵁؛ أَنَّ النَّبِيِّ ﷺ كَانَ يُوْعَكُ كَمَا يُوْعَكُ رَجُلَانِ مِنَّا،
وكَمَا فِي حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا (إنَّ الرَّجُلَ لَيَكُوْنُ لَهُ المَنْزِلَةُ عِنْدَ اللهِ؛ فَما يَبْلُغُها بِعَمَلٍ؛ فَلَا يَزَالُ اللهُ يَبْتَلِيْهِ بِمَا يَكْرَهُ حَتَّى يُبْلِّغَهُ إيَّاهَا). حَسَنٌ. ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيْحِهِ (٢٩٠٨). الصَّحِيْحَةُ (١٥٩٩).
(١٠) حَسَنٌ. التِّرْمِذِيُّ (٢٤٠٢) عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (٢٢٠٦).

1 / 306