فقالت الأميرة نعمت: يالله! ما هذه الفظاعة؟! - أرجو منك الصبر يا سيدتي، سترين نتيجة حسنة. وبعد بضعة أيام لولادة الأميرة نعمت، كان ينتظر أن تلد الأميرة جوزفين - وحينئذ كان دولة الأمير نعيم في أوروبا - فعاد سنتورلي وزين لي بإيعاز الأمير عاصم أن أهتم بإخفاء مولودها؛ لأنه يأبى جدا أن يكون للأمير نعيم ابن من أجنبية، فأوعزت للداية عائشة أن تخفي مولود الأميرة جوزفين أيضا، وألقمتها المال الكثير فنفذت هذه المأمورية، وكان سنتورلي قد ألح أن أكتب له - إذ كان هو والأمير عاصم في الإسكندرية حينئذ - وأخبره بتفصيل الأمر متى أنفذته عائشة، فما كان أجهلني حينئذ وأسخف عقلي؛ لأني كتبت لسنتورلي وأخبرته تفصيل ما فعلت عائشة الداية! وقد استخفني إلى هذا العمل كله تودد الأمير عاصم لي ووعده إياي تلميحا بأن ينيلني يد الأميرة نعمت، وإظهار رغبته في ارتكاب هذه الجريمة، ولا أعلم كيف أن ذلك الماكر سطا على ضميري وزين لي ذلك الشر.
وكان الأمير نعيم ونعمت هانم وجوزفين يسمعون هذه الأخبار الفظيعة وأبدانهم تقشعر، وكل هنيهة يقولون كلمة فيلتمس منهم أحمد بك الصبر إلى نهاية الكلام، ثم استأنف كلامه على هذا النحو: ولما تم للأمير عاصم ما أراد في قتل الطفلين أو إخفائهما لكي لا يكون للأمير نعيم ابن إذا تزوج الأميرة بهجت، ولا للأميرة نعمت ابن أيضا إذا تزوجته هو، جعل يهتم في تقريب أخته من الأمير نعيم وفي تقربه هو من الأميرة نعمت، ولأجل بلوغه هاتين الأمنيتين صار يسعى إلى إبعادي عن الأميرة نعمت لما كان بيننا من المودة، وإلى إبعاد الأميرة جوزفين عن الأمير نعيم.
أما إبعادي فكان سهلا عليه جدا؛ لأنه انفرد بي مرة وأعلن لي رغبته في يد الأميرة نعمت ونهاني النهي البات عن أن أتقرب إليها أو أطلب يدها، وتهددني بالرسالة التي كتبتها لسنتورلي بشأن إعدام الطفلين بالاتفاق مع الداية وإغرائها، ولما انكشف لي خبث قلبه وفهمت مكيدته ذعرت من شره وعدت إلى صوابي وفهمت أني وقعت في الفخ؛ لأنه لو أعلن الأمير تلك الرسالة لقبض علي جانيا أي جناية، فصرت أتوقى شره وأداريه ما استطعت ، والحمد لله أن شره وقف عند حد منعي عن التقرب للأميرة نعمت.
فقالت الأميرة: يالله من شركما معا! كيف طاوعته على هذه الجناية؟! - أرجو منك يا سيدتي أن تصبري إلى النهاية، فتري أن النتائج كلها كانت خيرا والحمد لله ...
فقال الأمير نعيم: نعم، أتم حديثك يا أحمد بك فإننا لا نتحاسب عن الماضي الآن، وإنما نود أن نعلم المقدمات التي أفضت بنا إلى النتائج ... - بقي على الأمير عاصم أن يبعد الأميرة جوزفين؛ لأنها عقبة أمام أخته، ولكن وجود الصبي يوسف في قصر الأمير نعيم قام عقبة أخرى في سبيل مسعاه؛ لأنه حسب حسابين كلاهما يفسد مشروعه، الحساب الأول أنه قد يكون الصبي ابن الأمير الحقيقي استبقته الداية فاهتدى إليه الأمير وسكت عن تحقق سبب إخفائه لإضمار انتقام، أو أنه يكون لقيطا والأمير يربيه حتى إذا نشأ رجلا نبيها حاذقا نافعا ادعاه ابنه أو ملكه ماله بطريقة قانونية؛ ولذلك صمم على أن يبعده مع الأميرة جوزفين، وكان سنتورلي يده العاملة، فأغريا امرأة بغيا بالمال سمت نفسها مدام ببيني، وتقلدت حرفة «دلالة»، وصارت تتردد على الأميرة جوزفين وتعرض عليها السلع والحلي، وفي أثناء ذلك تخطب ودها حتى أحرزت ثقتها، فدعتها ذات مساء إلى منزلها - والصبي معها - لكي يشربا الشاي عندها، وهناك دست لهما منوما قويا فوقع عليهما سبات ثقيل، فاحتمل سنتورلي جوزفين إلى بيت مهجور للأمير عاصم في عزبته ص. وسجنها هناك وأقام عليها حارسة امرأة يونانية لا تعرف غير لغتها، وقضت جوزفين هناك نحو عام سجينة ...
فتنهدت جوزفين قائلة: آه! ذقت أمر العذاب هناك. - وأما الصبي يوسف فأخذه سنتورلي إلى دير الراهبات حيث يربى اللقطاء، ودفع لرئيسة الدير المبلغ اللازم للنفقة عليه، وأوصاها أن تحتفظ به ولا تدعه يخرج من الدير إلا رجلا ناسيا ماضيه القصير.
وبعد العام مل سنتورلي حراسة جوزفين وخشي أن تفشي خبر سجنها حارستها أو الخادمان اللذان كانا يخدمان الحارسة، وهما يجهلان سر الخدمة ولكنهما لاحظاه أخيرا؛ فلذلك صمم سنتورلي أن يتخلص من جوزفين بطريقة من الطرق ، فأبى الأمير عاصم أن يطلق سبيلها من غير أن يضرب بها ضربة لأحد أعدائه.
وكان حينئذ قد قنط من مشروعه فصوب مساعيه إلى الانتقام من الأميرة نعمت؛ لأنها خيبت قصده، ومن الأميرة جوزفين؛ لأنها كانت سبب حرمان أخته بهجت هانم من يد الأمير نعيم، فاتفق هو وسنتورلي على أن يقتلا جوزفين في قصر الأميرة لكي تتهم بقتلها.
فقالت الأميرة: يا للفظاعة! أإلى هذا الحد يكون عاصم شريرا؟! - بل سترين أنه أشر.
فقال الأمير نعيم: ولكن كيف عرفت أنت كل ذلك؟ - نعم، فاتني أن أخبركم أن الأمير عاصما لم يجتهد أن يكتم عني مكايده؛ لأنه كان متسلحا ضدي برسالتي لسنتورلي التي أخبرتكم عنها، فبها كان يتهددني إذا أفشيت سرا من أسراره، وكثيرا ما كان يحاول أن يستخدمني فكنت أتملص منه بصعوبة، ومع ذلك كنت إذا أخفى عني مكيدة وشعرت أنه ينصبها أتسرق أخبارها من حيث لا يدري، وقد اعتاد أن يختلي في قاعة من قاعات القصر مع سنتورلي في آخر السهرة ويتفاوضان في وضع الخطة اللازمة لمكيدتهما بعيدين عن الناس، ولا يخفى عليكم أن تلك القاعة المنحرفة مرتفعة قليلا عن سطح بقية الغرف المجاورة لها، وفي أعلاها نافذة للسطح لها مصراعا زجاج، فكنت إذا علمت بوجودهما هناك أصعد إلى السطح وأقيم عند تلك النافذة وأضع أذني على الشق الذي بين المصرعين، فأسمع كل حديثهما؛ لأنهما يجلسان عادة تحت تلك النافذة.
صفحه نامشخص