وبقي كل يوم يتوقع خبرا أو رسالة أو زيارة منها فلم ينل، وأمل أن يصادفها في بعض الأحيان في أحد الملاهي أو إحدى الحانات أو المتنزهات، فلم يتحقق أمله إلا بعد بضعة أيام؛ إذ كان في مركبته في غاب بولونيا فصادفها تتمشى مع صديقة لها، ولكنها لم تره فأوشك أن يناديها، وقد تحركت شفتاه بالحرفين الأولين من اسمها، ولكن إباء النفس أصمته في الحال، وبعد أن بعدت المركبة عدة أمتار أسف لعدم رؤيتها إياه، فأمر الحوذي أن يدور من طريق أقرب لكي يلتقي بها، فأجاب الحوذي طلبه، وبعد بضع دقائق كانت المركبة تستقبلها، ولكنها ما انتبهت إليه إلا وقد صارت المركبة إلى جانبها، وهي ناظرة إليه نظر الضراعة، فلم تمهلها المركبة أن تفوه بحرف. أما هو فكان يصوب نظره إليها من بعيد إلى أن رآها رفعت نظرها فيه وشعر أنها انتبهت إليه، فخطف نظره عنها، ولكن أمائر الاضطراب كانت واضحة في ملامح وجهه.
وما بعدت المركبة قليلا حتى خطر له أن يعود؛ لأنه لم يرو غليله، فأمر الحوذي أن ينثني، وما انثنى الحوذي حتى عدل عن هذا الفكر؛ لأنه رآه سخيفا، فأمره أن يعود إلى سبيله الأول، ثم استأنف مسيره إلى إحدى الحانات العظمى، وهناك جعل يفكر في خطة يختطها لنكاية جوزفين وقتلها غيظا.
ولو استفسرت قلبه عن معنى حنقه هذا، لقال لك: أود أن يميتها وجدي عليها وثم يحييها حبي لها.
وأخيرا خطر له أن يتخذ صديقة يركب معها كل مساء إلى غاب بولونيا، آملا أن تراهما جوزفين معا فتذوب غيرة.
وفي مساء اليوم التالي قصد إلى غاب بولونيا ليرى إن كان يصادف جوزفين فيه في ذلك الموعد، فيعلم أنها تختلف إلى هناك فيكون الغاب موعد التقائهما المتفق عليه ضمنا.
ولا ريب أن القارئ يتوقع أن يصح حساب الأمير نعيم لظنه أن جوزفين تحسب مثل هذا الحساب، وتؤمل أن تصادف الأمير في الغاب في ذلك الموعد، ولكنها لم تمض إلى الغاب. لماذا؟ لأن المرأة أجمل صبرا وأعظم تجلدا من الرجل، فهي وإن كانت قد يئست من رضاه نظرا لرفضه البات مقابلتها ورسالتها، ما زالت تحبه كل الحب وتتمنى لقاءه ولو في إبان غضبه، ولكنها اعتقدت أنه صار يستنكف رؤيتها ويتجنب أقل صلة بها تجنب السليم الأجرب، فصارت تتحاشى التعرض له مخافة أن يستاء منها.
وما فتئ الأمير نعيم يذهب كل مساء إلى غاب بولونيا أملا أن يصادف جوزفين، وقد صمم أن يتحرش بها إذا صادفها؛ ولهذا كان يصل إلى الغاب ويترك مركبته ويتمشى برهة طويلة، وأحيانا كان يبكر إلى هناك حتى يكاد يكون أسبق الناس إلى الغاب.
وحدث بعد بضعة أيام أن صادف جوزفين عن بعد قبل أن تراه؛ لأنها اعتادت أن تمشي مطرقة، فعزم أن يستوقفها إذا لم تستوقفه ويكلمها إذا لم تكلمه، فكان يتمشى على نفس الجانب الذي تتمشى هي عليه بغية أن يلتقيا، ولكنه ما أصبح على بعد بضعة أمتار منها حتى صار على الجانب الآخر، فلمحته مبغوتة، ووقفت كأنها تلتمس مقابلته، فشمخ وأعرض عنها ذاهبا، فقالت: «مولاي نعيم! كلمة واحدة فقط! ارحمني وائذن لي بكلمة.» فهز رأسه هزة رحوبة وأسرع خطاه كأنه يهرب من عدو، فتوهمت أنه يهرب من عار يلحق به إذا قابلها، وما ابتعد مسافة حتى جعل يلكم رأسه لعدم التفاته إليها، وأكل أصابعه ندما وعزم على أن يتعرض لها في مرة تالية ويشفي غليله من لعنها وتقبيحها.
ولما عاد إلى غرفته في المساء خطر له أن يكتب إليها ويستدعيها إليه لكي يسمع عذرها، فجلس إلى المكتب وجعل يكتب تارة ويمحو أخرى، وينسخ حينا ويمزق آخر، إلى أن وفق إلى كتاب فعنونه وألصقه وخرج ليرميه في صندوق البريد، فلما وصل إلى الصندوق عدل فعاد إلى غرفته والرسالة بيده، وجلس برهة يفكر ثم قرر أن يرسل الرسالة فخرج ورماها، ثم عاد يفكر في نتيجة إرسالها، فرجح في يقينه أن إرسال رسالة لها يعد تنازلا عظيما منه يعاب به، فندم ونهض حالا إلى الفندقاني وترجاه أن يفتح الصندوق ويرد له الرسالة قبل أن يرمي الرسائل في صندوق البريد خارجا، وهكذا استرد الرسالة.
الفصل الثامن عشر
صفحه نامشخص