وقد قصد سنتورلي من اختيار حارسة جوزفين امرأة غريبة اللغة عنها أن يمنع كل صلة بين قلبيهما؛ لأنه حسب أن التفاهم الصريح بينهما يعقد الألفة، والألفة تفضي إلى إشفاق اليونانية على جوزفين عند إطلاعها على الظلم اللاحق بها، وحينئذ يستحيل عليه أن يأمن جانب المرأة اليونانية، فلا بد أن تخونه، فإما أن تطلق جوزفين من سجنها، أو أنها تغدر به وتشكو أمره للبوليس، أو أنهما تفران معا.
ولكن بما أن اليونانية لم تكن لتفهم شيئا من جوزفين، ظلت تعتقد ما طبعه في ذهنها المسيو جاك - سنتورلي - من خيانة زوجته له وتعلقها بعشيقها، وبما أنها كانت متورعة ومتدينة كانت تحسب جوزفين امرأة شريرة جدا فتكرهها، وكانت إذا توسلت إليها جوزفين وتضرعت تظنها تلتمس مشاهدة حبيبها فتزداد كرها لها؛ ولذلك كانت قاسية عليها جدا، فإذا أكثرت جوزفين من التضرع والتوسل حرمتها الحارسة من الخروج إلى البلكون.
وقد حارت المسكينة جوزفين في كيف تسترضي حارستها أو تفهمها مطلوبها؛ فتارة كانت تكتب لها بعض مقاصدها بالفرنسية وتومئ إليها أن تلتمس من شخص آخر أن يترجم لها تلك الكتابة، فتعرض الحارسة الورقة على سنتورلي فيخبرها ما يشاء، وإذ تكرر هذا الأمر بضع مرات، وخشي سنتورلي سوء عاقبته أمر الحارسة أن لا تقبل منها ورقا البتة؛ لأنه هو يستفهم منها حاجتها متى اجتمع بها.
وأما الغرض الذي كان يرمي إليه الأمير عاصم وسنتورلي من إبقاء جوزفين جاهلة سبب سجنها، والأشخاص الذين قضوا عليها بهذا الشقاء، ومن احتجاب سنتورلي عنها لأنها تعرفه، الغرض من هذا كله هو أنهما كانا يحسبان حساب إطلاق جوزفين من هذا السجن، أو إفلاتها منه لسبب من الأسباب، فإذا خرجت وهي لا تدري أين كانت سجينة ومن سجنها بقي جرمهما مكتوما، وهذا منتهى التحوز الذي وصل إليه الكائدون، وقد أصابا في تحرزهما هذا؛ لأن سنتورلي مل السهر في مراقبة جوزفين والحرص عليها في سجنها، وصار يلتمس وسيلة للتخلص منها ولو بخلاصها؛ ولذلك عقد النية على أن يطلق سبيلها إذا لم يفلح في المكيدة الأخيرة؛ لأنه خاف ألا يبقى أمرها خفيا على تمادي الزمان، فإذا أطلقها من سجنها بالطريقة التي أدخلها إليه فيها أمن انفضاح أمره؛ لأنها إلى ذلك العهد لم تكن تعرف من أتى بها إلى هناك ولا أين هي ولا سبب ذلك كله.
قلنا إن جوزفين المسكينة ذاقت من العذاب في ذلك السجن ألوانا، وكانت تشتهي سما ناقعا يقلص أعصابها ويوقف دورتها الدموية، أو نصلا تغمده في فؤادها، بل كانت تشتهي أن ترى الشخص الآمر بسجنها لكي ترتمي عند قدميه وتتوسل إليه أن يجهز عليها.
ولقد حارت في سبب سجنها، فكان يخطر لها تارة أن الأمير نعيما كرهها وأمر بسجنها لكي يتخلص منها، ولكن لا تلبث أن تتفل على الشيطان وتستغفر ربها على هذا الظن؛ لأنها كانت تحسبه تجديفا، وتارة كانت تظن أن شخصا يهواها فأقصاها عن نعيم وانتظر ريثما تنساه ... افتكرت أفكارا عديدة، ولكن لم تجد فكرا ينطبق على ضميرها وعقلها.
وفي المساء السابق لمساء القضاء عليها كانت في سريرها تقلبها الهواجس على جانبيها، وقد اتحد غم الظلام وظلام الغم بالضغط الثقيل على صدرها، فكانت ترفع الغطاء عنها؛ لأنها تشعر به ثقيلا ثقل الجبل، ثم تتنهد حتى تكاد تدوي الغرفة من تنهدها، وبقيت كذلك حتى انتصف الليل ولم تنتصف سنة النوم في جفنيها، فسمعت نقرا خفيفا على شباكها، فأعارت أذنها للشباك وأصغت جيدا، فسمعت نقرا متتاليا، فهلع فؤادها فنزلت من سريرها بكل هدوء من غير أن يسمع لها صوت، ودنت من الشباك وأنصتت، فسمعت نقر حصى صغير على الشباك، وصوتا خافتا يقول: «جوزفين، جوزفين، جوزفين.» فأصغت جيدا، والنقر والنداء متتابعان، فاضطربت في أول الأمر، ولكنها ما لبثت أن استأنست؛ لأنها أملت من تلك الصوت فرحا، إما بقطع حبل حياتها أو بخلاصها؛ إذ أصبح الأمران سيين عندها، فوضعت يدها على مزلاج الشباك وهي تنتفض كأن مجرى كهربائيا قويا يعبر فيها، ولكنها لم تجسر أن تفتح، فقالت بصوت ضعيف بالإفرنسية: «من؟» ولكن لو كانت أذن الطارق عند شفتيها لما سمع غير تصعد أنفاسها؛ لأنها لم تستطع أن ترفع صوتها، بيد أنها توهمته في نفسها صراخا يكاد يوقظ أهل العزبة، قالت «من؟» وأصغت فلم تسمع إلا نداء اسمها، فقالت: «من؟» أيضا، فسكت الصوت وخافت أن يبرح من غير أن تراه، فشددت قلبها وحركت المزلاح فتحرك المصراع كله، فسمعت حينئذ الصوت يقول: «افتحي ... افتحي ... لا تخافي.» فاستأنست جدا وشددت قلبها وفتحت المصراع نصف فتح، وتطلعت فرأت شبحا متسلقا على شجرة غضة قريبة من ذلك الشباك، فذعرت في أول الأمر، وقالت بالإفرنسية: من أنت؟
فأجابها بالفرنسية أيضا: أأنت جوزفين؟
فأجابت جازعة وهي تنتفض: نعم، من أنت؟ - لا تخافي، أنا مرسل من الله مخلصا لك. - ولكن، قل لي من أنت؟ - لا تخافي يا جوزفين ... لا تخافي، ثقي بي وإن لم تعرفي اسمي؛ لأني لا أقدر أن أبوح به لك، فربما تعرفينه بعدئذ. - يالله! لقد رعتني يا هذا، قل لي من أنت؟ - لا تخافي يا سيدتي، لا تخافي، اطمئني واسمعي ما أقول لك.
وكان روع جوزفين قد سكن قليلا حينذاك، فقالت: أصادق في ما تقول؟ إني إلى الآن لا أعرف من هو صديقي ولا من هو عدوي. - لست عدوك يا مولاتي، ولو كنت من أعدائك لما اضطررت أن أتسلق الشجرة إليك، بل كنت آتي إليك من باب سجنك. - معقول ما تقول، وسواء كنت صديقا أو عدوا فلا فرق عندي؛ لأني أنتظر الفرج من نقمة العدو كما أنتظره من نعمة الصديق، فقل يا هذا ما شأنك؟ - قبل كل شيء يجب أن تثقي بي. - ما برهانك على صدقك لكي أثق بك؟ - مهما كنت أخدعك فلا أقودك إلى شقاء أعظم من شقائك الحالي، فثقي بلا برهان. - صدقت؛ لأني لم أتصور شقاء أعظم من شقائي الحالي، فإن كان ثمة أعظم فأرني ها إني مستسلمة.
صفحه نامشخص