ثم تنهدت وقالت: آه يا نعيم! ما أنت إلا جحيمي ونعيم جوزفين!
وما استتمت هذه العبارة إلا بصوت أضعف من هبوب النسيم اللطيف، وبعبرات كالسيل الدافق، فقال أخوها الأمير عاصم: خففي عنك يا بهجت وهوني، إن لم تجدي من الهوى جاذبا للأمير نعيم إليك، فلا بد أن أجد في سياستي الخفية دافعا يدفعه إلى جنبك. - أتعني دافعا يدفعه بالرغم منه؟ - نعم. - وما الفائدة؟
إذا لم يكن حفظ الوداد طبيعة
فلا خير في ود يجي بالتكلف - لا بأس، فإن غرضي الأول أن تكون أملاكه في قبضة يدك، وحينئذ يسهل عليك أن تجعلي قلبه في كفك. - آه، آه! ليت لي قلبه وهو حسبي وكفى. - سيكون لك الأمران يا بهجت فلا تقنطي، صبرت كل هذا الأمد الطويل فاصبري ريثما أستتم وسائلي. - كل الحق عليك يا أخي، فأنت الذي نبه قلبي إلى حب عقيم سقيم، لا أعجب إذا لم يمل نعيم إلي ميل العاشق للمعشوقة؛ لأني ربيت وإياه تحت سقف واحد كأخوين، فلا بدع أن يشغف بسواي من النساء اللواتي لا ترميه الأقدار بينهن برهة حتى تمنعهن عنه برهة أطول فتشوقه إليهن؛ ولهذا يزهد بي لأني غير ممنوعة عنه، ولكني أنا لا ألتوي عنه إذ لا أتوقع سواه، فليتك لم تمهد سبيلي إليه وتحجبني عن غيره، فكنت أرحتني من هذا الهم الناصب، آه! لقد قتل جلدي.
وحدث سكوت بضع دقائق وعلى جبين كل من الأمير عاصم والأميرة بهجت غمامة غم سوداء، إلى أن بترت بهجت ذلك السكوت سائلة: وأنت ماذا تم لك مع أخته الأميرة نعمت هانم؟ - لقد أعجزتني أكثر من إعجاز أخيها لك. - أفما لانت؟ - كلا، لم تزل شامخة ولم أدر سر رفضها. - لعل قلبها مشغول بحب مكتوم يا عاصم. - بحثت طويلا فلم أهتد إلى شيء من ذلك. - إذن تأباك ولو كان قلبها خلوا من هوى؟ - لا يهمني قلبها. - يالله! ما أقوى جلدك! ألا تزال تطمع بها وهي نافرة منك؟! - جل ما وعدت به هو أن تقترن بي على شرط أن تحفظ عصمتها لنفسها كما علمت. - ولا أراك تحصل على غير ذلك فاقنع به. - وما الفائدة منه وأنت تعلمين أن جل بغيتي أن أضم لنا كل ميراث المرحوم الأمير إبراهيم تحت إمرتي، بحيث يكون نصيب نعمت تحت يدي ونصيب نعيم لك، فإذا رضيت نعمت على الشرط الذي اشترطته أخيرا وهو أن تحفظ حق عصمتها لنفسها كنت كأني لم أعمل شيئا؛ لأن نعمت تقدر أن تتركني متى تشاء، أو أضطر أن أستعبد نفسي لرضاها كل عمري لكي تبقى لي، ومع ذلك لا أضمن بقاءها، فإذن يجدر بي أن أختلق الوسائل الكافلة بزواجي بها بلا شرط حفظ العصمة. - إذا لم تحصل على الكثير فاقنع بالقليل، وهاك أنت قد خطوت أكثر مني. - لا أقنع ما لم أخف أن يفلت من يدي هذا القليل، ألا تعلمين أني صبور قليل الأمل، ثبوت لا أنثني إلا ظافرا بأمنيتي؟!
لا بد هنا أن يعرف القارئ ما هي نسبة الأمير عاصم وشقيقته الأميرة بهجت هانم، بالأمير نعيم وشقيقته الأميرة نعمت هانم ...
الفصل الثالث
بدء الأسرار
وتحرير ذلك أن المرحوم الأمير إبراهيم توفيت زوجته الأولى، وهي من ذوي قرباه عن ولدين هما: الأمير نعيم، والأميرة نعمت - المذكورين آنفا. وفي أثناء رحلاته إلى الآستانة تعرف بأرملة تركية ذات ولدين هما عاصم وبهجت هانم، وقد زعمت هذه الأرملة أنها كانت زوجة أحد الكبراء، وكانت هذه الهانم على درجة سامية من الدهاء والذكاء فضلا عن الجمال النادر، فعلق بها الأمير إبراهيم المذكور أبو الأمير نعيم وتزوجها، وضم ولديها إلى ولديه ولقبهما بالأمير والأميرة كأنهما ولداه، وعني بهما جدا، فعاشا مع ولديه كأخوين لهما إلى أن مات، وحينذاك استلم إدارة ميراثه الأمير عاصم.
ولم يدخر الأمير عاصم وسيلة لإظهار طاعته وحبه لأبيه الجديد، والتفاته إلى أخويه الجديدين حتى بعد وفاة أبيهما، كان يظهر لهما الغيرة على مصلحتهما والإخلاص لهما؛ ولهذا كانا يحترمانه ويثقان به. ولكن كان في عزم الأمير عاصم أن يزوج أخته بهجت للأمير، ويتزوج الأميرة نعمت أخت الأمير نعيم؛ لكي تظل ثروة الأمير إبراهيم أبيهما الطائلة تحت إمرته، ولكن لا نعيم ولا نعمت كانا يميلان إلى عاصم وأخته بهذا المعنى قط، بل كانا يعتبرانهما كأخوين، ولما أظهر عاصم وأخته أمنيتهما من نعيم وأخته، أبى هذان عليهما ذلك.
صفحه نامشخص