اسرار قصور
أسرار القصور: سياسية، تاريخية، غرامية، أدبية
ژانرها
فأخذ الخصي بيدها وسار بها قاصدا الكشك الذي كان السلطان بانتظارها فيه، فلما ابتعدا قليلا خافت مهرى من طروء أمر ما، فقالت للخصي بصوت مرتجف إلى أين تقودني؟ - جلالة «البادشاه» يرغب في سماع غنائك، فأفرغي الجهد في الإجادة، فلما وصل إلى أمام الباب دفعها أمامه، وقال: هذا هو الكناري يا مولاي.
فلم يتمالك السلطان من إخفاء إعجابه بجمال تلك الغادة الهيفاء، وقد صبغ الحياء وجهها فزادها جمالا، وكانت القيثارة ترتجف بين يديها، فقال لها السلطان متلطفا باسما ادخلي يا بنية ... لا تخافي، وتناول الخصي وسادة من المخمل وطرحها وراء مهرى قائلا لها: اجلسي وأنشدي نشيدك المشهور «ذهب العاشق»، فجلست مهرى وقد اصفر لونها وشرعت تنظم أوتار قيثارتها بيد مرتجفة، ولكن لما أرادت الغناء خانها جلدها، فأجهشت في البكاء فدهش السلطان، وقال: الله ما هذه الفتاة؟ وما معنى هذا البكاء؟
فقال الخصي: هذه هي مهرى الفتاة التي شاهدناها مع صديقتها هذا الصباح في البستان، ثم همس في أذنه: وهي الهائمة بحب جلالتك.
فحدق السلطان بها وزاد إعجابه بجمالها على إعجابه ببكائها، والنساء أشوق ما يكن إذا بكين، ثم أخذ في ملاطفتها حتى ثاب إليها وعيها، فبدأت بنشيدها المذكور بصوت مطرب خارج من صميم فؤادها، فاهتزت له جوارح السلطان طربا ورقص فؤاده فرحا وأخذه الهوس، فتناول من خنصره خاتما كريما على فص من حجر ماس كبير، وتناول مهرى وألبسها إياه بيده، فقبلت طرف ثوبه وهي لا تكاد تصدق ما هي عليه ... •••
وأخبر في الغد الخصي رفقاءه بهذه الحادثة، وختمها قائلا: هكذا تصير السرية سلطانة ...
الفصل الثامن
وصول الإمبراطورة أوجيني إلى الأستانة
كانت الأستانة في 7 سبتمبر 1869م في قيام وقعود استعدادا لاستقبال زائر كبير وضيف عظيم، وكانت ألوف من الزوارق ومئات من البواخر مكتظة بالمتفرجين والمستقبلين تشق عباب البوسفور ذهابا وإيابا، وكان أهالي الأستانة كبارا وصغارا يتسابقون ويحتشدون بين شاطئ أوروبا وآسيا لانتظار ذلك القادم العظيم، وقد رفعت الحرم من مقاصيرهن الحواجز الشبكية، وصوبن نظاراتهن نحو بحر مرمرا يستطلعن تلك الباخرة التي تقل ذلك المنتظر، وقد حق لهم جميعا ذلك الانتظار وذلك الاحتفال؛ لأن الزائر ذلك اليوم كان الإمبراطورة أوجيني قرينة نابوليون الثالث، وكان نابوليون الثالث في ذروة مجده وقمة سؤدده، وكانت تلك هي المرة الأولى التي جاءت فيها إمبراطورة فرنسوية إلى عاصمة الشرق زائرة حالة ضيفة كريمة عند سلطان آل عثمان.
وكان السلطان عبد العزيز - كما ذكرنا - ميالا إليها معجبا بجمالها، فبالغ في الاحتفال بقدومها، والاحتفاء باستقبالها حتى إنه أمر بتجديد فرش السراي كله، وبأن يجلب من باريس أثاث للغرفة التي أعدها للإمبراطورة كأثاث غرفتها في قصر التويلري تماما حتى لا يخال لها أنها خرجت من سرايها، وأنشأ زورقا يبهر الأنظار بقبته المذهبة وستائره المخملية ومقاعده الحريرية، وكل ذلك لنقلها بضعة أذرع من الباخرة إلى السراي ... وغير ذلك من الاستعداد الدال على الكرم الشرقي والبذخ التركي. وكانت الشمس ذلك اليوم ساطعة والجو صحوا والهواء بليلا، فلم يلبث الناس طويلا في الانتظار حتى أطلت الباخرة «النسر» الباهرة تقل جلالة الإمبراطورة، فبدأت الحصون والمعاقل بإطلاق المدافع تبشيرا بقدومها، وسارت الدوارع التركية إلى لقائها، فأحاطت بها إحاطة السوار بالمعصم، وقد صعد البحارة إلى أعلى السواري يصيحون «لتحيا الإمبراطورة أوجيني».
فلما وصلت الباخرة أمام سراي بيكلربك المعد لنزول الإمبراطورة ألقت مرساتها، وانحدر السلطان بنفسه إلى لقائها، وأخذت الموسيقى تصدح بأنغامها، فلم يطأ السلم حتى رفعت الباخرة العلم العثماني يخفق مع العلم الفرنساوي المثلث الألوان.
صفحه نامشخص