اسرار قصور
أسرار القصور: سياسية، تاريخية، غرامية، أدبية
ژانرها
فحيته الإمبراطورة بابتسامة، وسارت تتبعها حاشيتها.
فطار صلاح الدين بأقل من طرفة عين إلى الشاطئ، وقفز إلى أحد الزوارق ليس لمشاهدة والدته كما وهمت الإمبراطورية، بل إلى بايكوس لمشاهدة خطيبته ومليكة فؤاده؛ لأن عوامل الغرام أشد فعلا من عوامل الحب البنوي. فلم يصل إلى بايكوس إلا بعد ساعة، وكانت الشمس قد غابت واشتد الظلام، فلم يهتد إلى الطريق وأضاع السبيل؛ لأنه لم يكن يعرف بايكوس إلا مرة جاءها مساء، وكان أحمد دليله فحاول عبثا الوصول إلى بيت عائشة والاهتداء إليه؛ لأنه فضلا عن مضي سنتين على زيارته الأولى كانت حريقة هائلة قد دمرت قسما كبيرا من القرية، فارتعدت فرائصه خوفا من أن تكون النار التهمت بيت حبيبته، وبينما هو يطوف طرقاتها الضيقة، وإذا به عرف البيت في منعطف طريق، ووقف يطرق الباب وهو لا يسمعه إلا دقات قلبه، فجاء شيخ جليل بيده شمعة وفتح له، فقال صلاح الدين: عفوا أيها الشيخ الجليل من إزعاجي إياك، أليس هنا بيت أحمد أفندي؟ - أيهما تريد؟ أأحمد الشاب الذي تزوج منذ عهد قريب أو أحمد الدرويش؟ - لا هذا ولا ذاك؛ بل أريد أحمد أفندي خادم المرحوم محمد باشا التونسي، أليس هذا «قناق» (منزل) فاطمة هانم؟ - تريد القادين العجوز؟ - نعم.
ألا تدري أنها ماتت منذ شهرين ... ولكن تفضل بك أفندي، واشرب فنجان قهوة.
فدخل صلاح الدين رغبة الوقوف على ما جرى، فعرف للحال أن البيت بيع بعد وفاة فاطمة هانم، وأن عائشة وأحمد هاجرا بايكوس منذ أواخر شهر تموز (يوليو) فشكر صلاح الدين الشيخ على إفادته، وعاد إلى زورقه مسرعا قائلا للنوتيين وقد وجدهما ملتفين بالعبي راقدين: العجل العجل إلى أورطه كي، فنهضا للحال وشرعا بالتجديف، واتكأ صلاح الدين على وسادة، ثم رفع رأسه إلى السماء وقد رصعتها النجوم، فقال في نفسه: يا له من بله لا شك أن عائشة هي عند والدتي، وكان يجب أن أذهب أولا إلى معانقتها، ولكن الحمد لله فهم يعرفون أني مقيد بخدمة الإمبراطورة، وإلا لقلقوا من أجلي كثيرا.
وأخذ يفكر في أحواله مستغرقا، وظن النوتيان أنه قد رقد، فلم ينبسا ببنت شفة حتى وصلا إلى أورطه كي، فنادى به أحدهما: بك أفندي قد وصلنا، فنفحهما صلاح الدين أجرة مضاعفة، وقام إلى بيته مهرولا، وكانت الأزقة خالية والصمت تاما، فلما أطل على البيت وجده مظلما، فقال في نفسه: «وقد رقدت الحبيبة وقطعت الأمل من مجيئي». ثم طرق الباب بمطرقته الحديدية بعنف، فهرول الخدم للقائه، ولما عرفوه أخذوا يهنئونه بسلامة الوصول، فسألهم عن والده فأجابوا أنه في الحرم. فسار إليه وطرق الباب، فسمع صوت جارية تقول: من هذا؟ فقال: أنا صلاح الدين. فعلت صيحة الجواري فرحا وسرورا بقدومه، وقامت والدته للقائه، ولم يكد الباب يفتح له حتى انطرح بين يديها يقبلهما، وهي تضمه إلى صدرها وتقول مكررة: الحمد لله قد شاهدتك سالما معافى بعد غيبة سنتين، ولكني رأيت هذا اليوم أطول من العامين؛ لأنك كنت قريبا مني وبعيدا عني.
وأراد صلاح الدين أن يسألها عن عائشة، وسبب عدم وجودها معها، لكنه تربص ريثما فرغت من معانقته وتهنئته، ثم سألها: أين عائشة؟ فتصامت والدته أولا عن هذا السؤال، فكرره ثانية، فحدقت إليه بنظرة كئيبة تطير منها صلاح الدين، فصاح مذعورا: أين عائشة يا أماه؟! فكان جوابها أن أجهشت بالبكاء؛ فصرخ صلاح الدين: أماتت، يالله يا للمصاب! وكادت العبرات تخنقه.
فأجابه والده بصوت مهيب، وكان قد وطئ عتبة الباب: لا لم تمت. - إذن تزوجت؟ - لا لم تتزوج. - إذن ماذا أصابها إذا كانت لم تمت ولم تتزوج وهي ليست هنا، أخانت عهدي يا ترى؟
فأجابت والدته: لو كان الأمر كذلك لما بكت والدتك ابنة خانت عهد ولدها. - فأين هي الآن إذن؟ - هي في السراي.
فعض صلاح الدين على شفته حنقا وغيظا، لكنه تجلد وقال: أتعرفين السبب والتفصيلات؟! - اجلس لأخبرك يا ولداه بما حدث، ثم مسحت دموعها وشرعت تقص عليه ما جرى في غيابه ...
الفصل التاسع
صفحه نامشخص