التوضيح الرشيد في شرح التوحيد

Khaldoun Naguib d. Unknown
102

التوضيح الرشيد في شرح التوحيد

التوضيح الرشيد في شرح التوحيد

ژانرها

- الأَدِلَّةُ التَّفْصِيْلِيَّةُ: الدَّلِيْلُ الأَوَّلُ) قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلَا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُوْرِ﴾ (فَاطِر:٢٢). وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ المَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِيْنَ﴾ (النَّمْل:٨٠) وَ(الرُّوْم:٥٢). (١) وَوَجْهُ الدِّلَالَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَا يَسْتَطِيْعُ إِسْمَاعَ مَنْ فِي القُبُوْرِ، وَفِي الآيَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيْعُ إِسْمَاعَ المَوْتَى، فَغَيْرُهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى. شُبْهَةٌ وجَوَابُهَا: اعْتَرَضَ المُثْبِتُوْنَ لِلسَّمَاعِ بِأَنَّ الآيَتَيْنِ مَجَازٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ المَقْصُوْدُ - في الآيَتَيِنْ - بِـ (المَوْتَى) وَبِـ (مَنْ فِي القُبُوْرِ) المَوْتَى حَقِيْقَةً الَّذِيْنَ فِي قُبُوْرِهِم، وَإِنَّمَا المُرَادُ بِهِم الكُفَّارُ الأَحْيَاءُ حَيْثَ شُبِّهُوا بِالمَوْتَى. (٢) وَالجَوَابُ: أَنَّهُ لَا شَكَّ عِنْدَ كُلِّ مَنْ تَدَبَّرَ الآيَتَيْنِ وَسِياَقَهُمَا أَنَّ المَقْصُوْدَ بِالأَمْوَاتِ هُنَا هُمُ الكُفَّارُ فِعْلًا، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى عُلَمَاءُ التَّفْسِيْرِ لَا خِلافَ بَيْنَهُم فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الاسْتِدْلَالِ بِالآيَتَيْنِ عَلَى مَا سَبَقَ، لِأَنَّ المَوْتَى لَمَّا كَانُوا لَا يَسْمَعُوْنَ حَقِيْقَةً - وَكَاَنَ ذَلِكَ مَعْرُوْفًا عِنْدَ المُخَاطَبِيْنَ - شَبَّهَ اللهُ تَعَالَى بِهِمُ الكُفَّارَ الأَحْيَاءَ فِي عَدَمِ السَّمَاعِ، فَدَلَّ هَذَا التَّشْبِيْهُ عَلَى أَنَّ المُشَبَّهَ بِهِم - وَهُمُ المَوْتَى فِي قُبُوْرِهِم - لَا يَسْمَعُوْنَ. كَمَا يَدُلُّ مَثَلًا تَشْبِيْهُ زَيْدٍ فِي الشَّجَاعَةِ بِالأَسَدِ عَلَى أَنَّ الأَسَدَ شُجَاعٌ؛ بَلْ هُوَ فِي ذَلِكَ أَشْجَعُ مِنْ زَيْدٍ نَفْسِهِ؛ وَلِذَلِكَ شُبِّهَ بِهِ - وَإِنْ كَانَ الكَلَامُ لَمْ يُسَقْ لِلتَّحَدُّثِ عَنْ شَجَاعَةِ الأَسَدِ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا عَنْ زَيْدٍ - وَكَذَلِكَ الآيَتَانِ السَّابِقَتَانِ وَإِنْ كَانَتَا تَحَدَّثَتَا عَنِ الكُفَّارِ الأَحْيَاءِ؛ وشُبِّهُوا بِمَوْتَى القُبُوْرِ، فَذَلِكَ لَا يَنْفِي أَنَّ مَوْتَى القُبُوْرِ لَا يَسْمَعُوْنَ، بَلْ إِنَّ كُلَّ عَرَبِيٍّ - سَلِيْمَ السَّلِيقَةِ - لَا يَفْهَمُ مِنْ تَشْبِيْهِ مَوْتَى الأَحْيَاءِ بَهَؤُلَاءِ إِلَّا أَنَّ هَؤُلَاءَ أَشَدُّ فِي عَدَمِ السَّمَاعِ مِنْهُم كَمَا فِي المِثَالِ السَّابِقِ. (٣) قَالَ ابْنُ جَرِيْرٍ فِي تَفْسِيْرِهِ لِهَذِهِ الآيَةِ (٤): (هَذَا مَثَلٌ مَعْنَاهُ: فَإِنَّكَ لَا تَقْدِرُ أَنْ تُفْهِمَ هَؤُلَاءِ المُشْرِكِيْنَ الَّذِيْنَ قَدْ خَتَمَ اللهُ عَلَى أَسْمَاعِهِم - فَسَلَبَهُم فَهْمَ مَا يُتْلَى عَلَيْهِم مِنْ مَوَاعِظِ تَنْزِيلِهِ - كَمَا لَا تَقْدِرُ أَنْ تُفْهِمَ المَوْتَى الَّذِيْنَ سَلَبَهُمُ اللهُ أَسْمَاعَهُم بِأَنْ تَجْعَلَ لَهُم أَسْمَاعًا. وَقَوْلُهُ ﴿وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ﴾ يَقُوْلُ: كَمَا لَا تَقْدِرُ أَنْ تُسْمِعَ الصُّمَّ الَّذِيْنَ قَدْ سُلِبُوا السَّمْعَ إِذَا وَلَّوا عَنْكَ مُدْبِرِيْنَ (٥)، كَذَلِكَ لَا تَقْدِرُ أَنْ تُوَفِّقَ هَؤُلَاءِ الَّذِيْنَ قَدْ سَلَبَهُم اللهُ فَهْمَ آيَاتِ كِتَابِهِ لِسَمَاعِ ذَلِكَ وَفَهْمِهِ). (٦) ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيْحِ عَنْ قَتَادَةَ؛ قَالَ: (هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لِلكَافِرِ، فَكَمَا لَا يَسْمَعُ المَيِّتُ الدُّعَاءَ؛ كَذَلِكَ لَا يَسْمَعُ الكَافِرُ، ﴿وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ﴾ يَقُوْلُ: لَوْ أَنَّ أَصَمًّا وَلَّى مُدْبِرًا ثُمَّ نَادَيْتَهُ لَمْ يَسْمَعْ، كَذَلِكَ الكَافِرُ لَا يَسْمَعُ وَلَا يَنْتَفِعُ بِمَا سَمِعَ». (٧) (٨)

(١) جُعِلَتِ الآيَتَانِ هُنَا دَلِيْلَيْنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ المَعْنَى فِيْهِمَا وَاحِدٌ؛ وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى شَبَّهَ الكَافِرَ بِالمَيِّتِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ السَّمَاعِ. (٢) أَيْ: أَنَّ المَنْفِيَّ عَنْهُم هُوَ سَمَاعُ الانْتِفَاعِ، وَأَنَّ الكُفَّارَ لَا يَسْمَعُونَ سَمَاعَ الانْتِفَاعِ مِثْلَهُم، كَمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيْهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ﴾ (الأَنْفَال:٢٣). (٣) أَقُوْلُ: لَا بُدَّ مِنْ لَفْتِ النَّظَرِ إِلَى أَنَّ الأَمْرَ إِذَا زَادَ وُضُوْحُهُ صَعُبَ إِيْجَادُ مَنْ يَنُصُّ عَلَيْهِ بِلَفْظِهِ، فَمَثَلًا يَصْعُبُ أَنْ تَجِدَ مَنْ يَنُصُّ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ عَلَى أَنَّ الشَّمْسَ وَاضِحَةٌ، وَعَلَى أَنَّ البَشَرَ يَنْطِقُوْنَ، وَعَلَى أَنَّ الأَنْعَامَ بَهَائِمٌ لَا تَعْقِلُ، وَعَلَى أَنَّ اللبَنَ أَبْيَضٌ؛ رُغْمَ أَنَّ كُلًّا مِنْهَا تَجِدُ لَهُ نَصٌّ شَرْعيٌّ فِي التَّشْبِيْهِ بِهِ، فَكَذَا الأَمْرُ هُنَا. فَمِنَ العَجَبِ أَنْ يُذكَرَ أَنَّ المَيِّتَ يَسْمَعُ، وَقَدْ عُلِمَ بِالحِسِّ التَّامِ أَنَّ المَيِّتَ عِنْدَ جَمِيْعِ النَّاسِ لَا يَسْتَجِيْبُ، فَهُم لِذَلِكَ يُسَفِّهُوْنَ مَنْ يُخَاطِبُ المَيِّتَ فِي بَعْضِ شُؤُوْنِهِ، كَمِثْلِ مُغَسِّلٍ يَعْتَذِرُ مِنَ المَيِّتِ إِذَا اسْتَخْدَمَ لَهُ مَاءًا حَارًّا أَوْ بَارِدًا! وَاللهُ المُسْتَعَانُ. (٤) (١١٧/ ٢٠). (٥) قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِيْنَ﴾ قُيِّدَ الحُكْمُ بِهِ لِيَكُوْنَ أَشَدَّ اسْتِحَالَةٍ، فَإِنَّ الأَصَمَّ المُقْبِلَ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعِ الكَلَامَ فَإِنَّهُ يَفْطَنُ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ الحَرَكَاتِ شَيْئًا. اُنْظُرْ تَفْسِيْرَ البَيْضَاوِيِّ (٣٤١/ ٤). (٦) وَمِنْ نَفْسِ البَابِ؛ يُقَالُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى شَبَّهَ الكُفَّارَ بِالصُمِّ فِي عَدَمِ السَّمَاعِ فِي نَفْسِ الآيَاتِ السَّابِقَةِ، فَهَلْ يُمْكِنُ القَوْلُ بِأَنَّ الآيَةَ قَصَدَتِ الكُفَّارَ؛ وَلَيْسَ فِيْهَا دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الصُمَّ لَا يَسْمَعُوْنَ! وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوْفِيْقِهِ. (٧) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ ﵀ فِي التَّفْسِيْرِ (٣٢٤/ ٦) (الآيَةُ (٥٢) مِنْ سُوْرَةِ الرُّوْمِ): (يَقُوْلُ تَعَالَى: كَمَا أَنَّكَ لَيْسَ فِي قُدْرَتِكَ أَنْ تُسْمِعَ الأَمْوَاتَ فِي أَجْدَاثِهَا، وَلَا تُبْلِغَ كَلَامَكَ الصُمَّ الَّذِيْنَ لَا يَسْمَعُوْنَ - وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُدْبِرُوْنَ عَنْكَ - كَذَلِكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى هِدَايَةِ العُمْيَانِ عَنِ الحَقِّ، وَرَدِّهِم عَنْ ضَلَالَتِهِم، بَلْ ذَلِكَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ بِقُدْرَتِهِ يُسْمِعُ الأَمْوَاتَ أَصْوَاتَ الأَحْيَاءِ إِذَا شَاءَ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ سِوَاهُ). وَعِنْدَ تَفْسِيْرِهِ لِآيَةِ سُوْرَةِ فَاطِرٍ قَالَ ﵀: (﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُوْرِ﴾ أَيْ: كَمَا لَا يَسْمَعُ وَيَنْتَفِعُ الأَمْوَاتُ بَعْدَ مَوْتِهِم وَصَيْرُوْرَتِهِم إِلَى قُبُوْرِهِم - وَهُمْ كُفَّارٌ - بِالهِدَايَةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا، كَذَلِكَ هَؤُلَاءِ المُشْرِكُوْنَ الَّذِيْنَ كُتِبَتْ عَلَيْهِم الشَّقَاوةُ لَا حِيْلَةَ لَكَ فِيْهِم، وَلَا تَسْتَطِيْعُ هِدَايَتَهُم). قُلْتُ: وَالمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى طَمَسَ عَلَى قُلُوْبِهِم، فَهُمْ يَسْمَعُوْنَ وَلَا يَنْتَفِعُوْنَ بِمَا سَمِعُوا، فَصَارُوا كَأَنَّهُم لَا يَسْمَعُوْنَ لِعَدَمِ انْتِفَاعِهِم بِسَمْعِهِم. (٨) وَإِذَا تَأَمَّلْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلَا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ﴾ (فَاطِر:٢٢)؛ وَهُوَ سياقُ الآيَةِ الَّتِيْ فِي سُوْرَةِ فَاطِرٍ؛ فَإِنَّكَ سَتَجِدُ أَدِلَّةً أُخْرَى عَلَى عَدَمِ السَّمَاعِ، مِنْهَا: أ- أَنَّ الحَيَّ وَالمَيِّتَ لَا يَسْتَوِيَانِ، وَهُوَ مَثَلٌ ضُرِبَ لِلكَافِرِ وَالمُؤْمِنِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ السَّمَاعِ؛ حَيْثُ جُعِل مَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالسَّمَاعِ كَمَنْ لَا سَمْعَ لَهُ؛ لِعَدَمِ حُصُوْلِ الغَايَةِ مِنْهُ. ب- أَنَّ اللهَ تَعَالَى سَلَبَ المَيِّتَ سَمْعَهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ كَوْنِهِ مِثَالًا لِمَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالسَّمَاعِ، حَيْثُ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّمَاعَ خِلَافُ الأَصْلِ. ج - أَخِيْرًا وَهِيَ قَاصِمَةُ ظُهُوْرِ القُبُوْرِيينَ؛ نَقُوْلُ: هَبْ أَنَّ المَيِّتَ هُوَ كَالكَافِرِ فِي كَوْنِهِ - فَقَط - لَا يَسْمَعُ سَمَاعَ انْتِفَاعٍ وَاسْتِجَابَةٍ؛ وَإِنَّمَا يَسْمَعُ سَمَاعَ إِدْرَاكٍ، فَنَقُوْلُ: هَذَا القَدْرُ يَكْفِيْنَا فِي أَنَّ المَيِّتَ يَسْمَعُكَ وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَجِيْبُ لَكَ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَنْفَعَكَ! فَبَطَلَتْ بِذَلِكَ غَايَتُهُم مِنْ إِثْبَاتِ سَمَاعِ الأَمْوَاتِ. وَالحَمْدُ للهِ الَّذِيْ بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ.

1 / 102