اسرار قصور
أسرار القصور: سياسية، تاريخية، غرامية، أدبية
ژانرها
فقالت لها الهانم: حاولت عبثا إخفاء إثمي والتكفير عن ذنبي، ولكن هذا ذنب لا يمحى إلا بالإثم، نحن وا أسفاه البنات الشركسيات يتركنا آباؤنا منذ نعومة أظفارنا، فيلتقطنا الغرباء لجمالنا، فنقضي حياتنا وليس لنا أهل ولا ولد، فإذا شعرنا بمولود في أحشائنا كان ذلك عزاءنا الوحيد، وموضوع حبنا، وكعبة آمالنا، ندافع عنه بأزواجنا، ولكن وا حسرتاه هو كالزهرة لا تكاد تفتح حتى تقطف، وكالغصن لا يثمر حتى يقصف، وأنا مع شقائي أشعر بلذة بما أنا فيه.
فاغرورقت عينا العجوز أسفا لحالة المرأة. - آه، قد رق قلبك لحالي ورثيت لمصابي ... جزيت عني خيرا ... هذه هي المرة الأولى التي شعرت فيها بحي يشاركني في عواطفي ... والآن أرجوك أن تقنعيني بالعدول عن عزمي والإقلاع عن جرأتي ... آه إني مدفوعة إلى هذا الطلب ... مرغمة عليه ... آه قد وهنت قواي وحلت عزائمي. قالت هذا وانطرحت بين ذراعي العجوز تجهش بالبكاء.
فأخذت العجوز تقبلها وتهدئ روعها تخفيفا لمصابها، ثم قالت: لا يحق لي أن أعلم بأكثر مما علمت، ولا أن أعرف اسم سيدك، وأصرح لك بامتناعي عن أن أمد يدا لصنع ذلك الدواء المخالف لذمتي ولمشيئة الخالق - سبحانه وتعالى - فتشجعي يا بنية، واعتصمي بالصبر الجميل؛ فالله القادر على كل شيء ينجيك، ويمكنك التخلص من انتقام الهانم إذا تظاهرت بالخضوع لها والامتثال لأمرها. أما أنا فمقيمة في محلة الطوبخانة في بيت خشبي حقير في الزقاق المعروف «بالشبوقجي»، ومهما كان بيتي صغيرا حقيرا فهو يسعك وولدك، والبيت الضيق يسع ألف صديق، فثقي بإخلاصي وصفاء نيتي، واعلمي أن لك في قلبي محلا رحيبا. - جزيت خيرا يا فاطمة، وأخذت يد العجوزة فقبلتها اتباعا للعادة التركية، ثم قالت سأذكرك ما دمت حية، وسأتبع نصائحك، وأسأل الله أن يباركك؛ لأنك لم تخيبي رجاء «إقبال» المسكينة.
ثم لبست ثيابها، وخرجت مطمئنة الفؤاد قليلا، فتقدمت الجارية، وقالت للعجوز: هل لك أن تخبري «أحمد» أن يتقدم بالعربة، فخرجت العجوز إلى باب الحمام وصاحت يا أحمد، فتقدم عبد أسود كبير؛ فقالت له: أخبر الحوذي أن يتقدم بعربة الهانم، فأشار إلى الحوذي. ولما دنت العربة من أمام الباب رأت العجوز الطغراء العثمانية منقوشة على العدة، فأخذتها الدهشة لما عرفت أن تلك المرأة ليست جارية لأحد الباشاوات، بل إنها من الحرم السلطاني ثم تقدمت الهانم «إقبال» بردائها البسيط، ونقدت العجوز دينارا عثمانيا، وشكرتها كثيرا، وركبت فسارت بها الخيل تنهب الأرض نهبا.
وفي المساء عادت العجوز إلى بيتها، وأخبرت زوجها بما رأت من أمر تلك الفتاة التركية، وأخذ العجوزان يتساءلان من تكون هذه؟ وما هو شأنها؟
ثم مضت الأيام والأسابيع والشهور على تلك الحادثة فنسياها تماما، وذهب الصيف والخريف وجاء الشتاء بقره حتى كان ما كان من أمر عيد رمضان والهدية. فلما أخبرها زوجها بالتقائه بخصي السراي، وما سمعه لما نادى الخادم «أحمد» فكرت بهذا الاسم لما نادته هي في الحمام كما تقدم.
فتأكدت حينئذ أن الطفلة هي ابنة إقبال بعينها، وأنها قد حفظت وصيتها، ورأت هي وزوجها من باب الحكمة والصواب أن يهجرا محلة «الطوبخانة» خوفا من بث العيون والأرصاد أو من وشاية الجواسيس والحساد، فذهبا مختبئين في قرية في أعالي البوسفور يقال لها بايكوس في ناحية أسكي دار، وأفرغت المرأة جهدها اعتناء بالطفلة.
ومما زاد العجوز اقتناعا بأن الطفلة هي ابنة إقبال أن وجدت في طاقيتها خاتما ذهبيا مرصعا بحجر كريم من الزمرد رأته في خنصر إقبال لما جاءت مستحمة، ودرءا للشبهة ومنعا لاقتفاء الأثر أشاع الشيخ في محلته أنه عازم على الإقامة في إستامبول في محلة «شيخ زاده باشي» ولم يصحبه معه إلا الظئر التي رضيت أن تكون للطفلة مقام أمها.
وشرعت فاطمة من ذلك العهد تفرغ الجهد سعيا وراء معرفة مقر إقبال في القصر السلطاني؛ لتخبرها عن مقامها الجديد، ولكن قد كان دون ذلك أهوال؛ إذ كيف يتسنى لها معرفتها بين مئات من السراري والجواري في ذلك القصر العظيم. ففكر زوجها الشيخ طويلا، فرأى أن أحسن وسيلة هي أن يذهب كل يوم إلى نواحي القصر السلطاني متنزها يترقب خروج الخدم والخصيان ورجوعهم؛ حتى يعثر بالخصي أو الخادم (أحمد) الذي لقيهما أثناء رجوعه إلى البيت مساء عيد رمضان، فتزيا بلباس بائع حلويات، واشترى علبة نقالة، وملأها من أنواع الحلوى المختلفة، وصار يتأبطها كل صباح، فيعبر البوسفور قاصدا سراي «طلمه بغجه» التي كان يفضلها السلطان عبد المجيد على جميع قصوره.
وكان الخدم والخصيان يكثرون من الترداد إلى ميدان السراي، فيجيء عثمان بعلبته ويقف في الطريق المؤدية إلى شارع «بشكطاش إلى أورطه كي»، فلم يلبث طويلا حتى أصبح جميع خدم السراي وحشمها من معارفه ومعامليه، وكان هو يتفحصهم واحدا بعد واحد، فتحقق أخيرا أن الخصي وأحمد ليسا بينهم، وكانت صورتهما قد رسخت في ذهنه، ولئن كان لم يشاهدهما إلا لحظة واحدة لما برقت السماء، ولكي يبالغ في التأكيد ادعى يوما أن خصيا اشترى منه حلوى بالأمس بثلاثين بارة لم ينقده إياها، فجاء الخصيان بعضهم بالبعض وهو يتفحصهم جيدا، فتأكد أن الخصي الذي يطلبه ليس بينهم، فعزم حينئذ على الانتقال إلى سراي أخرى، وظل على هذا المنوال من البحث والتنقيب مدة ثلاثة أسابيع يجتاز البوسفور كل صباح، ويقف على قارعة الطرق تحت المطر الوابل في ذلك الشتاء القارس؛ حتى عثر أخيرا على ضالته المنشودة، فرجع ذات يوم إلى قريته فرحا مسرورا، وألقى علبته في زاوية البيت، وقال لامرأته: من تأنى نال ما تمنى، وكل من سار على الدرب وصل، لا حاجة لي بهذه العلبة بعد الآن، فقد عرفت السراي، ولقيت الباب، وجاء دورك، وعليك تدبير حيلة نسائية للوصول إلى إقبال. أما الحيلة فهين تدبيرها؛ فعند أي هانم هي؟ - عند السلطانة علية هانم عمة مولانا السلطان وقرينة محمود باشا داماد. - يا رباه ... أهي عند تلك السلطانة الظالمة ... أقسى امرأة خلقها الله في آل عثمان؟!
صفحه نامشخص