علل الهيئة الاجتماعية وآلامها
1 - من الجحيم إلى النعيم
2 - حب بلا قلب
3 - بدء الأسرار
4 - الهدية الثمينة
5 - من الملوم؟ الرجل أم المرأة؟
6 - مستودع الأسرار
7 - ابحث عنه
8 - أمامنا عقبتان: الصبي وجوزفين
9 - الحية وحواء والأبالسة
10 - لا تدري أين هو
11 - ليست بخائنة
12 - مؤتمر عزرائيل ويوضاس
13 - بيد العناية السموية
14 - لو كنت تعلمين
15 - مديونة له بحياتها
16 - جزاء سنمار
17 - أما سألت عني؟
18 - الحية الثانية
19 - إضرام الغيرة أشد انتقام
20 - مفتاح الأسرار
21 - رد الكيد إلى النحر
22 - التعويذة
23 - ماري المباركة
24 - كشف المخبأ
علل الهيئة الاجتماعية وآلامها
1 - من الجحيم إلى النعيم
2 - حب بلا قلب
3 - بدء الأسرار
4 - الهدية الثمينة
5 - من الملوم؟ الرجل أم المرأة؟
6 - مستودع الأسرار
7 - ابحث عنه
8 - أمامنا عقبتان: الصبي وجوزفين
9 - الحية وحواء والأبالسة
10 - لا تدري أين هو
11 - ليست بخائنة
12 - مؤتمر عزرائيل ويوضاس
13 - بيد العناية السموية
14 - لو كنت تعلمين
15 - مديونة له بحياتها
16 - جزاء سنمار
17 - أما سألت عني؟
18 - الحية الثانية
19 - إضرام الغيرة أشد انتقام
20 - مفتاح الأسرار
21 - رد الكيد إلى النحر
22 - التعويذة
23 - ماري المباركة
24 - كشف المخبأ
أسرار مصر
أسرار مصر
تأليف
نقولا حداد
علل الهيئة الاجتماعية وآلامها
تئن الهيئة الاجتماعية من آلام علل ثلاث: الشهوة أولاها؛ فالعفاف يتألم من الفساد، والسيادة ثانيتها؛ فالعدل يتوجع من الاستبداد، والأثرة ثالثتها؛ فالسلام يتفجع من الشرور.
في هذه الرواية عبرة من عبر العلة الثالثة وآلامها، وللقارئ الفطن أن يتدبر ذلك.
نقولا حداد
الفصل الأول
من الجحيم إلى النعيم
«أراك تقسو على ابنك في تأديبه يا شيخ حسن، مع أن الرفق لمن هو في سنه أفعل في تهذيبه.» قال هذه العبارة الأمير نعيم لوكيل أملاكه في ق. الشيخ حسن النعمان، إذ كان ذات يوم عنده يتفقد أملاكه، وقد لاحظه مرارا يكلم الغلام يوسف إذ يأمره أن يلبي أمرا. - إنه بليد يا مولاي ... - بل أراه رخصا ضعيفا لا يحتمل ما تحمله، ولا يقدر على ما تكلفه، فخليق بك أن تطلق له العنان في ميدان اللعب، لا أن تقيد حريته بقيد الواجبات؛ لأنه حديث السن جدا. كم عمره؟ - أظن خمسة أعوام. - تظن؟! عجيب، ألا تعلم كم عمر ابنك؟
قال هذا الكلام ضاحكا، أما الشيخ حسن فامتقع وجهه حياء من هذا التأنيب اللطيف، وتردد في الجواب. - ليس هذا ابني يا مولاي؛ ولذلك أجهل ميلاده. - ابن من هو إذن؟ - لا أدري، وإنما المرحومة عائشة القابلة - الداية - دفعته إلي منذ 4 أعوام، إذ كان طفلا يدرج على الأرض، وقالت: «ألك أن تربي هذا اللقيط لعل خيرا منه يرجى؟» فقلت: «أنى لك هذا؟» فامتعضت وأبت أن تجيب لو استطاعت ولكنها لم تر بدا من الجواب، فقالت: «لا أعلم أبويه، فما هو إلا لقيط، أما فهمت؟!» قلت: «فهمت، ولكن لا بد أنك تعلمين أمه على الأقل.» فاقتضبت اعتراضي قائلة: «حسبك ما فهمت، فلا تسل عن أمه إن كنت تشاء أن تربيه.» ففهمت من فحوى كلامها أنه ابن بغاء، فقلت لها: «أربيه، فلا بد أن ينفع ولو خادما.»
وكان الأمير نعيم يسمع حكاية هذا الغلام وهو ينظر إليه مبهوتا، فقال: ولكن إذا لم يكن ابنك أفتقسو عليه إلى هذا الحد؟! إن مثل هذا الوجه النضير، والمحيا المشرق، والمبسم المنير، والجسم الرخص، والعينين الذليلتين، كل ذلك خليق بأبناء الملوك، فحرام أن يسام هذا الهوان في هذه العزبة. - لا بد أن يكون يا مولاي ابنا لبعض الفساق الأوروبيين، الذين يفترشون رمل الحدائق المصرية لبغيهم في إبان قصفهم؛ لأن هذه الملامح ليست ملامح المصريين. - ليكن ابن أي كان، فلا أراه الغلام مخلوقا لحياة على هذا الأسلوب. - ماذا أفعل له يا مولاي سوى أن أعده للفلاحة والزراعة؟
ففكر الأمير نعيم هنيهة وهو جالس على كرسي في حديقة المنزل ينكت الأرض بعصاه. - لماذا لا ترسله إلى مدرسة؟ - مولاي، عندي أولادي وأنا عاجز عن تعليمهم، فهل أبذل نفسي لأعلم ابنا لا صلة لي به؟ وما الفائدة من تعليم هذا الصبي؟! - ألا ترى في مقلتيه بريق الذكاء، وفي صدغيه المنتفخين دليل العقل؟! إنه لم يخلق للمحراث، فهل تسمح لي به؟ - أنا وأولادي وكل من يلوذ بي عبيدكم يا مولاي الأمير. - ما اسمه؟ - يوسف. - ألبسه أحسن ملابسه إذن.
فتحير حسن ماذا يفعل أو ماذا يقول، فلاحظ الأمير حيرته. - أندمت على إعطائي الصبي؟ - كلا يا مولاي. - إذن لماذا تتردد في إلباسه أنظف ملابسه لكي آخذه؟ - عفوا مولاي، إن ما يلبسه الآن هو كل ملابسه.
وكان ذلك الصبي يوسف يلبس رداء لا يعرف له اسم بين أنواع الأردية، فلا هو «جلابية» يعرف، ولا وشاح يسمى، وكان خليقا مرقعا لم يبين له لون تحت أوساخه، فنهض إليه الأمير نعيم وأمسك بيده غير مستنكف، وقال: أتذهب معي يا يوسف؟
فنظر إليه الغلام نظرة استغراب وأمل، كأن لسان حاله يقول: «أنى لي أن أنتقل من الجحيم إلى النعيم؟!» ولكنه لم يفه ببنت شفة. - هيا معي هيا. وجذبه، فامتنع الصبي، فلاطفه فمشى معه بضع خطوات، ثم التفت الأمير إلى أحد الفلاحين حوله، وقال: خذ هذا الصبي الآن إلى مصر، وها إني أذودك برقعة بشأنه.
الفصل الثاني
حب بلا قلب
في ذلك الحين كان الأمير عاصم مختليا بأخته الأميرة بهجت هانم في قصره يتفاوضان بكل اهتمام. - لقد ضاق ذرعي يا عاصم في ملاطفته، وقلت، بل نفدت كل حيلي في استمالته فلم أفلح، وها الآن قد مر علي خمس سنين صابرة على إعراضه، مجالدة في هواه حتى كدت أموت من فتوره، وقد قرأ كل حرف من آيات غرامي، ولم يخف عليه شيء من شجوني، يرى مني كل ذلك ويعاملني معاملة الأخت لا معاملة الحبيبة، فما العمل؟
ثم تنهدت وقالت: آه يا نعيم! ما أنت إلا جحيمي ونعيم جوزفين!
وما استتمت هذه العبارة إلا بصوت أضعف من هبوب النسيم اللطيف، وبعبرات كالسيل الدافق، فقال أخوها الأمير عاصم: خففي عنك يا بهجت وهوني، إن لم تجدي من الهوى جاذبا للأمير نعيم إليك، فلا بد أن أجد في سياستي الخفية دافعا يدفعه إلى جنبك. - أتعني دافعا يدفعه بالرغم منه؟ - نعم. - وما الفائدة؟
إذا لم يكن حفظ الوداد طبيعة
فلا خير في ود يجي بالتكلف - لا بأس، فإن غرضي الأول أن تكون أملاكه في قبضة يدك، وحينئذ يسهل عليك أن تجعلي قلبه في كفك. - آه، آه! ليت لي قلبه وهو حسبي وكفى. - سيكون لك الأمران يا بهجت فلا تقنطي، صبرت كل هذا الأمد الطويل فاصبري ريثما أستتم وسائلي. - كل الحق عليك يا أخي، فأنت الذي نبه قلبي إلى حب عقيم سقيم، لا أعجب إذا لم يمل نعيم إلي ميل العاشق للمعشوقة؛ لأني ربيت وإياه تحت سقف واحد كأخوين، فلا بدع أن يشغف بسواي من النساء اللواتي لا ترميه الأقدار بينهن برهة حتى تمنعهن عنه برهة أطول فتشوقه إليهن؛ ولهذا يزهد بي لأني غير ممنوعة عنه، ولكني أنا لا ألتوي عنه إذ لا أتوقع سواه، فليتك لم تمهد سبيلي إليه وتحجبني عن غيره، فكنت أرحتني من هذا الهم الناصب، آه! لقد قتل جلدي.
وحدث سكوت بضع دقائق وعلى جبين كل من الأمير عاصم والأميرة بهجت غمامة غم سوداء، إلى أن بترت بهجت ذلك السكوت سائلة: وأنت ماذا تم لك مع أخته الأميرة نعمت هانم؟ - لقد أعجزتني أكثر من إعجاز أخيها لك. - أفما لانت؟ - كلا، لم تزل شامخة ولم أدر سر رفضها. - لعل قلبها مشغول بحب مكتوم يا عاصم. - بحثت طويلا فلم أهتد إلى شيء من ذلك. - إذن تأباك ولو كان قلبها خلوا من هوى؟ - لا يهمني قلبها. - يالله! ما أقوى جلدك! ألا تزال تطمع بها وهي نافرة منك؟! - جل ما وعدت به هو أن تقترن بي على شرط أن تحفظ عصمتها لنفسها كما علمت. - ولا أراك تحصل على غير ذلك فاقنع به. - وما الفائدة منه وأنت تعلمين أن جل بغيتي أن أضم لنا كل ميراث المرحوم الأمير إبراهيم تحت إمرتي، بحيث يكون نصيب نعمت تحت يدي ونصيب نعيم لك، فإذا رضيت نعمت على الشرط الذي اشترطته أخيرا وهو أن تحفظ حق عصمتها لنفسها كنت كأني لم أعمل شيئا؛ لأن نعمت تقدر أن تتركني متى تشاء، أو أضطر أن أستعبد نفسي لرضاها كل عمري لكي تبقى لي، ومع ذلك لا أضمن بقاءها، فإذن يجدر بي أن أختلق الوسائل الكافلة بزواجي بها بلا شرط حفظ العصمة. - إذا لم تحصل على الكثير فاقنع بالقليل، وهاك أنت قد خطوت أكثر مني. - لا أقنع ما لم أخف أن يفلت من يدي هذا القليل، ألا تعلمين أني صبور قليل الأمل، ثبوت لا أنثني إلا ظافرا بأمنيتي؟!
لا بد هنا أن يعرف القارئ ما هي نسبة الأمير عاصم وشقيقته الأميرة بهجت هانم، بالأمير نعيم وشقيقته الأميرة نعمت هانم ...
الفصل الثالث
بدء الأسرار
وتحرير ذلك أن المرحوم الأمير إبراهيم توفيت زوجته الأولى، وهي من ذوي قرباه عن ولدين هما: الأمير نعيم، والأميرة نعمت - المذكورين آنفا. وفي أثناء رحلاته إلى الآستانة تعرف بأرملة تركية ذات ولدين هما عاصم وبهجت هانم، وقد زعمت هذه الأرملة أنها كانت زوجة أحد الكبراء، وكانت هذه الهانم على درجة سامية من الدهاء والذكاء فضلا عن الجمال النادر، فعلق بها الأمير إبراهيم المذكور أبو الأمير نعيم وتزوجها، وضم ولديها إلى ولديه ولقبهما بالأمير والأميرة كأنهما ولداه، وعني بهما جدا، فعاشا مع ولديه كأخوين لهما إلى أن مات، وحينذاك استلم إدارة ميراثه الأمير عاصم.
ولم يدخر الأمير عاصم وسيلة لإظهار طاعته وحبه لأبيه الجديد، والتفاته إلى أخويه الجديدين حتى بعد وفاة أبيهما، كان يظهر لهما الغيرة على مصلحتهما والإخلاص لهما؛ ولهذا كانا يحترمانه ويثقان به. ولكن كان في عزم الأمير عاصم أن يزوج أخته بهجت للأمير، ويتزوج الأميرة نعمت أخت الأمير نعيم؛ لكي تظل ثروة الأمير إبراهيم أبيهما الطائلة تحت إمرته، ولكن لا نعيم ولا نعمت كانا يميلان إلى عاصم وأخته بهذا المعنى قط، بل كانا يعتبرانهما كأخوين، ولما أظهر عاصم وأخته أمنيتهما من نعيم وأخته، أبى هذان عليهما ذلك.
أما نعيم فلما كان يدرس في فينا عاصمة النمسا علق فتاة نمساوية تدعى جوزفين، وأخلص لها الحب فعلقته وأولعا أحدهما بالآخر، وأخيرا عاهدها على أن يتزوجها، فصحبته في عودته إلى مصر بعد إذ انتهى من الدراسة، ولكن أباه أنكر عليه الزواج الشرعي بها؛ لأنها أجنبية الجنس والدين ووضيعة الحسب. أما نعيم فلم يكن ليعتبر هذه الأسباب كافية لمنع زواجه بجوزفين؛ لأنه وجد فيها كل أمانيه بالزوجة، وجد أنها على غاية من الأدب والذكاء واللطف والجمال والصحة فضلا عن المعرفة وطيب السريرة، ولم يكن نعيم ممن يحسبون الحسب ونحوه شيئا تلقاء هذه الفضائل، ولا كان ممن يتعصبون للدين ولا للجنسية، ولا سيما لأن دينه لا يحرم عليه الزواج من امرأة غريبة عنه جنسا ودينا؛ ولهذا صمم أن يثبت في حب جوزفين، وبما أنه كان يستنكر أن يغيظ أباه أو يعصيه بأمر، ولو كان الأمر مخالفا للصواب - ولا سيما لأن أباه في آخر أيامه - عقد عقد زواجه بجوزفين سرا على نية أن يعلنه بعد وفاة أبيه، وإنما فعل ذلك قبل وفاة أبيه؛ لكي يفي بوعده لجوزفين.
وفي ذلك العام الذي تزوج فيه رحل رحلة صيفية إلى أوروبا، وترك جوزفين حاملا، وقبل أن يعود نعي إليه أبوه وأبلغ خبر إجهاض زوجته، فعاد في الحال فتلقاه الأمير عاصم بكل ملاطفة وتعزية وبالغ في تسكين اضطرابه على زوجته، وفي تخفيف أحزانه على أبيه، وانتهز فرصة أطلعه فيها على وصية أبيه قبل وفاته.
وكان من أهم نصوص تلك الوصية: أولا: أنه أوصى بثلث تركته للأمير عاصم كأنه ابنه، ونظرا لما كان له من الغيرة على البيت والاهتمام بالأملاك، وثانيا أنه حتم على نعيم أن يتجنب الزواج من أجنبية عنه دينا أو وضيعة عنه حسبا؛ لأن هذا لا يليق بأسرته الشريفة، وقد بالغت الوصية في هذا الموضوع جدا وتهددته بغضب أبيه إذا أبى.
أما الأمر الأول الذي ينص على إيهاب ثلث التركة للأمير عاصم فلم يعبأ به نعيم البتة، بل أظهر رضاه عنه وأقنع أخته الأميرة نعمت بصوابه وباستحقاق الأمير عاصم له كأنه أخوها الحقيقي، وأما الأمر الثاني؛ أي تحريم زواجه بأجنبية، فانقض على فؤاده كالصاعقة؛ لأنه كان يحب جوزفين حبا شديدا، وكان مزمعا أن يعلن قرانه الشرعي بها بعد وفاة أبيه، فحار ماذا يفعل؛ فإن داس وصية أبيه ولم يعبأ بها عرض نفسه للوم أقربائه ونقد العموم له، وهو يتحاشى جدا أن يثلم بأمر، وإن طلق جوزفين طلق سعادته وهناءه، وإذا كان قد حرم على نفسه أن يشرك في حبها، فكيف يسهل عليه أن يجحده، ولا سيما لأنه كان مشهورا بين ذويه وجميع معارفه بأنه ميزان العدالة والإنصاف، فلا يبخس أحدا حقه ولا ينقض عهده ولو كان النقض فدية لدمه!
وبعد تفكر طويل صمم على أن يبقى قرانه بجوزفين مكتوما، وأن يواظب على عزوبته الطاهرة، فكان ذوو قرباه يعتقدون أن جوزفين محظية عنده لا زوجة له، أما الأمير عاصم فكان يعلم أنها زوجته، ولكنه كان يتجاهل لغرض في نفسه. وغرضه أن يبقي أمامه مجالا لعرض أخته بهجت هانم على الأمير نعيم وعقد عروة الحب بينهما؛ ولهذا كانت الأميرة بهجت تتحبب لنعيم وتتودد إليه؛ لكي تستميله فيتزوجها ويترك محظيته جوزفين، أو بالأحرى زوجته. أقول زوجته لا محظيته؛ لأنه كان يستنكف جدا أمر المحظيات، ويعتقد أن الرجل لا حق له أن يحظى بغير زوجته، وأن المحظية مهما كانت مكرمة مع رجلها، ومهما كانت راضية في عشرته الوقتية، مغبونة في هذه الحظوة التي ليست إلا ضربا من العبودية.
على أن بهجت هانم عجزت عن استمالة الأمير نعيم بوسيلة التودد والتحبب، لا لأن نعيما كان يكرهها، ولا لأنه لم يكن يستحسنها، بل لأنه كان يحب جوزفين حبا يداني العبادة ويأبى أن يشرك في هواها، ومع ذلك كان يجامل الأميرة بهجت ويحاسنها، ويحاول أن يقنعها بالأساليب اللطيفة أن توجه حبها إلى سواه حيث يكون حبا مثمرا.
ولطالما أقنعت أخاها بأن الأمل بنعيم كالأمل بالماء من السراب، وأن الأفضل لها أن تنثني عنه إلى طلابها الآخرين الذين تردهم الواحد بعد الآخر، ولكن الأمير عاصم لم ينفك عن أن يحرضها على الثبوت في هواه ممنيا إياها بالفوز في الآخر القريب.
أما الأميرة نعمت هانم فكانت قد تزوجت الأمير ظافر ولم تستوف في مساكنته الحول الكامل حتى فاجأته المنون قبيل وفاة أبيها، وكانت حاملا فولدت على الأثر، وقيل لها إن طفلها مات في الساعة الأولى من عمره.
ولذلك صمم الأمير عاصم أن يغتنم خلو قلبها لكي يحتله، حتى إذا فاز بها وفازت أخته بالأمير نعيم بقيت تركة المرحوم الأمير إبراهيم تحت إمرته، وهذا جل ما كان يرمي إليه بسياسته الخفية. قلت: الخفية؛ لأنه لم يكن ليظهر طماعا بالمال، بل كان يتظاهر بالغيرة الحادة على مصلحة ذلك البيت، وكان كل من يعرفه يعتقد بإخلاصه المحض وطيب قلبه وتفانيه في الحرص على من يلوذ بذلك البيت الكريم.
على أن نعمت هانم بالرغم من اعتقادها بحسن مقاصده وسلامة طويته وغيرته عليها وعلى أخيها، لم تجد في نفسها ميلا إليه، بل بالأحرى لم تكن لتطيق التصور أنه زوجها أو أنها تسر بزوجيته؛ إذ لم يكن مليحا في عينيها. ولهذا كانت ترفض طلبه وأخيرا رضيت به على شرط أن تحفظ عصمتها كما تقدم القول.
ولا عجب من نفورها منه؛ لأنه كان وقورا جدا، مهوبا ثقيلا على قلب الفتاة، مدققا في المعاملة، جافا في المجاملة والملاطفة، بالرغم من محاولته لمؤانستها والتودد إليها بالرقة.
الفصل الرابع
الهدية الثمينة
- كيف رأيت هديتي لك يا عزيزتي جوزفين؟ - تعني بها الصبي يوسف؟ - نعم. وابتسم الأمير نعيم ابتسامة حب. - لا أقدر أن أحكم حكما نهائيا فيها ما لم أعلم ما هي قيمتها عندك؛ لأن نظري إلى الأشياء متوقف على نظرك لها، ولا سيما هذه الهدية على الخصوص، على أني أقول لك كل ما هو منك لا أقدر أن أقدره بثمن.
فألوى الأمير نعيم على جوزفين وضمها إلى صدره، ولثم شفتها، ثم اعتدل في مجلسه. - كيف رأيت الصبي؟ - رأيته جميلا جدا ووديعا ... - بل قولي: ذليلا. - ولطيفا وأليفا. واستغربت كيف أنه لم يستوحش قط، بل كان مسرورا بالأمس، أما اليوم فشعرت أنه استوحش قليلا، فتلافيت وحشته بأن لاطفته ومازحته. - بارك الله فيك يا جوزفين يا حبيبتي، ألا تتوسمين ذكاء في عينيه؟ - بلى هذا ما لحظته وفاتني أن أذكره لك الآن، ولا تجهل يا حبيبي نعيم أن النساء أول ما يبدر إلى ذهنهن أمر الجمال ونحوه من المظاهر الخارجية، ولكن قل لي ما حكاية هذا الولد؟ فإني لم أفهم من رسالتك بشأنه سوى أنه مهمل؛ إذ تسألني هل أشاء أن أربيه كابن لي، ثم تخبرني أن لك رغبة في ذلك، وإنما تقدم رغبتك على رغبتي في أمره. - وجدته في عزبتنا في ق. عند الشيخ حسن النعمان وكيل العزبة، فدهشني منظره وحكمت لأول وهلة أنه لا يمكن أن يكون ابن حسن المذكور؛ لأن سحنته تختلف كل الاختلاف عن سحنة أولاده فضلا عن بياض وجهه الناصع، ثم إني رأيت حسنا هذا وزوجته وأولاده يعاملونه بكل قساوة كأنه غريب عنهم، فحرق قلبي عليه ورثى له، وشعرت في نفسي بحب له وحنو عليه، فسألت الوكيل حسنا: لماذا يقسو عليه؟ فأجابني: ما استفدت منه أن الغلام ليس ابنه، فتحققت أمره وعلمت أنه لقيط، حظيت به المرحومة عائشة الداية، فدفعته لحسن لكي يربيه، فخطر لي في الحال أن أتولى تربيته على يدك لغرضين: أولا: لكي يملأ فراغا في قلبك؛ فإنك وقد وصلت إلى دور الأمومة ولم ينعم الله عليك بسوى جنين قضى قبل أن تريه ويراك، لا بد تتوقين إلى ولد تربينه وتفرغين له حنوك، وقد توسمت في ملامح هذا الصبي ما يجاوب طلب فؤادك ... - عجيب! كأني بك تعبر عن إحساساتي وتشرح عواطفي، والحق أقول لك إني ما رأيت هذا الصبي حتى انعطفت عليه؛ لأن سيماه انطبعت في الحال على صفحة قلبي وشعرت بالميل نحوه كما توقعت. - ثانيا: قصدت بذلك أن أنجيه من عيشة الشقاء التي كانت أمامه، بل من الهوان الذي كان مرافقا له كظله بين أولاد حسن النعمان، قصدت ذلك لأني توسمت فيه مخائل النجابة والذكاء والفطنة، ولاحظت أنه لم يخلق لمثل هذا النوع من الحياة، وأنه إذا ربي تربية صالحة وتلقن العلم، فقد يكون فردا عاملا نافعا في الهيئة الاجتماعية، وربما صلح لأن يكون ممثلا لاسمنا في مستقبله. - حسنا فعلت، ولقد صدق ظنك بي، بل إني أضيف هذا الأمر إلى الدلائل العديدة التي تدلني على حبك الصادق، وسترى أني أتمم كل مقاصدك في هذا الصبي. - في كل حرف من كلامك يا جوزفين مضرم جديد لنار حبي ، فما أطيب قلبك وأرق شعورك! إلى متى أنتظر منك اقتراحا فألبيه؟! بل أمرا من أوامرك فأطيعه؟! لقد مر علينا أكثر من خمس سنين زوجين فلم تسأليني سؤالا واحدا، ألا تريدين شيئا؟
فابتسمت جوزفين وقد تمثلت فيها الدعة بأجلى صورها، وقالت: وهل غفلت يا نعيمي عن أمر حتى يبقى لي سؤال منك؟! أي حاجة لي لم تلبها قبل أن أفطن لها؟! وهل يكون في حاجة من هو عند النعيم؟! إن لي حاجة واحدة ولكن ...
فقاطعها قائلا: ما هي؟ - ليس في وسع أحد غير الله أن يجيبها، وهي أن تبقى لي سالما مسرورا. - يالله! ما أحلاك يا حبيبتي! لأجلك فقط أريد السلامة والسرور، ولكني أشعر معك ... - بماذا؟ - بنغصتك. - أي نغصة؟! - لا تنكري يا جوزفين، أشعر أنك تتنغصين وتتألمين لعدم إعلان زواجنا، ولعدم ظهورك للملأ بمظهر الزوجة الشرعية لي. - بل إني أتألم الآن لشعورك الأليم بما تظنه من نغصتي، فهل تريد أن تريح فؤادك وفؤادي معا بأن تعتقد أني مسرورة وراضية بهذا التخفي الذي قضت به الظروف وأوجبته عادات قومك؟ - إني لأمتن لك جدا يا جوزفين، وأقدر قيمة تضحيتك لأجلي قدرها، وأعترف لك أنها ثمينة جدا.
وبعد هنيهة جاءت إحدى الخادمات بالصبي، فنادته جوزفين قائلة: هلم يا يوسف إلى أبيك. - لا، لا أريد أبي ولا أمي أريد أن أبقى معك. وكاد يغص بكلماته. - تعال إلى أبيك هذا. وأشارت إلى الأمير نعيم، فدنا إليه فأمسكه بيده وأجلسه إلى جنبه وطوق عنقه بذراعه، وقال له: لماذا لا تريد أن تذهب إلى أبيك وأمك؟ - لأنهما يضربانني كثيرا ولا يحبانني كهذه.
وأشار إلى جوزفين. - إذن تحب هذه السيدة؟ - نعم، أحبها كثيرا. - أتريد أن تكون أمك وأنت ابنها؟ - نعم، نعم. - وهل تحبني أنا؟ - نعم. - إذن قم إلى أمك هذه وقبل يدها.
فنهض الصبي يوسف في الحال، ودنا إلى جوزفين وتناول يدها وقبلها، فحضنته جوزفين وقبلته، فقال لها الأمير نعيم: لو رأيته كما كان في العزبة لأنفت أن تقبليه؛ لأنه كان في حالة زرية جدا. - أتصور ذلك. - أكثر مما تتصورين؛ ولهذا استنكفت أن أرسله إليك رأسا، بل أرسلته إلى منزل أحمد بك نظيم وكيل الدائرة، والتمست منه أن يكلف أهل منزله أن يغسلوه جيدا، وأن يشتري له الملابس الفاخرة، وأن يقص المزين شعره، حتى لا يأتي إليك إلا وقد امحى كل أثر من آثار شقائه، وبدت ملامح بهائه. - من لا يراه الآن ولا يقول إنه ابن الكبراء؟! - لا ريب أن أبويه إفرنجيان لأن سحنته أوروبية أكثر مما هي شرقية، ولا بد أن يكون أحدهما نبيلا عريقا في الحسب إذا لم يكونا كلاهما كذلك. - ترى لماذا أنكره؟ وكيف استطاعت أمه أن تفارقه؟ - الأرجح أنه ابن البغاء، وبقاؤه مع أمه عنوان عار لها، وإذا كانت ممن لا يعبأن بالعار ولا يستحين من الشنار، فهي بلا ضمير ولا قلب، وبالتالي بلا حب ولا حنو، وبقاء ابنها معها يكون ثقلا عليها؛ إذ لا فؤاد لها لتملأ فراغه بحنو الأمومة، فعلى كلا الحالين يكون ابن البغي منبوذا. - إذن هي كالتمثال المتحرك؛ لأني لا أقدر أن أتصور مرأة ذات حياة خلوا من قلب يستوعب الحب ويعي الحنو! - نعم هي كذلك؛ لأن سقوطها في هاوية البغي أمات فؤادها فصارت كالصنم إلا أنها تفعل أفعال الأحياء.
الفصل الخامس
من الملوم؟ الرجل أم المرأة؟
ففكرت جوزفين هنيهة، وقالت: إني لأعجب كيف أن المرأة التي هي أحرص من الرجل على العرض والشرف تسقط سقوطا هائلا حتى تموت هذا الموت الأدبي؟ - لا تظني أنها تسقط من نفسها، بل إن الرجل يخدعها ويسقطها، وكلما اعتصمت بحصن قلبها هاجمه الرجل بشدة حتى يفتحه ويحتله، ومتى احتله يفعل ما يشاء؛ لأن المرأة تستسلم له حينئذ. - نعم، هذا هو غلط المرأة؛ أنها تستسلم. - لا تقولي «غلط» يا عزيزتي جوزفين؛ لأن الحب يقضي بهذا الاستسلام، ولا مناص للحب منه، ولكن قولي ذلك هو ظلم الرجل، بل غدره؛ أي إنه يستوهب قلب المرأة ثم ينكره عليها. - ولكن غلط المرأة أنها تستسلم قلبها بلا حجة أو «وصل» أو صك بيدها لتطالب به عند اللزوم. - الحب يا جوزفين متحد بالثقة، وحينما تكون الثقة لا يسأل عن صك وإلا كان الحب كاذبا، فالمرأة غير ملومة في أن تسلم قلبها المفعم من الحب بلا صك، وإنما يلام الرجل الذي يؤمن فيخون، وإن كنت تعتقدين أن المرأة تخطئ باستسلامها حتى بعد وثوقها بعهد من تستسلم له، فإنك أخطأت نفس الخطأ معي، ولو لم أف بعهدي لك وأقترن بك اقترانا شرعيا لسقطت باستسلامك لي.
فبهتت جوزفين هنيهة مفكرة وقالت: صدقت في ما تتهم به الرجل من الغدر والخيانة، ولكني لا أبرئ المرأة في سقوطها، فمهما كانت محبة وواثقة لا يجوز أن تستسلم ولو صدقت العهد ووثقت بالوعد. - إذا لم تستسلم لا تكون واثقة، وإذا لم تثق لا تكون محبة. - هذا وجه الخلاف بيننا. أنت تقول إنها إذا أحبت كل الحب ووثقت ملء الثقة وجب أن تستسلم، كأن الاستسلام دليل على حبها وثقتها، وأنا أقول لا يجوز لها أن تستسلم مهما أحبت ووثقت، وليس عليها أن تثبت حبها وثقتها باستسلامها، بل بشيء آخر؛ لأن في الاستسلام تضحية، فماذا يضحي الرجل لها ليثبت حبه لها وثقته بها؟
فبهت نعيم هنيهة، ثم قال خافت الصوت: بماذا تثبت حبها وثقتها إذن؟ - بماذا يثبت الرجل حبه وثقته؟ أجبني أجبك.
ففكر الأمير دقيقة وهو يفتل شاربيه، ثم نظر إلى جوزفين وبين شفتيه غدير ابتسام دافق، وقال: أفحمتني يا جوزفين، فإني أنظر الآن في المسألة من غير الوجه الذي كنت أنظر إليه قبلا.
ثم استرسلت جوزفين قائلة: أسلم معك أن الرجل ملوم كل اللوم في خداع المرأة كما يلام كل خائن، ولكن ليس ملوما في سقوط المرأة كل اللوم وحده، وإنما هي تلام أيضا؛ لأنها تسلم نفسها بلا مقابل، فإذا تكافأ الرجل والمرأة في الحب وجب أن يتكافآ في كل شيء، فإن استسلمت له وجب أن يكافئها على ذلك الاستسلام مكافأة مساوية له على الأقل، فهي لا تسلمه نفسها إلا على مطمع أن يسلمها نفسه أيضا، فلماذا تسلمه قبل أن تعقد العهد الشرعي معه؟ فحسبه أنها تظهر له من الحب كما يظهر لها. ولماذا يطالبها بأكثر وهو لم يملكها ما يساوي مطلوبه؟ وإذا شكت في حبها وثقتها لعدم استسلامها له، أفليس لها أن تشك في حبه وثقته لعدم تعهده «الشرعي» العلني لها، فإن استسلمت عن ثقة تامة، ثم خدعت لا تكون براء من الخطأ، وإن استسلمت غير معبئة بوعد أو عهد فتكون قد أسقطت نفسها عمدا، وذنبها على رأسها وحدها، وحاصل القول أن للمرأة أن تحب وتثق وتسلم ما شاءت، إلا مقامها وعرضها، فيجب أن تحتفظ عليهما، وإذا سلمتهما بلا صك أو حجة كانت ملومة بلا محالة. ولا ريب أني غلطت نفس الغلطة، ولكن لم يشأ الله أن يعاقبني على غلطتي؛ لأني سعيدة البخت إذ اتفق أني سلمت نفسي لأمين كله طيبة وإخلاص، ولكن ذلك لا يتفق لكل أنثى. - أفحمتني يا جوزفين، ولكنك لم تقنعيني. أسلم معك أن المرأة غير براء في أمر سقوطها الأدبي، ولكني ألقي تبعة الأمر أولا على الرجل ثم عليها؛ لأن الرجل مغو وهي مغواة، وهو مهاجم وهي مدافعة، وهو قوي وهي ضعيفة، تكون المرأة مطمئنة على نفسها صائنة لعرضها حريصة على عفافها، فيأتي الرجل ويحاول أن يختلس طهارتها، وقلما ظفر الرجل بعفاف المرأة إلا بناء على وعد منه لها، فإذا سلمته نفسها ثم خانها، أفلا يكون الذنب كل الذنب عليه؟! - ليس كل الذنب بل معظمه؛ لأنها أذنبت قبله باستسلامها من غير عقد شرعي. - نعم، ولكن مسكينة المرأة ضعيفة، ومع أن الواجب على الرجل أن ينصرها ويقويها، تراه يغتنم ضعفها لانتهاب عفافها وإسقاطها، وأخيرا لا يرحمها ...
فقاطعته جوزفين مباغتة: نعم، بهذه أصبت؛ «لا يرحمها»، بل يزيد شقاءها شقاء بأن ينبذها كالزهرة الذاوية، يفعل الذنوب السبعة ويظل يقال له «الفاضل العاقل الشريف النبيل الأريب ...» إلى غير ذلك من الصفات الحسنة، وأما المرأة فإذا سقطت مرة سقطت إلى الأبد، وأصبحت قذارة يتحاشى الرجل أن يتصل بها علنا لئلا يلتطخ بعارها. هل رأيت بغيا ناهضة من وهدة بغيها يمد إليها أحد الناس يده لينتشلها من وهدتها؟ وإذا انتشلها فهل ترى أحدا يغض نظره عن ماضيها ويحاسبها على حاضرها؟ بل أي بغية شقية إذا حاولت النهوض عن حضيض بغيها وشقائها لا ترتفع ألف قدم لكي تدوسها وتسحقها في ذلك الحضيض.
ولكني رأيت كثيرين من الرجال، بل معظم الرجال ينغمسون في حمأة الدنس كل يوم، بل يتمرغون سرا عند قدمي المرأة البغي التي يحتقرونها ويدوسونها ويتحاشون في العلن أن يعرفوها، بل يتجنبونها تجنب السليم الأجرب، بل يأتون كل المنكرات ويبذلون كل شرف ويدنسون كل طهارة، ومع ذلك كله يصفون بعضهم بعضا بأشرف الأوصاف وينعتون بأطهر النعوت، وأنكى من كل ذلك أنه إذا طلب الواحد منهم زوجة، قال: أريد فتاة لم يمسها النسيم بعد!
وما انتهت جوزفين عند هذا الكلام حتى ظهرت الحدة في لهجتها كأنها تخاصم، فابتسم لها الأمير نعيم ثم قال مقهقها: هدئي روعك، إني أوافقك على كل ما تتهمين به الرجل من ظلمه وغبنه للمرأة، وأعتقد أن في طاقة الرجل أن يقلل الفحش والفجور، بأن يعاون المرأة على حفظ طهارتها لا أن يحاربها ليبتز عفافها، يعاونها ليس بأن يحبسها عنه ويحتبس عنها، بل بأن يجري معها على السنن الطبيعية والاجتماعية؛ أي أن يتخذ المرأة حليلة لا خليلة.
الفصل السادس
مستودع الأسرار
بينما كان الأمير نعيم وجوزفين يتناقشان بهذا الموضوع الاجتماعي، كان أحمد بك نظيم رئيس الدائرة زائرا في قصر الأميرة نعمت هانم شقيقة الأمير نعيم، وقد ساقتهما الأحاديث إلى ما يأتي: إني لأعجب من صبرك يا أحمد بك، لقد مر أكثر من خمسة أعوام على توددك هذا فلم تنقص ولم تزد، فإلى متى تلعب في فؤادي؟! أبثك الآن حبي الشديد الخالص، فإن كنت تخاف أن تبسط لي حبك فأنا أشجعك الآن. - لا تجهلين مقدار غرامي يا مولاتي، تعلمين تمام العلم من غير أن أصرح به بلساني، فإن في كل جارحة من جوارحي آية بينة على هذا الحب، ولكن أين أنا منك يا نعمت؟! - تعني الفرق بيني وبينك في النسب؟ إنه فرق بسيط جدا يا أحمد، وإن لي من المقام الذي أحرزته أنت في الهيئة الاجتماعية والمكانة التي اتصلت إليها في نظر الكبراء والعظماء ما يرفعك إلى مقام أسرة الأمراء، ثم إن لي من ذكائك وفطانتك وظرفك ما أفخر به، فلا فرق بيننا، وما أنا أول من تجاوز دائرة الأسرة من أميراتها، ولو شئت لعددت لك كثيرات من الأميرات اللواتي تزوجن من غير الأمراء، ونرد على ذلك أني كأخي نعيم لا نعبأ كثيرا بهذه التقاليد الباطلة السخيفة، وعندنا أن شرف النفس أفضل من شرف الأصل. إني يا عزيزي أحمد أكلمك بكل حرية؛ أولا لأني أعتقد أنك تقدر معنى حريتي هذه قدرها فلا تعدها تبذلا، وثانيا لأن لي بك ملء الثقة بأن لا تتخذ إعلان ودادي لك سلاحا تشهره علي في حين من الأحيان ... - معاذ الله يا أميرتي أن أحط من مقامك مهما رفعني الحب إلى الغرور! فإني أحبك جدا وأعلم بعظم محبتك لي، ولكن الحب لا يعميني عن محامدك وفضائلك وعلو مقامك. - إذن دعنا نتكلم صريحا بكل حرية.
فاضطرب أحمد بك كأنه يخاف نتيجة الحديث، بيد أنه لم يستطع حسم المحادثة فقال: مري ما تشائين يا سيدتي. - تؤلمني إذ تقول «سيدتي»، نحن وحدنا الآن والحب يجعلنا متساويين، والحقيقة أننا متساويان، ألا تذكر كم كنت تتودد إلي قبل وفاة زوجي؟! (فاحمر وجه أحمد بك).
لا تضطرب، كنت ألاحظ كل حركة من حركاتك، بل كنت أسمع كل نبضة من نبضات قلبك. - ولكني كنت أجتهد أن أغالطك؛ لكي لا تفهمي أن هذا التودد عن حب مبرح؛ لأنه حب محظور. - ولكن دلائل الحب إن اختفت عن الناس فلا تختفي عن المحبوب، فقد قرأت صفحات فؤادك حينئذ وتجاهلت؛ لأني كنت في عصمة رجل لا يجوز لي أن ألتفت إلى سواه، ثم بعد وفاة زوجي تفاهمنا كفاية وأدركت مطامح نفسك، أفلا تذكر أنك كدت تصرح لي مرة بأمنيتك؟ - نعم أذكر، وليتني ...
وتوقف أحمد بك كأنه لا يود أن يقول ما يعني. - ليتك ماذا؟ أفصح. - ليتني لم أفصح حينئذ عن غرامي يا سيدتي؛ لأنه غرام عقيم . - كذا كنت تظن حينئذ؟ - نعم. - تعذر، والآن هل اقتنعت أنه غير عقيم؟ - لم يزل عقيما يا حضرة الأميرة.
فاتضحت أمائر الانذهال في وجه الأميرة نعمت، وقالت: عجيب! ماذا تراه حائلا دون أمنيتك؟! - آه! لست لي يا سيدتي. - لماذا؟ - لأني لا أستحقك. - تكاد تجنني يا أحمد؛ لأني ما كنت أظنك ترفض. - لست أرفض يا أميرتي، وإنما أقول لك إنك لست لي؛ لأني لست كفؤا لك، بل أنا أدنى جدا من أن أكون لك. - ألا تصدق أن النسب لا يفرق بيننا؟ - لو كان النسب وحده فارقا لما حسبته حائلا بيننا. - إذن الغنى؟ - إذا لم يكن النسب حائلا، فهل يمكن أن يكون الغنى كذلك مع أنه شيء ثانوي بالنسبة إلى النسب؟ ومع ذلك فإني أصبحت من فضل بيتكم الكريم ذا ثروة طائلة. - نعم؛ هذا ما أراه مجرئا لك على طلب يدي ... فإذن ماذا؟
فتنهد أحمد بك وقال: آه! اعذريني يا مولاتي، إنك قد تنازلت كثيرا لمن لا يستحق إلا الخزي منك، رحماك! سامحيني؛ إني لست مستحقا لك. - حيرتني يا أحمد! أفصح، ماذا تعني؟
فاضطرب أحمد جدا وتلعثم لسانه وهو يقول: إنك لمن هو أعظم مني. - هاها! أنت تتخوف من الأمير عاصم؟! فتأكد أنه لا ينال قلامة ظفر مني لأني لا أحبه، وقد أوشكت أن أكرهه؛ لأنه ضايقني جدا بالتماس يدي، وإن كان عندي شيء من الحب له فما هو إلا حب أخوي فقط، كاد يطفئ نوره بشدة مضاجرته لي، فإن كنت تحسب له حسابا فاعلم أن إرادتي فوق كل إرادة. - ليس هذا هو الحائل الوحيد مع أنه كاف. - قلت لك إنه ليس حائلا البتة؛ لأن إرادتي في ما يخصني فوق كل إرادة. - ولكن ... - ماذا؟ قل، لقد نفد صبري.
وكادت نعمت هانم تستشيط غيظا؛ لأنها حادة المزاج، وقد شق عليها جدا أن يقابل أحمد بك عرضها نفسها بهذا الخذلان. - مولاتي، رحماك! اعذريني وسامحيني، أكون لك ما شئت غير بعل، أكون خادمك أو خادم خادمك. - خسئت يا جبان، أأعرض يدي على خادم؟! ما عرفتك بهذه النذالة!
ثم نهضت على قدميها وهي تقشعر من الغيظ وقالت: اسمع، إنك بعد الآن عدوي الألد، إن عرف أحد حرفا مما دار بيننا لا تدري من أين تنصب عليك البلايا!
فركع أحمد بك عند قدميها وأمسك بحاشية ثوبها متضرعا. - رحماك يا أميرة! رحماك! لست نذلا ولا جبانا إلا لديك؛ لأني أعد نفسي أثيما لك فلا أستحقك، فارحميني واستخدميني لأي مأرب تريدينه. - لا تصلح لشيء؛ لأنك نذل. - كلا يا مولاتي، أفصحت لك السبب. - أي سبب؟! - قلت لك إن في عارا لا يمحى فأدنسك لو كانت لي صلة بك.
فتنبهت الأميرة لكلامه قائلة: ماذا؟! أي عار هذا؟! لا أفهم. - لا أقدر أن أقول لك أكثر مما قلت. - بل تقول، فإما أن أمحي عارك أو أن أعذرك. - عاري لا يمحى، فاعذريني.
فعادت الأميرة إلى مكانها وقعدت مفكرة وقد أخذ اضطرابها أن يسكن، وبعد سكوت هنيهة قالت: أما تقول لي سرك هذا؟! - رحماك رحماك! ليس في وسعي، فأرجوك أن تمني علي بالمعذرة ... - يالله! لم أكن أظن أنك ذو أسرار.
فأطرق أحمد بك هنيهة، وهو يصلي في قلبه أن يخرج من هذا المضيق كما دخل، ثم قالت: إذن تستحيل إزالة هذا الحائل السري بيننا! - نعم! نعم! - ليتني أعرفه لعل لي حيلة فيه. - ليتني أقدر أن أبوح به حتى لنفسي. - أخفتني يا أحمد بسرك هذا. - لا تخافي. - هل له مساس بي؟ - كلا.
ولكن قشعريرة عبرت في بدن أحمد من رأسه إلى أخمص قدميه حتى لمحتها نعمت لمح الوميض. - لقد هجتني إلى معرفة هذا السر. - لا تهتمي به يا مولاتي، فإنه من خصائصي.
ففكرت نعمت برهة وقالت: هل يهم الأمير عاصم؟ - كلا، ولكن ... - لكن ماذا؟ قل: حالا. فإني لا أطيق هذا الكتمان بعد الآن، إنك تضطرني إلى فعل سيئ المغبة.
فنظر أحمد بك إلى عينيها، فذعره التهابهما بنار السخط. - مولاتي، إن الأمير عاصم نهاني نهي الآمر المطلق عن أن أتعرض لك بأمر.
فقهقهت قائلة: أهذا كل سرك؟ - شيء منه. - ولكنك قلت إنه لا يمس الأمير عاصم. - نعم ؛ لا يمسه سري الحقيقي. - لم أزل غير فاهمة. - بربك يا مولاتي، لا تجتهدي أن تفهمي شيئا؛ لأن فهم الأمر لا يفيدك وإنما يضرني. - ألا تثق بي؟! - كل الثقة. - فلماذا لا تقول إذن؟! - لأن لا فائدة من القول. - من العبث أن أستدرجك إلى التصريح على ما أرى. (ثم سكتت برهة وهي تفكر وأحمد بك لا يجسر أن يفوه ببنت شفة ويخاف أن يستأذن للانصراف.) إن كان كل خوفك من تهديد عاصم فبكلمة واحدة أقصره ... - كلا يا مولاتي، لا يخيفني أحد إلا نفسي، فاقتنعي أن الأفضل لك أن لا أتصل بك. - كفى! كفى! امض وانس كل ما كان، بل اصبر، لماذا إذن كنت تتحبب إلي في ما مضى؟ - لأني في بدء الأمر كنت بلا سر، ولما تمكن في حبك لم أعد أقدر أن أكتمه، فاعلمي يا مولاتي أن الحب مقودي في يدك، على أني أحبك وأبقى عازبا لأجلك.
عند ذلك استلقت الأميرة نعمت في مقعدها واهية، وقالت: اذهب عني الآن؛ فإني محتاجة إلى الراحة، لم يعد لي عصب يحتمل المزيد من التأثر.
فانصرف أحمد بك وهو لا يدري أين يهلك نفسه. •••
أما أحمد بك فكان شابا ظريفا لبقا جميل الطلعة خفيف الدم، وقد تخرج في المدارس العليا جيدا، ثم تولى إدارة دائرة الأمير إبراهيم وأظهر حذاقة في ضبط أعمالها ودقة حساباتها، وأبدى غيرة فائقة على ذلك البيت الكريم حتى كان محبوبا من كل أفراده، ونال عندهم مكانة سامية، وقد كان بينه وبين نعمت هانم من الود، بل من الحب الشريف، ما أفضى إلى هذا الحديث الذي سلف ذكره.
الفصل السابع
ابحث عنه
الأمير عاصم والمسيو سنتورلي كاتب قلم إفرنجي في الدائرة، اختليا في إحدى غرف القصر. - مهمة جديدة مهمة يا مسيو سنتورلي. - خير إن شاء الله. - خير لنا وشر لبعض الناس. - إذن خير. - نعم، مآله عموما للخير. - تفضل يا مولاي قل. - أنت تعلم أن جوزفين زوجة شرعية للأمير نعيم. - نعم، وأعلم أيضا أن زواجهما لم يزل سرا، والذي يعلمه الجمهور أنها محظية عنده. - نعم، وهو لا يزال يكتم زواجه هذا حتى الآن لأنه يخالف وصية أبيه.
فابتسم سنتورلي ابتسامة المتهكم وقال: نعم. - ولا يخفى عليك أن الأمير نعيما متعلم متنور، فما هو ممن يعبأون بتقاليد القدماء، ولا ممن يقيدون أنفسهم بالقيود السخيفة، فهو إن كان يحترم وصية أبيه الآن لا لأنها أمر مقدس واجب الإطاعة، بل لأنه يتجنب اندلاع الألسنة عليه باللوم والتثريب، ولكنه يريد أن يستبقي جوزفين. - وأنت تخشى أن يعلن زواجه الشرعي بها شيئا فشيئا، كذا تريد أن تقول؟ - نعم، كأنك تقرأ ضميري. - ثم ماذا؟ - ولا أظنك تجهل أن أختي بهجت هانم تحبه جدا. - وهو يتجاهل محبتها. - ولكنه لا يكرهها، وأظن أنه لولا جوزفين لكانت زوجته الآن. - صدقت؛ لأني لم أنس أيام كان يتحبب إلى الأميرة بهجت في عهد صباهما. - نعم نعم، لا تزال تذكر إذن. - نعم أذكر جيدا، وأؤكد لك أنه لو لم يرتبط بحب جوزفين ... - لا تقل حب جوزفين؛ لأنه لو كان قريبا من بهجت هانم حين عرف جوزفين لما كانت هذه شيئا يذكر عنده. - كذا كذا، ولو لم يكن نعيم من الناس الثبوتين على ولائهم المحافظين على عهودهم لهجر جوزفين من زمن ... - هو عين الحقيقة ما تقول ... - والأمير نعيم يفضل أن يدفن حياته إلى جنب أمه، على أن ينكث عهده مع أحد من الناس. - هذا هو الصواب.
قال الأمير عاصم ذلك متوسما الخير من سنتورلي. - ولا بد أن يكون نعيم الآن نادما على علاقته مع جوزفين. - ليس ببعيد. - ومع ذلك يعظم عليه جدا أن ينكث عهده معها. - بل يجتهد أن يوطده ولو كان خلاف رغبته الحاضرة. - ولهذا يخشى أن يعلن زواجه قريبا. - عجبت يا مسيو سنتورلي، ما بدأت جملة حتى أكملتها، فما أشد توافق أفكارنا! - ذلك لأن المحقين يتفقون على الحق ويلتقون عند نقطة الحقيقة بكل سهولة. - إذن تعتقد أن مشروعنا الجديد حق؟
فضحك المسيو سنتورلي قائلا: من غير شك. - أتقدر أن تجمل لي هذه الحقيقة بكلمتين؟ - نعم، إن وقوع الأمير نعيم مع جوزفين جاء أذى للأمير نفسه وللأميرة بهجت شقيقتك. - ليس ذلك فقط، بل يخشى أن يكون وسيلة لانتقال اسم هذا البيت وثروته؛ أعني بيت المرحوم الأمير إبراهيم وثروته إلى ذرية غير طاهرة الأصل؛ لأنه من يضمن لنا أن جوزفين لا تلد ذكرا مهما كان الأمير نعيم يتحاشى ذلك في ما مر من السنين الخمس الغابرة؟! وإن كنا قد نجحنا في ما مضى في استئصال الفرع الغريب، فلا نضمن نجاحنا في المستقبل إن نبت فرع جديد مثله. - على ذكر الولد الذكر، هل بلغك أن عند الأمير نعيم في قصر جوزفين الآن صبيا يربيانه؟ - نعم سمعت أن عندهما صبيا يربيانه كخادم. - كلا، ليس كخادم، بل كابن؛ لأن الأمير استدعى له مربية خصوصية تعلمه وتعنى كل العناية بتربيته كأنه ابنه. - أكيد؟ - أكيد، وجوزفين تدلله جدا كأنه ابنها. - وما الغرض من هذا الصبي؟ - لا أدري. - لا أظنهما يتبنيانه؛ لأن التبني لغو في الشريعة الإسلامية. - ولكنهما يهتمان بتربيته جدا، ويعاملانه معاملة الابن، فقد سمعت أنهما ألبساه الملابس الفاخرة، ويجلسانه على مائدتهما، ويقبلانه، وفي نية الأمير أن يرسله إلى المدارس العليا ولا يضن بشيء لأجل تعليمه. - أأكيد كل ما تقول؟ - نعم نعم، كذا سمعت وتحققت. - ومن أين اتخذا هذا الصبي؟ - قيل لي إنه كان عند الشيخ حسن النعمان وكيل أملاك الدائرة في ق. - أهو ابنه؟ - كذا المعلوم، ولكني لا أراه ابنه؛ لأن سحنته تدل على أنه أوروبي الأبوين. - أرأيته؟ - نعم، رأيته مرة مع مربيته ومنها تحققت أمره. - إن أمر هذا الصبي أشغل بالي يا سنتورلي، فما ظنك به؟ - لا أدري، وأنا كذا تحيرت في أمره. - ألا تقدر أن تتحقق أصله وفصله من الشيخ النعمان؟ - من غير بد.
وفكر الأمير عاصم هنيهة وهو يحدق في الأرض ثم رفع نظره إلى سنتورلي وقال له: لا بد أن يكون لهذا الصبي سر يا سنتورلي حتى عني الأمير نعيم بتربيته هذه العناية؛ لأنه لا يعقل أن يأخذ أحد أولاد الشيخ حسن النعمان ويجلسه إلى مائدته ويقبله قبلات الأب، إن صح ما أخبرتني، ومهما يكن أمر هذا الصبي فأخاف أن ينقل الأمير نعيم ثروته إليه بطريقة شرعية أو يدعي أنه ابنه من صلبه. - وما ظنك بسره؟
قال ذلك سنتورلي وابتسم، أما الأمير عاصم فكان مكمد الوجه مرتبك البال. - لا بد أن يكون لهذا الصبي شأن بنا وبالأمير نعيم يا سنتورلي، فابحث عنه بالتدقيق من غير أن تدع أحدا يلاحظ أمرا. - سأفعل بأقرب وقت.
وكان سكوت بضع دقائق بتره سنتورلي بقوله: لم أعلم إلى الآن المهمة الجديدة التي انتدبتني إليها يا مولاي. - هذه المهمة الآن أصبحت عندي أهم، فمتى عرفت حقيقة الصبي أخبرك عن المهمة التي كنا بصددها؛ لأنها صارت تتوقف على ما تعرفه عنه، فبعد الغد أنتظر تقريرك بشأنه. - إذن أستودعك الله يا مولاي. - بالسلامة.
الفصل الثامن
أمامنا عقبتان: الصبي وجوزفين
في اليوم الثالث عاد المسيو سنتورلي من ق، واختلى مع الأمير عاصم ليخبره نتيجة بحثه عن الصبي. - أعرفت كل شيء؟ - تقريبا كل شيء. - ماذا؟ - أرجح أن الصبي ابن الأمير نعيم من جوزفين. - هذا ما لاح لي، فقد صدق ظني، أخبرني تفصيل المسألة. - توجهت إلى الشيخ حسن النعمان في ق. بحجة مباحثته في أشغال زراعية، ومن حديث إلى حديث توصلت إلى حديث عائلته، فقلت له: «كم ولد عندك؟» قال: «أربعة صبيان وابنتان.» قلت: «أعهد أن عندك ثلاثة صبيان.» قال: «الثالث لم يكن ابني حقيقة، وقد رآه عندي الأمير نعيم فاستحسنه وأخذه لكي يربيه.» قلت: «أهو الصبي الذي عند الأمير الآن إذن؟» قال: «نعم؛ هو.» قلت: «أما هو ابنك حقيقة؟» قال: «كلا.» قلت: «ابن من إذن؟» قال: «لا أدري سوى أن المرحومة عائشة الداية دفعته إلي يوما وهو في الحول الثاني من عمره، وقالت: هل لك أن تربي هذا الغلام؟ فقلت لها: إني أربيه لعله ينفعني ولو خادما.» قلت: «أما سألتها عن أبويه؟» قال: «سألتها فحاولت أن تهرب من الجواب، ولكني ألححت عليها، فأفهمتني تلميحا أنه لقيط ابن بغي وفسق.» فقلت: «أما لاحظت ما إذا كانت تعرف أبويه أو تجهلهما؟» ففكر هنيهة وقال: «أظنها كانت تعرف أمه ؛ لأني سألتها عنها لظني أنها هي التي ولدتها، فراوغت في الجواب، فاستدللت أنها تعرفها ولكن لا تريد أن تقول.» فقلت له: «ألا تعلم أين كان قبل أن أتت به إليك؟» فقال: «لم أسألها ذلك؛ لأنه أين يكون إلا عند أمه؟!» فقلت له: «ولكن أتظن أن أمه تربيه سنتين ثم تهمله؟» فافتكر هنيهة ثم قال: «لم يخطر لي هذا الخاطر؛ ولهذا لم أدقق في تسآلها، ولو دققت لما أجابتني شيئا؛ لأني لاحظت حينئذ أنها كانت شديدة الكتمان.» فقلت: «أما سألك الأمير نعيم عن أصل هذا الصبي؟» فقال: «سأل أقل مما سألت، وعرف كما عرفت ولم يبد منه اهتمام بأن يعرف أكثر؛ لأنه على ما لاح لي اقتنع بأن الغلام ابن بغي.» فقلت له: «بالطبع ما هو إلا ابن مومس أو ابن زنا، أبت أمه أن تحتضنه لئلا يكون عنوان عار لها أو ثقلا على حياتها.» وإذ اكتفيت بما تقدم واقتنعت أنه لا يدري سوى ما قاله انتقلنا إلى حديث آخر وأنا أظهر له أني لم أهتم بالتسآل عن أمر الصبي إلا من قبيل ميل الإنسان إلى الاطلاع على الأسرار.
وكان الأمير عاصم يسمع حديث سنتورلي وفمه مشقوق وقلبه قوي الخفوق، فلما استوعب كل كلامه قال: أتظن أن هذا الغلام هو ابن جوزفين الذي عهدنا إلى عائشة الداية أمر خنقه أو إهدائه للراهبات في ملجأ اللقطاء، وأن تدعي أمام أمه أنه ولد مائتا؟ - كذا أظن. - ولكن الدلائل غير واضحة ولا مؤكدة؛ لأنه يحتمل أن يكون صبيا آخر غير ابن جوزفين، ولدته إحدى البغيات أو الزواني على يد عائشة، وأوعزت إليها أن تعطيه لأحد الناس لكي يربيه. - لا أظن ذلك يا مولاي، لأنه لو كان ابنا لغير جوزفين كما تظن، لما كانت أمه تسلمه لأحد بعد أن تربيه عامين، إذا كانت قد استبقته عندها عامين، ولا كانت الداية عائشة تعطيه للشيخ حسن النعمان، بل بالأحرى كانت ترميه أمام باب الدير كما يرمى سائر اللقطاء، فإعطاء عائشة إياه للشيخ حسن يدل على أن لها قصدا بذلك. - ماذا ترى قصدها؟ - أظن قصدها أن يقع الصبي بين أيدي أهله كما جرى. - لقد أخفتني يا سنتورلي بهذا التعليل القريب من الصحة، وسواء صدق ظننا أو لم يصدق يجب أن نفترضه صادقا ونعمل عملنا مراعين هذا الافتراض. - ماذا تعني يا مولاي؟
ففكر الأمير عاصم برهة، وقال: ألا تظن أنه إن صدق ظننا كان هذا الغلام خطرا علينا وإفسادا لمشروعنا؟ لأنه إن عرف بعدئذ تاريخ ولادته أو حياته الأولى انفضح جرمنا، أقول جرمنا؛ لأنك أنت شريك فيه.
فضحك سنتورلي ضحكة الوجل، واستمر الأمير في خطابه. - ثم إن ثبوت بنويته للأمير نعيم يفسد مشروعي ويهدم كل آمالي. - إذن ماذا تريد؟ - أما هو عقبة عظمى في سبيلنا؟ - تريد إذن أن نزيل هذه العقبة؟ - ألا ترى وجوب ذلك؟ - نعم نعم. - ولكن يجب عليك قبلا أن تتحقق ماذا يعتقد الأمير نعيم وجوزفين بأمر الصبي، وماذا يظنانه. - أستطيع ذلك بسهولة؛ لأن مربية الصبي إيطالية وقد تعرفت بها وصرت صديقها، فأقدر أن أتحقق منها ذلك من غير أن تلاحظ أن لي قصدا مهما. - تفعل حسنا، يبقى عليك أن تفحص عن تاريخ حياة الصبي الأولى من زوج عائشة وغيره من ذويها وأصدقائها إن استطعت. - سأفعل، وإذا صدقت ظنونا؟ - إذا ثبت أن الصبي ليس ابن نعيم فقد زالت مخاوفنا، وإنما يبقى الصبي إفسادا لمشروعنا؛ لأن وجوده بين نعيم وجوزفين كابن لهما يؤيد ارتباطهما ويتعذر بعده أن يطلقها؛ لأن حبهما للصبي يكون صلة حب قوية بينهما، ثم يخشى أن يتمكن حب نعيم للصبي إذا رباه وصار رجلا ذا شأن وأن يهبه ثروته بعد ذلك، وأما إذا ثبت أن الصبي ابن نعيم وجوزفين حقيقة فإن كانا قد عرفا حقيقة أمره وسكتا فلا نستطيع أن نطمئن لسكوتهما، وإن كانا لا يزالان يجهلانها فلا بد أن يعرفاها ولو بعد حين، فإذن نحن تحت خطر على كل حال ومشروعنا مهدد على الدوام. - نعم مهدد ما دام الصبي موجودا في قصر الأمير نعيم. - كذا كذا. - إذن لا بد من إبعاد الصبي على كل حال، سواء ثبت أنه ابن الأمير أو كان ابن سواه. - كذا أرى، ولكن لا تغفل عن تحقق أمره لكي نطمئن ولا نشغل القارئ الكريم بتفاصيل تحقيقات المسيو سنتورلي، فإنه استفهم من مربية الصبي فتأكد له أن الأمير نعيما وجوزفين يعتقدان أن الصبي ابن زنا، واستقصى كثيرا عن حقيقة أمره من ذوي عائشة الداية، فوجد أنهم لا يعرفون شيئا، وأن عائشة لم تترك أثر خبر عن الصبي.
فاطمأن الأمير عاصم بعض الاطمئنان؛ لأنه رأى أن اعتقاد الأمير نعيم وجوزفين بنغولة الصبي يمد أمامه أجل السعي والعمل لمشروعه، ولكنه بقي متخوفا أن يصدق ظنه بأن الصبي ابن نعيم الحقيقي، وأن يهتدي الأمير إلى هذه الحقيقة قبل أن يبلغ عاصم إلى وطره؛ ولذلك قال لسنتورلي: إذن يجب أن نبتدئ بمهمتنا منذ الآن بكل سرعة وهمة ونشاط، أمامنا عقبتان كما أفهمتك. - نعم، الصبي وجوزفين. - والواجب؟ - إزالتهما. - متى يتسنى لك ذلك؟ - ليس في العهد القريب. - متى تظن؟ - حين يفترق الأمير نعيم عنهما افتراقا طويلا بعيدا. - أتتوقع افتراقه؟ - كلا؛ لأنه لا يسافر سفرا بعيدا إلا وجوزفين إلى جانبه، وفي كل صيف يبرحان معا إلى أوروبا.
ففكر الأمير عاصم برهة ثم قال: علي تدبير طريقة لحمله على أن يسبقها إلى أوروبا في هذا الصيف، فإني أخلق له مهمة في الآستانة أو غيرها تضطره إلى السفر على حين فجاءة، فيسافر على أمل أن تتبعه جوزفين إلى أوروبا. - وأنا علي الباقي. - ماذا تفعل؟ - لا أدري الآن، ولكن كن على ثقة بنجاحي. - ولكن يجب أن تبعدها عنه وتترك له منها أثرا سيئا له لكي يكرهها ولا يسأل عنها في ما بعد. - سأضع خطة وأشرحها لك مسهبة وأرى رأيك فيها. - ثم يجب أن تظهر دائما بمظهر الموافقين لكل رغائب نعيم والشاعرين معه بسروره وترحه. - طبعا، وإلا أخفق مسعانا. - إذن نفترق على أن نفتكر مليا بالأمر. - من غير بد. - ولا ريب عندي أنك مقتنع بأن مآل المشروع للخير الأعظم نحو هذا البيت الكريم الذي خلفه سيدك المرحوم صدقي باشا ... - بالطبع. - لأن كل قصدي أن لا يمتزج بالأسرة نسب وضيع. - نعم، ذلك واجب.
وهم سنتورلي أن يخرج، فأمسك الأمير عاصم بيده، ونهض ومشى معه إلى الباب هامسا: أما جزاؤك فلا تجهله. - لا شك عندي بذلك، وحسبي أني شريكك بخدمة الأسرة الكريمة في مشروع جليل الغاية. - بارك الله فيك.
وخرج سنتورلي وهو يقول في نفسه: ما أجنه! يظن نفسه أنه يطلي علي بهذه البراهين والتعاليل التي يجتهد أن يبرر عمله الشرير بها! حاول أن يقنعني بأن الأمير نعيما لا يساكن جوزفين لأنه يحبها، بل لأنه يأبى أن ينكث عهده معها وأنه يحب بهجت هانم، مع أني أعرف مثله أن الأمير نعيما يعبد جوزفين ولا يطيق بهجت، وإنما يكرمها إكرام الأخ للأخت. وما لي وله؟! أخدمه بأجرتي وقد جمعت ثروة طائلة من جراء خدمي لهذا الشرير، وما دام في يدي سلاح ضده لا أخاف شره، فإن لم يجزني على خدمه بما أريد أعلنت له وصية الأمير صدقي الحقيقية التي تفسد وصيته المزورة.
الفصل التاسع
الحية وحواء والأبالسة
بعد أشهر لهذه الأحاديث التي ذكرت، كانت «دلالة» إيطالية تغتنم فرصة غياب الأمير نعيم عن قصره وتتردد إلى جوزفين لتعرض عليها بعض السلع والحلي وتبيعها منها، وقد استأنست بها جوزفين جدا ومالت إليها، وعرفتها باسم مدام ببيني، وكانت توصيها أن تشتري لها بعض حاجاتها من الأقمشة والحلي ونحوها.
ولهؤلاء الدلالات - البياعات والسمسارات - شأن كبير في مصر بين نساء الأسرات العليا، فإنهن يتاجرن «بالجواهر والأعراض» في وقت واحد، وبدعوى بيع السلع يساومن على الطهارة، فهن لغة التفاهم بين المتعاشقين، وصلة التقارب بين «المتخاونين»، ويندر أن يدخلن بيتا لا يزرعن فيه زرع الدنس.
على أن جوزفين كانت تجهل ذوات هذه الحرفة جهلا تاما، وقد طلت عليها مدام ببيني غايتها، وسبكت لها حيلتها، حتى أوقعتها في الشرك الذي نصبه لها سنتورلي والأمير عاصم على يدها.
ذلك أن جوزفين انخدعت بتودد مدام ببيني وتحببها وبما كان يتراءى لها من إخلاصها وسلامة نيتها، فمالت إليها ميل الصديقة إلى الصديقة، ووثقت بها وثوقها بنفسها ؛ لأن معاملة مدام ببيني لها كانت ترمي إلى هذه الغاية؛ أي إلى فوزها بثقة جوزفين، ولا يتعذر على مدام ببيني التي حنكها الزمان أن تظفر بهذه الأمنية من مخدوعتها، ولا سيما لأن سليم القلب كجوزفين يجوز عليه تمويه الداهية؛ ولذلك لم تكن جوزفين تتكبر وتتشامخ على مدام ببيني شأن مخدرات القصور الحصينات، بل كانت تعاملها معاملة الند للند، ولا تستنكف أن تقف معها وقفة المثل مع المثل، ولا سيما لأن مدام ببيني خلبتها برقة عشرتها، وسطت عليها بعزة مظهرها.
ولما ظفرت مدام ببيني بهذه الثقة العمياء من جوزفين، انتهزت فرصة غياب الأمير نعيم من قصره إلى الإسكندرية كعادتها، وذهبت في الصباح إلى جوزفين ودعتها إلى تناول الشاي عندها في العصر، فرضيت جوزفين شاكرة مسرورة، فقالت مدام ببيني: إذن أرسل حوذيا يعرف منزلي، ولا لزوم اليوم أن تركبي مركبتك. - لا بأس، في أية ساعة؟ - الساعة الخامسة يكون الحوذي أمام باب القصر، ولي الأمل أن يكون يوسف الجميل معك، يا روحي، ما أحبه إلى قلبي!
فابتسمت جوزفين، وقالت: يكون كما ترغبين.
ثم افترقا على هذا الاتفاق.
ولما انتهت الساعة الخامسة كانت مركبة مقفلة تدرج بجوزفين ويوسف إلى حيث لا يدريان، وقد أطلقت جوزفين الحرية لخدم القصر أن يذهبوا حيث يريدون في ذلك المساء، فذهب كل منهم إلى جهة يتنزهون أو يزورون أصدقاءهم.
أما جوزفين فبعد أن ملت طول المسافة وتعوج الطريق في الشوارع الضيقة والأزقة القذرة وصلت إلى منزل مدام ببيني، وهي لا تدري في أي نقطة هي، فدخلت في باب حقير ويد يوسف بيدها إلى أن صعدت في سلم ضيق قذر، وانتهت إلى قاعة بسيطة، استقبلتهما فيها مدام ببيني بقبلات يهوذا الإسخريوطي وقالت لها: أرجو منك يا حبيبتي أن تعذريني على استدعائك من أبهة قصرك إلى حقارة منزلي. - إن قصري مع الوحدة كوخ حقير يا مدام ببيني، ولكن منزلك بما فيه من دواعي الأنس لهو القصر الحقيقي. - أشكر لطفك جدا يا سيدتي المحبوبة، ولي الأمل أن تسري ببساطة مجاملتي لك.
وقد بالغت مدام ببيني في مؤانسة جوزفين وملاطفتها ومحادثتها وملاعبة الصبي وممازحته، حتى شعرت جوزفين أن تلك الساعة من أسعد ساعات حياتها، وبعد تناول الشاي استولى عليها سبات عميق، فجعل القبلة الأخيرة من مدام ببيني لها آخر تذكاراتها في ذلك المنزل المجهول.
وفي صباح اليوم التالي صحت جوزفين فذعرت؛ إذ رأت نفسها على سرير بسيط في غرفة زهيدة الأثاث مقفلة النوافذ، وأمامها شاب يبتسم لها وهي خالية الذهن من صورته، فنهضت مذعورة وجلست في السرير، وقالت مضطربة: من أنت؟
فقال بكل تلطف بالفرنسية، وقد تراءى لها أنه فرنسي الجنسية: أنا من يعبدك.
فنظرت إلى ما حولها وجلة وأدارت نظرها في كل جهات الغرفة مندهشة. - ويلاه! أين أنا؟ أفي منزل مدام ببيني؟ - كلا يا معبودتي، بل أنت في المسجد الذي أعبدك فيه. - ويلي! ويلي! من أنت؟ أين مدام ببيني؟ أين يوسف؟ رحماك! قل لي من أتى بي إلى هنا؟ - يد القدر. - إذن سلمتني مدام ببيني بخيانة. - ما مدام ببيني وغيرها إلا آلة في يد القدر.
فانفجر فم جوزفين بالبكاء والنحيب وهي تقول: قاتلها من خائنة رديئة، ويلي! ما أشاقاني! ما الغاية من هذه الخيانة؟
ثم تجلدت إذ انتبهت لنفسها، فبسطت ذراعيها أمام ذلك الفتى وقالت: رحماك، رحماك! أرسول خير أنت أم رسول شر؟ - كما تشائين. - ويلاه، ويلاه! وقعت في الشرك، ماذا تريد مني يا سيدي؟ - قبل كل شيء أرجو منك أن تنزلي عن سريرك وتجلسي إلى هذا المكتب. - ثم ماذا؟ - متى جلست إليه أقول لك.
فنزلت وهي تقول: «بربك ارحمني؛ فإني طيبة القلب لا أستحق إلا الرحمة!» ثم جلست فقدم لها ورقا وقلما ودواة وقال: «اكتبي ما في هذه الورقة.» فأجابته على الفور: أتريد نقودا؟ - كلا كلا.
فقدم لها ورقة مكتوبة باللغة النمساوية - لغتها - فازداد اضطرابها، وجعلت تقرأ ما معناه:
سيدي الأمير نعيم، متى وصل إليك تحريري هذا تنكف عن أن تبحث عني؛ لأني لم أعد لك بعد الآن، ولا تقرأ هذه الكلمات إلا وقد صرت في أوروبا مع سواك، لا تسل لماذا فعلت هكذا؛ إذ لا سبب منك، وإنما هي المرأة، لها كل يوم هوى جديد.
جوزفين
فوثبت جوزفين عن كرسيها وثبة الأسد، ووضعت كفها في عنق الفتى وأنشبت أظافرها فيه وقالت: يا خائن، أموت ولا أنيلك مأربا.
وكان قد قبض على ذراعيها بكفين من حديد، فانحلت عزيمتها وأفلتت عنقه. - لا أنتظر منك أن تجيبي طلبي برضاك ولا بسهولة، ولكن لكي أوفر عنك الجهاد في الممانعة عبثا أقول لك إنك امرأة ضعيفة بلا سلاح، وسجينة في منزل حصين بعيد عن العالم، لا يحيط بمقرك هذا غير غيض خال من السكان، وليس من تستغيثين به.
ثم انتضى من جنبه خنجرا، وقال: إذا لم تطاوعي فليس جزاؤك إلا هذا الخنجر، ولا تظني أني أشفق عليك؛ لأني لست عاشقا لك كما ظننت.
فقالت وهي تنتفض من الخوف وصوتها يرتج ارتجاج الوتر: إذن ما الغرض من كل ذلك؟ - لا تسألي عن شيء، بل يجب أن تطيعي طاعة عمياء، وبهذه الطاعة تكسبين حياتك وتعيشين عيشة راضية. - ويلاه! أي عيشة راضية مع سواه؟ - الأفضل لك أن تنسيه؛ لأنه صار اتحاد الزيت بالماء أسهل من اتحادك معه، لك كل ما تشائين إلا عشيقك.
فوقعت على الكرسي واهية القوى مغمضة العينين، وجعل صدرها ينهض ويهبط بسرعة فوق أنفاسها، وحدث سكوت بضع دقائق والفتى قاعد على حافة السرير أمامها، ثم فتحت جفنيها وقالت: بربك، ألا رحمة منك؟ - لك كل معاملة حسنة، بل لك كل شيء إلا الرجوع إلى من تهوين أو معرفته بمقرك. - وما الغاية من ذلك؟! - قلت لك لا تسألي؛ إذ لا يعنيك أن تعرفي شيئا من هذا القبيل، واعلمي أنك لست مطلقة الحرية، وإنما تأكدي أنك تعاملين بكل الحسنى، فاكتبي، اكتبي ما تقرئينه في هذه الورقة. - رحماك رحماك! - لا يجديك التوسل أكثر مما يجدي التماس الماء من الصخر الأصم. - إذن تتعمد اغتصابي! - بل أريد أن تكتبي ما تقرئينه هنا فقط. - لا أكتب. - قلت لك لا تعاندي، فإنك ضعيفة ولا أصبر عليك طويلا، بل لا أجادلك.
ثم رد الخنجر إلى جنبه، وتناول من جيبه مسدسا وصوبه إلى رأسها وعيناه تقدحان شرر الشر، فذعرت وتناولت القلم ويدها ترتجف. - بربك، اعف عني فأكتب.
فجعلت تكتب وهو مصوب المسدس نحوها، ولما انتهت تناول الورقة ونشفها وطواها، ثم قال لها: عنوني ظرفا كهذا.
وقدم لها ظرفا معنونا باسم الأمير نعيم، فتوقفت هنيهة فصوب إليها المسدس وقال: لا تترددي.
فنظرت إليه خاشعة، وقالت بصوت مرتجف: رحماك! ليست حياتي أعز علي من فراق زوجي، بربك أعفني، ماذا تريد غير ذلك؟ سل ما تشاء فدية. - لا أريد غير هذا. - لا أكتب. - بل تكتبين. وأوهمها أنه هم أن يطلق الرصاص عليها. - بربك، أمهلني. - لا أمهلك، عنوني الظرف حالا.
فتناولت القلم وقد وضع الظرف أمامها وكتبت:
مصر
دولتلو الأمير نعيم بك صدقي.
وفي الحال تناول الظرف ونشفه ووضع الرسالة فيه ووضعه في جيبه، وقال: إذا لم يكن ما كتبته مثل ما قرأت تماما أعود إليك عودة الوحش الضاري.
فجثت جوزفين عند قدميه وبسطت ذراعيها لديه قائلة: ارحمني يا سيدي، لماذا أعامل هذه المعاملة؟ - لا تستحقين إلا كل خير، ولكن التقادير قضت بذلك، وما أنا إلا آلة في يد التقادير. - لماذا أبعد عنه؟ - لا أدري شيئا من أمرك، فعبثا تضرعين إلي. - أتريد أن تسمع، فأخبرك؟ - لا تستفيدين مني شيئا. - ألا ترى أني مظلومة؟ - لا ريب عندي أنك مظلومة. - فلماذا لا ترحمني إذن؟! - ليس في وسعي أن أرحمك، لقد انتهت مأموريتي. - ماذا يكون حظي بعد الآن؟ - لا أدري.
فصمتت جوزفين هنيهة والحزن يمزق أحشاءها، ثم استرسلت بالبكاء والنحيب، وعند ذلك فتح الباب ذلك الشاب لكي يخرج، فتشبثت به قائلة: بربك دعني أخرج معك. - مسكينة! ألا تدرين أنك سجينة هنا؟! - إلى متى؟ - لا أدري. - ارحمني، ارحمني، ماذا تريد مكافأة؟ - مسكينة، لقد أجنك الحزن! فعودي إلى مرقدك، إني أرثي لك ولكني لا أقدر أن أخلصك.
ثم دفعها إلى وسط الغرفة، وخرج وأقفل الباب وأوصده في الحال، فبقيت جوزفين في ذلك السجن تنحب وحدها بملء الحزن والغم وفي نهاية اليأس.
لم تفتكر جوزفين في ماذا يكون من شقائها قط، وكل ما كان يجول في ضميرها هو ماذا يظنه الأمير نعيم بشأنها، وهل يصدق أنها هجرته إلى سواه، وإذا صدق فماذا تكون حاله وماذا يفعل، وتمنت لو يتضاعف شقاؤها ويعتقد الأمير نعيم أنها لم تزل ثبوتا على حبها وعهدها، بل كانت تستلذ العذاب لأجله إذا كان يعلم به.
ثم كانت تفكر في يوسف وما تم به، فلم تقلق عليه شديد القلق؛ لأنها خمنت أنه يرد إلى القصر، وربما يعلم الأمير بواسطته شيئا عنها، أو يهتدي إلى مدام ببيني التي خانتها.
وقد خطر لها حينئذ أن الأمير نعيما لم ير مدام ببيني عندها ولا مرة، وإذ ذاك أدركت أن هذه الغادرة كانت تنتهز فرصة غيابه لكي لا يراها ولا يعرفها، بل ذكرت جوزفين حينئذ أن مدام ببيني كانت تتجنب أن يراها خدم القصر ما استطاعت لكي لا تنطبع في أذهانهم صورتها.
وماذا تخشى مدام ببيني؟ فقد أتمت مهمتها وأخذت أجرتها وبعدت عن مكان تلك الجناية الفظيعة، وأصبحت جوزفين في عهدة آخرين لا يعلمون أصلها ولا فصلها، وليس عليهم إلا حراستها، وهكذا تتنقل بين أيدي الأشرار المأجورين لكي يبقى أمرها سرا مكتوما.
الفصل العاشر
لا تدري أين هو
وبعد برهة ساعة فتح الباب، فدخلت امرأة إفرنجية تكاد تتجاوز طور الكهولة، وقدمت لجوزفين فطورا من اللبن والعيش والزبدة، وقالت لها بكل لطف باليونانية ما معناه: خذي يا بنيتي كلي.
فاستأنست جوزفين بليونة صوتها ولكنها لم تفهم مقالها؛ لأن اليونانية رطانة عندها، فكلمتها بالفرنسية قائلة: بحق من تحبين وتعزين يا سيدتي قولي لي لماذا أتي بي إلى هنا؟
ولم تكن المرأة تفهم من الفرنسية إلا كلمات معدودة وأما من النمساوية التي هي لغة جوزفين فلم تكن تفهم كلمة؛ ولذلك عز على جوزفين أن تسترحمها إلا بالإشارات كالركوع أمامها والسجود عند قدميها، فكانت تجيبها تلك المرأة اليونانية بهز كتفها، ولسان حالها يقول: «لا أفهم ماذا تقولين؟ وإذا فهمت فماذا تستفيدين؟»
ثم أدارت لها ظهرها، وانصرفت، وأقفلت الباب وراءها.
ولا نتمادى في وصف ما لقيته جوزفين من العذاب في ذلك السجن ومن آلام الوحدة وأحزان الفراق وغموم الوحشة، فكانت تقضي كل النهار وحدها في تلك الغرفة تبكي وتنوح، وتلك المرأة السجانة كانت تدخل عليها في ميعاد الأكل وتقدم لها طعامها، وعند العصر تخرجها من الغرفة إلى رحبة المنزل، وبعد الغروب تخرج إلى الشرفة لكي تتنشق الهواء النقي، فلا ترى جوزفين غير الظلام وبعض الأنوار الضئيلة على بعد شاسع جدا؛ ولذلك لم يتسن لها أن تعرف ما نسبة سجنها هذا إلى المدينة، أهو إلى جنوبها أو إلى شمالها؟ ولا مسافة بعده عن قصرها.
ولا ريب أن يشعر القارئ من نفسه مع هذه المسكينة وما لاقته من الأحزان، ويدرك ما آلت إليه حالها من السقم والهزال وضعف الجسم وخبال العقل.
ولا بد أن يتوق القارئ إلى ما تجهله جوزفين من أحوال سجنها، أما المنزل فكان بيتا صغيرا ذا طبقتين، بناه الأمير عاصم في وسط عزبة صغيرة له في ضواحي مصر البعيدة؛ لكي يقيم فيه في بعض الأيام، وأقام فيه سنتورلي هذه الكهلة اليونانية حارسة لجوزفين، وجعل تحت يدها خادمين يقضيان حاجاتها، وهما في الطبقة السفلى من المنزل، وجل ما عرفته هذه الكهلة من أمر جوزفين أنها زوجة سنتورلي، وأنه يحبسها هناك بغية منعها عن عشيق تريد اللحاق به، وكانت الكهلة تعرف سنتورلي باسم جاك، وقد حرم عليها أن تقابل جوزفين إلا للضرورة، وأوصى الخادمين أن يستدعياها حالا إذا مكثت في الطبقة العليا أكثر من دقيقتين.
وقد رضيت تلك الكهلة بكل هذه الشروط؛ لأن سنتورلي كان يدفع لها أجرة حسنة جزاء احتباسها في ذلك المكان.
وقد أرسلت إليه في ليل دامس لكي لا تعرف نسبته إلى المدينة حتى إذا عادت منه لا تعرف أين مقره.
وكان الخادمان وطنيين يعتقدان أن في الطبقة العليا محظية أو زوجة جاك سيدهما - لأنهما كانا يعرفان سنتورلي بهذا الاسم - وأنه قد وضعها هناك لكي لا يتصل بها أحد، ولم يكونا يعرفان شيئا عن حقيقة أمرها، وكان أحدهما - سليم - يعرف بعض اليونانية؛ لأنه خدم منذ صغره بعض اليونان وعرف البسيط منها بالممارسة، فكان يفهم مطالب الحارسة بسهولة.
وكان سنتورلي كل ليلة بعد ليلة يذهب إلى ذلك المنزل ليتفقد الأحوال، وأحيانا كان ينام في غرفة مجاورة لغرفة جوزفين؛ إيهاما للخدم والحارسة اليونانية أنه ينام مع عشيقته أو زوجته، ولكنه لم يكن ليرى جوزفين قط؛ لأنها تعرفه لو رأته.
أما ذلك الشاب الإفرنسي الذي استكتبها فهو شقي من أشقياء الإفرنج، بحث عنه سنتورلي واستأجره لهذه المهمة، وجاء به إلى ذلك المكان في تلك الليلة التي نقلت فيها جوزفين منومة إلى سجنها، وقد أفهمه سنتورلي أن جوزفين مومس وهي عشيقة شاب شريف، وقد حار أهله في كيفية فصله عنها، فخطر لهم أن يستكتبوها رسالة تنبئه عن هجرها إياه عساه يكرهها، وأعطاه الورقة المكتوبة بالنمساوية في ذلك الليل، وأمره أن ينام في الغرفة المجاورة لغرفة جوزفين على نية أن ينهض في الصباح ويدخل إلى غرفتها ويرغمها أن تكتب الورقة. ولما ظفر من جوزفين بالمطلوب خرج من عندها وسلم الرسالة إلى الكهلة ومكث في غرفته إلى أن جن الليل، فعاد به سنتورلي من حيث أتى، وبهذه الوسيلة لم ينطبع في مخيلته وجه سنتورلي جيدا؛ لأنه لم يكن يقابله إلا على نور ضعيف، ولا العزبة؛ لأنه لم يخرج من المنزل إلا في الليل كما دخل.
وبقي سنتورلي في الطبقة السفلى من المنزل المذكور في ذلك اليوم لكي يراقب مشروعه، ويحرس الفرنساوي لئلا يخرج وحده في بحر النهار ويفضح عمله، ولكي يرى الرسالة التي كتبتها جوزفين ويقابلها بالأصل حتى إذا كانت تختلف عنه ردها إلى الإفرنسي الشقي لكي يعيد الكرة على جوزفين وتكتب سواها طبق الأصل، ولكن جوزفين كتبت ذنبها المزور بكل أمانه؛ لأن الخوف والذعر وطيبة القلب لم تترك لها سبيلا للتلاعب، ولا سيما لأنها لا تجهل أن التلاعب في مثل هذه الحال لا يجدي.
وكانت الكهلة في ذلك النهار رسولا بين الشقي الفرنساوي وسنتورلي، على أن سنتورلي أتقن دوره جيدا، بحيث إنه لم يدع ذلك الشقي يفهم شيئا من أغراضه في تخفيه، ولا ودعه يلاحظ أنه يتجنب رؤيته في النهار. والخلاصة أن ذلك الشقي قضى مهمته وأخذ أجرته وهو لا يقدر أن يفهم أو يفسر أو يشرح شيئا مما كان، فكان فعلا آلة بيد القدر كما قال، ولكن لم يكن القدر إلا سنتورلي نفسه.
الفصل الحادي عشر
ليست بخائنة
ولما اجتمع خدم القصر عند المساء استبطئوا سيدتهم جوزفين والصبي يوسف، فظنوهما في قصر الأميرة نعمت هانم؛ لأن جوزفين كانت تستأنس بنعمت وتزورها أحيانا ونعمت كانت تودها، ولما انتصف الليل ولم تعد جوزفين أرسلت وصيفتها أحد الخدم لكي يسأل عنها في قصر الأميرة نعمت، فورد الجواب أنها ليست هناك، فقلقوا جدا، فأرسلت إلى قصر الأمير عاصم تسأل هناك، فقيل ليست هناك، وقد وصل الخبر إلى مسامع الأمير عاصم - وبالطبع لم تغفل له عين ليلتئذ؛ لأنه كان عارفا ماذا يجري في ذلك الليل في إحدى عزبه - فخرج من غرفته وارتدى رداءه وقصد إلى قصر الأمير نعيم وأظهر الاهتمام بالأمر وجعل يبحث ويسأل، وقد أرسل الخدم إلى جهات مختلفة يسألون عنها فلم يهتدوا إلى مقرها، حتى ضاء الصباح، فأرسل تلغرافا إلى الأمير نعيم هذا نصه:
الإسكندرية، الأمير نعيم صدقي
فقد الخدم في المساء الماضي الأميرة جوزفين والصبي يوسف، فهل ذهبا إليك من غير أن تعلم الأميرة خدمها؟
الأمير عاصم
فلما قرأ الأمير نعيم هذا التلغراف قفز جنانه من صدره وحار في هذا الخبر المفاجئ، فأرسل في الحال تلغرافا إلى الأمير عاصم:
مصر، دولتلو الأمير عاصم بك عزت
أخبرني سريعا تلغرافيا تفصيل فقدان الأميرة جوزفين لكي أعلم كيف أبحث عنها هنا قبل أن أعود؛ فإنها لم تقدم إلي ولا أنا أستقدمتها!
نعيم
وجعل الأمير نعيم يطوف على منازل معارف جوزفين لعله يعثر عليها، فلم يقف لها على أثر، ثم ورد له هذا التلغراف:
الإسكندرية، الأمير نعيم بك صدقي
أذنت جوزفين عصر الأمس لكل خدمها أن يخرجوا حيث يريدون؛ لأنها هي خارجة مع يوسف لزيارة إحدى صديقاتها، ثم ركبت مركبة بالأجرة ومضت ولم تعد.
عاصم
فركب الأمير نعيم في قطار الظهر إلى مصر وقصد توا إلى قصره، فوجد الأمير عاصم فيه وأخته الأميرة بهجت والأميرة نعمت وسائر الخدم، وكلهم قلقون مهتمون بالأمر، فجعل يتحقق منهم فلم يقدر أن يستنتج شيئا، وكان الأمير عاصم يهون عليه الأمر ويخفف من غمه، ولكن الأمير نعيم كاد يجن من جراء هذا الحادث، فهم أن يمضي ويبحث في كل القصور والمنازل التي يظن أنها تمضي إليها، فقال له الأمير عاصم: لم نغفل عن قصر ولا عن بيت، سألنا عنها في الكل فلم نقف على خبر لها. فذكره الأمير نعيم ببعض البيوت والأماكن التي اعتادت جوزفين أن تمضي إليها، فأجابه أنهم بحثوا فيها كلها، فتنهد الأمير نعيم ملء رئتيه ولم يتمالك نفسه عن البكاء، فتفجر الدمع من عينيه، وصارت أخته والأمير عاصم والأميرة بهجت يعزونه ويعللون له غيابها تعليلات ركيكة تخفيفا لآلامه، ولكنهم لم يكونوا إلا ليزيدوا غمه بتلك التعليلات، حتى ضاق ذرعه وطلب الراحة، ففتح له مخدعه فدخل إليه واختلى فيه، ولكن أخته الأميرة نعمت خافت عليه من وحدته فاستأذنته ودخلت عليه، ثم دخل الأمير عاصم والأميرة بهجت.
وأخيرا خطر له أن يبلغ إدارة البوليس لكي تبحث عن جوزفين والصبي، وذكر هذا الخاطر للأمير عاصم فاضطرب عند سماعه هذا الاقتراح، وكادت نبضات قلبه تسمع، ولكنه تجلد وأخفى اضطرابه وأظهر في بدء الأمر استحسانا لهذا الاقتراح لكي لا ينبه الظنون إليه بمعارضته، ولكن ما لبث أن فكر هنيهة حتى عاد، فقال: لا أرى من المستحسن إطلاع إدارة البوليس على هذه المسألة؛ لئلا تفضي النتيجة إلى أمر سيئ لم يكن في حسباننا.
فقال الأمير نعيم: مثل ماذا؟ - لا أدري، وإنما أفضل تأجيل هذا الأمر إلى أن نقنط من الاهتداء إليهما أو عودتهما. - ولكن أخاف أن يفوت الأمر. - كلا لا يفوت؛ لأنها إن كانت باقية في القطر فنكتشفها غدا أو بعد غد كما نكتشف اليوم. - وإن كانت على سفر؟ - أظن اليوم موعد سفر المساجيري إلى أوروبا ... - آه ، ليتني انتبهت فأخبرت في الميناء بعض ذوي الأمر لكي يراقبوها، لعلها مسافرة أو مسفرة، أما الآن فالوقت مساء والباخرة تقلع، فما العمل؟ - على أي حال نرسل تلغرافا إلى الميناء لعل له فائدة.
وفي الحال أرسلوا التلغراف إلى مدير الميناء يوعزون إليه أن يحجز المرأة التي يشتبه أنها جوزفين.
وخلاصة القول أن ذلك المساء، بل ذلك الليل، قضي بالافتراضات والاقتراحات والتخمينات فلم ينم فيه الأمير نعيم طرفة عين؛ لأنه كان على جمر الغضا، وقد بلغ الحزن من فؤاده كل مبلغ حتى رقت له بهجت هانم ورثى له الأمير عاصم نفسه.
وفي صباح اليوم التالي ورد إليه البريد، وكان من جملة رسائل الإسكندرية رسالة جوزفين المستكتبة، فلما قرأها صرخ قائلا: آخ! سامحك الله يا جوزفين! لماذا هذا الهجران؟! أي ذنب جنيته؟! ويلي ويلي! ما أشقى حظي!
ولم يكن الأمير عاصم ولا الأميرة نعمت ليفارقاه، فسمعا صرخته فدخلا عليه إلى غرفته فوجدا الرسالة في يده وقد استلقى على كرسيه كالمغمى عليه، فدنت منه نعمت وقرأت الرسالة فدهشت ولكنها لم تجسر أن تقول كلمة لئلا تجرح عواطفه.
فانتبه حينئذ الأمير نعيم إلى نفسه وتجلد، وطوى الرسالة ووضعها في جيبه، وأومأ إلى أخته أن تكتم الأمر.
أما الأمير عاصم فتجاهل كل ما يعرفه عن أمر هذه الرسالة، وتظاهر أنه لا يدري شيئا، ولا لاحظ أمرا، وعند ذلك قال الأمير نعيم: أرجو منكم أن تؤذنوا لي أن أختلي في مخدعي؛ لأني أشعر بحاجة شديدة إلى النوم.
ثم دخل إلى مخدعه وجعل يتأمل تلك الرسالة والغم يضغط على نفسه حتى كاد يزهقها.
ردد في ضميره كل ماضي حياته مع جوزفين فلم يذكر أنه أساءها أو أساء إليها مرة بأمر من الأمور، ثم تأمل جيدا كل دقائق معاملتها له فلم يتبين من تلك الدقائق ما يدله على تغير قلبها عليه حتى آخر ساعة من ساعاتهما معا، بل بالعكس يذكر أنها في أيامهما الأخرة كانت أشد تعلقا به، حتى إنه يستحيل عليه أن يشك بإخلاصها له.
ثم جعل يفكر في صلتها بالآخرين فلم تخطر له أقل شبهة بأحد من معارفها ولا استطاع أن يصدق ظنه بميلها إلى أحد؛ لأنه كان يعلم أنها عديمة الاكتراث بأحد سواه.
بقي أكثر من ساعة يفكر فلم يتقلقل اعتقاده بإخلاصها وأمانتها له، ولكن ما معنى هذه الرسالة؟ فقد خطرت له عدة خواطر محزنة ومضحكة بشأنها؛ فتارة كان يظن أن جوزفين تلعب دورا معه بغية الضحك، وطورا يظن أنها تختبر مقدار غيرته عليها بهذه اللعبة، وحينا يفتكر أنها أساءت الظن به وحسبته مال إلى سواها فهجرته ... إلى غير ذلك.
وكان كل هنيهة بعد أخرى يتأمل الرسالة فيراها ناطقة صريحة لا تحتمل التأويل، فيحار في أمره ويكاد يحبس تنفسه من شدة الغم. ولا بد أن يشعر القارئ بحالة الأمير نعيم وهو في قمة حزنه وقهره، ولا سيما إذ عرف ما اتصف به هذا الأمير من الصفات الحميدة المجيدة التي هي فخر الرجال: حبه الصادق لجوزفين، بل تولعه بها وثبوته على هواها، وتمسكه بالمبادئ القويمة، وظهوره في كل حركة من حركاته بمظهر الكريم الأنوف المقدام.
وقبيل الظهر استأذنته شقيقته نعمت هانم ودخلت عليه وجلست على كرسي أمامه وقالت: أرجو أن تكون هذه الرسالة التي قرأتها خففت أحزانك يا أخي نعيم. - لا لا يا نعمت، بل أضرمت في وطيسا من الغم. - ولكن حزنك الآن يختلف عن حزنك أولا؛ ففي الأول كان مقرونا بقلق وإشفاق، أما الآن فبغضب ونقمة على ما أظن. - لقد أخطأ ظنك يا نعمت؛ فإني إلى الآن لا أزال أعتقد أن جوزفين غير خائنة وأنها تحبني.
فضحكت نعمت ضحكة الهازئ. - لا تضحكي يا نعمت؛ لأن كل نبرة من ضحكك طعنة في فؤادي. - يكاد قلبي يتمزق لأجلك يا أخي نعيم، فلست أضحك إلا لتجاوز حزني حده، فما الذي يحملك على الظن أن جوزفين لا تزال تحبك، وأنها لم تخنك؟ أليست رسالتها صريحة العبارة؟ - نعم صريحة، ولكني أعرف جوزفين يا نعمت، أعرفها جيدا وأعرف أن لها قلبا مجبولا بحبي، لا يمكن أن يتجرد من هذا الحب إلا بفنائه ، وقد مر علينا في حياتنا كثير من الحوادث برهنت فيها جوزفين على حب قوي لم يسمع بمثله ولا في الروايات؛ ولذلك لا أقدر أن أعتقد أنها تكرهني. - ماذا أقول لك ... - لا تقولي شيئا بهذا الموضوع لئلا تجرحيني. - إذن بماذا تعلل رسالتها هذه؟ - لا أدري، لقد جننتني هذه الرسالة يا نعمت، وكثيرا ما لاح لي أنها مزورة، ولكني أعرف خط جوزفين جيدا، فلا أقدر أن أشك بأن الرسالة خط يدها، وإن ثبت أنها مزورة فما أقدر الكاتب على تقليد خطها! - ولكن إذا كانت الرسالة مزورة، فأين جوزفين؟ - قد تكون مغتصبة، والرسالة مزورة بغية تغيير قلبي عليها حتى لا أبحث عنها، وهذا آخر ما رجح لي، لاحظي الخط، ألا ترين أنه مضطرب قليلا، الأمر الذي يدل على التزوير؟
فتأملت نعمت هانم الرسالة وأصرت شفتيها كأنها تقول: لا ألاحظ ما تلاحظه أنت! فقال لها: نعم قد لا تلاحظين الدقائق التي ألاحظها في الخط؛ لأني ألفت خط جوزفين طويلا، وصرت أميز بين حرف وحرف من كتابتها. - مهما يكن الأمر، يجب عليك أن تخفف عنك يا أخي، فإن غمك لم نر مثله في حياتنا، فإن كانت جوزفين خائنة فيجب أن يكون جزاؤها جام نقمتك، وإن كانت أمينة تثبت على أمانتها إلى أن يقيض الله لها أن تعود إليك. - لا يطمئن لي بال ما لم أكتشف أمرها، فإن صدق ظنك بأنها خائنة أهملتها، وإن صدق ظني بأنها أمينة فلا بد أن تكون مقيدة عني فيجب أن أسعى إلى خلاصها. - ولكن ما غرضها بأخذها الصبي يوسف معها؟ ألا تظن أنها تقصد بأخذه أن يكون برهانا للناس على تحصنها وعفافها؟ - لا أدري يا نعمت، لا أدري، لقد طار صوابي، سأسافر غدا إلى أوروبا وأطوف لعلي أعثر عليها أو على الصبي. - ليس هذا الرأي صائبا، وهو مدعاة إلى هزء العائلة؛ لأنهم لا يعرفون جوزفين إلا محظيتك، فإذا علموا أنك لحقتها لتبحث عنها بعدما هجرتك سخروا بك، بل سخروا بنا كلنا، وأنت تعلم أن هفوة الكبير بألف هفوة، وهم ينظرون إليك بعد سيئة مكبرة جدا، ويعتقدون أنك فخر شبان الأسرة بعقلك وعلمك وأخلاقك، فإذا فعلت ما تقول هدمت كل اعتقادهم بك. - كفى كفى يا نعمت، إن تخوفي من القيل والقال هو الذي حرمني من إسعاد جوزفين كما أريد، إن لي عقلا ولي قلبا فأريد أن يخدم عقلي قلبي لا أن يضحي به على مذبح الترهات والأباطيل وخرافات الأقدمين، فليعلم أبناء أسرتي أن جوزفين زوجتي وأني أبحث عنها. - هكذا يكون العار أعظم؛ لأنك بذلك تقر أن زوجتك خانتك وأنك لا تزال تبحث عنها. - آه، آه! دعيني يا نعمت، ليقل الناس ما يقولون، إني أتبع جوزفين، جوزفين أمينة ولا بد أن تكون مكرهة على هذا الهجران، لا بد أن أعثر عليها في أوروبا، فغدا أنا مسافر.
عند ذلك خرجت نعمت هانم من عند أخيها وقلبها يتقطع عليه حزنا، غير أنها لم تعتقد ما ظل يعتقده بأمانة جوزفين، بل اقتنعت تمام الاقتناع بأنها خائنة، وانتظرت فرصة أخرى لتقنعه بذلك.
الفصل الثاني عشر
مؤتمر عزرائيل ويوضاس
- لقد وجدت حلا للمشكل يا سيدي سنتورلي، وإنما يستوجب منتهى الإقدام وكل الدربة. - أدامك الله يا سيدي. - لم يكن غرضنا أن نجعل أنفسنا أولياء لأمر جوزفين، وإنما كنا نبغي أن نقصيها عن مصر وبالتالي عن الأمير نعيم. - نعم، ولكن لم يصح حسابنا؛ لأننا ما أودعناها في قصر العزبة ... إلا على نية أن نقذفها بعدئذ إلى مكان قصي، وهناك ندفعها إلى السجن بحيلة إبليسية، ولكننا حبسناها في سجنها الحالي ولم نعد نستطيع إخراجها منه لئلا ينفضح أمرنا، وأما أننا نبقيها في سجنها فأمر متعذر علينا جدا؛ لأننا لا نضمن أن يبقى أمرها مكتوما إلى أن تنقضي حياتها، كما أننا لا بد أن نمل السهر عليها ومراقبتها، والحق أقول لك إنه مر علي هذا العام وأنا لا أنام ليلة إلا مشغول البال؛ لأني أخاف أن يهتدي إليها ويعرف أمرها فتنفضح كل أسرارنا؛ ولذلك أرى أنه لا بد من إخراجها جسما بلا روح ودفنها قرب ذلك القصر. - وهذا لا نضمن دوام خفائه يا مسيو سنتورلي، ألا تدري أن ثلاثة أشخاص صاروا فاهمين سرنا تقريبا؛ وهم: «كتينا» الكهلة، وسليم، وعلي. وكل سر جاوز الاثنين شاع، بل إني صرت أخاف أن ينفضح سرنا على يدهم وجوزفين حية، فالأفضل أن ينفضح وهي جثة باردة. - يالله! أتريد أن تقول «أنا الغريق فما خوفي من البلل؟!» - إنك لجاهل غر، بل أريد أن أقول الأفضل أن تنفضح الجريمة فيها تحت ذقن غيرنا. (وضحك الأمير عاصم ضحكة الوجل.) - تحت ذقن من؟ - دعنا نتكلم بحرية يا سنتورلي، لا ريب أن الأمر يهمك كما يهمني؛ لأنك أصبحت يدي العاملة في هذه الجرائم، فعلينا أن نشتغل معا يدا واحدة في صيانة أنفسنا من يد القانون والقضاء. - الحق ما تقول، فما رأيك؟ - أنت تعلم مطامعي السابقة بالأميرة نعمت، أكلمك بحرية؟ - نعم نعم، أعرف جيدا أنك كنت تهواها وتطمع بيدها وإرثها كما أن الأميرة بهجت كانت تطمع بالأمير نعيم. - أما الآن فقد تحول حبي السابق إلى الانتقام الحاد؛ لأن نعمت هانم رفضت طلبي مرارا، وأخيرا رفضته بتاتا ولم يعد لي أقل مطمع بها البتة، وقد انتهى آخر اجتماع بيننا على عدائنا المتبادل؛ لأنها أغلظت لي القول، وأهانتني وأفهمتني بصراحة أنها تكرهني؛ لأني كنت السبب في حرمانها من أحمد بك نظيم الوكيل، ولكنها لحسن الحظ لم تفهم حقيقة القوة التي منعت بها أحمد من قبول يدها؛ لأن أحمد لا يقدر أن يعترف بجريمته التي يسهل علي أن أبرهنها من رسالته التي أرسلها لك يوم اتفق مع الداية عائشة على دهورة الطفلين ابن جوزفين وابن الأميرة نعمت، وأنت تعلم أن هذه الرسالة عندي كتهديد له، وقد نهيته عن أن يتقرب من نعمت هانم فأطاع صاغرا، ولما عرفت الأميرة بذلك حنقت علي جدا وصارت تبتغي أن تنتقم مني وتغيظني، فالآن أنا وهي عدوان يجاهران بالعداوة؛ ولذلك أود أن أنتقم منها شر نقمة، أما الأمير نعيم فحسبي ما انتقمت منه لأختي، فهو الآن كالمجنون يطوف في مدن أوروبا. - ورأيك أن تلطخ الأميرة نعمت بجنايتنا بإعدام جوزفين. - نعم . - إنها لفكرة حسنة جدا، ولكن تستلزم إعمال الذهن جيدا لئلا تنعكس النتيجة علينا. - لا شك في ذلك؛ ولهذا قلت لك إن الحل الذي اهتديت إليه يحتاج إلى إقدام عظيم ودربة فائقة؛ ولذلك أود أن أخسر كل شيء في سبيل الفوز بهذه المكيدة؛ لأنك لا تعلم مقدار اغتياظي من نعمت، وألذ شيء عندي الآن الانتقام الشديد منها، الانتقام الانتقام يا سنتورلي! - إذا كان الانتقام يهمك فأنا لا يهمني. - ولكن لك مصلحة كمصلحتي في طريقة هذا الانتقام؛ لأنه بينما أنا أنتقم من نعمت نطرح عن عاتقنا ثقل الجريمة التي اجترمناها بخطف جوزفين وإخفائها. - ولكن مصلحتك مزدوجة ومصلحتي مفردة. - وماذا تعني؟ - نحن غير متساويين في ما نحصل عليه من نتيجة المكيدة. - تريد علاوة على ما يصيبك؟ - نعم.
فقال الأمير عاصم ضاحكا: لله منك ما أطمعك! إن نجحت في هذه المكيدة التي هي آخر المكايد، كان لك ربع العزبة التي هي سجن جوزفين الآن. - بقي أن نضع خطة هذه المكيدة، فلا بد أن تكون قد افتكرت بها مليا. - افتكرت، ولكن الفكر شيء والعمل شيء آخر، فلا يجوز أن يكون الفكر فكري وحدي إذا كنت أنت العامل وحدك. - إذن قل لي خلاصة الخطة التي افتكرت بها، وثم نعد لها حسب الاقتضاء. - لا بد من نقل جوزفين سليمة إلى قصر الأميرة نعمت هانم. - لا ترفع صوتك؛ فإني أخاف أن يسمع. - لا تخف، إن صوتنا بعيد جدا عن الآذان؛ فإننا في منتصف الليل الآن وكل الخدم نيام. - ولكني سمعت مثل وقع أقدام خفيفة. - ليس ما سمعته إلا وهما.
وعند ذلك وثب سنتورلي إلى باب القاعة وفتحه وأطل إلى الرحبة، وقال: «من هنا من الخدم؟ فليأتنا بكأس ماء.» فلم يجبه أحد، فعاد مطمئنا. - أمن أحد خارجا؟ - كلا، الكل نيام. - قلت لا بد من نقلها سليمة إلى قصر الأميرة نعمت. - نعم، ولكي تضمن سكوتها يجب أن تكون منومة، فتخرج من سجنها كما دخلت؛ ولذلك عليك أن تدس في طعامها جرعة أفيون كافية. - إلى هنا كل شيء سهل، ثم أخرجها في منتصف الليل وأضعها في عربة مقفلة وأسوق بها وحدي إلى أمام قصر الأميرة نعمت، وثم كيف أدخل القصر؟ - في تلك الليلة التي تنقل فيها جوزفين أدس في طعام أحمد خادمي مخدرا فلا ينتصف الليل حتى يكون قد انزعج، فأستدعي أباه، وهو كما لا يخفى عليك بواب قصر نعمت هانم، فيقفل بوابة القصر ويهرول مسرعا ويلتهي بابنه، وحينذاك أحتال عليه وآخذ مفتاح البوابة منه وألاقيك في الحال، فنفتح وندخل جوزفين إلى حيث نستطيع من أروقة القصر. - حسن، قل أدخلناها، ثم ماذا؟ - ثم لا أسهل من القضاء عليها حينئذ، فقد أعددت لك هذه الزجاجة الزرقاء وفيها محلول الستركنين وهذه الحقنة، فتملأ الحقنة من المحلول وتحقنها بها في ذراعها تحت الجلد، فلا يمضي عليها ربع ساعة حتى تصل روحها إلى ربها. - لله درك! لا اعتراض لي على هذه الخطة؛ فإنها على ما أرى مضمونة النجاح، إذا نجحت أنت في أخذ مفتاح القصر. - أرجح أني أنجح. - قلت لا بد من نقلها إلى قصر نعمت هانم نائمة لا مائتة، فلم أفهم سر ذلك، فلماذا لا ننقلها مائتة؟ - أخاف أن يتعذر علينا إدخالها إلى القصر ونضطر أن نرجعها إلى سجنها، وحينئذ يجب أن نحييها؛ إذ لا يوافقنا أن تخرج من عندنا مائتة أو أن تدفن عندنا؛ لأنني لا أضمن خفاء أمرها هناك كما قلت لك. - الحق معك، وماذا يجب أن تعتقد حارستها وسليم وعلي بشأن خروجها؟ - يكفي أن تخبر الحارسة أنك ستأخذها لكي تسافر بها في قطر منتصف الليل، وإن في عزمك أن تمضي بها إلى أوروبا لكي تبعدها عن عشيقها وتفرجها من سجنها هذا خوفا على صحتها، ثم تنام في تلك الليلة في غرفتك هناك، ومتى انتصف الليل تخرجها نائمة من الباب السري من غير أن يستيقظ أحد. - بقي أن نرى الموعد الموافق لذلك. - أرى أن مساء الاثنين ليلة الثلاثاء القادمة أفضل فرصة لهذه المهمة الخطيرة؛ أولا لأن القمر يكون مختفيا كل الليل، وثانيا لأن الأميرة نعمت هانم تنام ليلئذ قبل منتصف الليل على ما أرجح؛ لأنها تكون في الليل السابق قد سهرت للصبح في حفلة زفاف صديقتها الأميرة فاطمة هانم. - حسن جدا، إذن بعد خمسة أيام تكون جوزفين قتيلة في قصر الأميرة نعمت. - وهل تظن أن مهمتنا تنتهي عند ذلك وتتم النقمة؟ - لا لا، فهمت ... يجب أن يبلغ البوليس عن وجود قتيلة في قصر الأميرة. - هذا علي، وهو أسهل من السهل، أرسل كتابا سريا في ذلك الصباح إلى إدارة البوليس.
وعند ذلك تناول سنتورلي الزجاجة التي ملأها الأمير عاصم محلول ستركنين ووضعها في جيبه ومضى.
الفصل الثالث عشر
بيد العناية السموية
مضى على جوزفين في ذلك السجن القصي نحو عام وهي لم تر بشرا غير تلك الكهلة اليونانية أويقات قليلة في النهار، أما سليم وعلي فلم يؤذن لهما البتة أن يصعدا إلى الطبقة العليا من المنزل، وجل ما عرفاه أن الخواجه جاك سيدهما قد حبس زوجته فوق ليمنعها عن عشيقها، فكانا يأتمران بأمر تلك الكهلة الحارثة كما تشاء، وأما سنتورلي فكان ينام بعض الليالي في الغرفة المجاورة لغرفة جوزفين؛ لكي يوهم الخدم أنه نائم عند امرأته.
ولا ريب أن يدرك القارئ ما قاسته جوزفين في ذلك السجن المرتفع وهي لا تقدر أن تشكو أمرها لأحد؛ فإن تلك اليونانية حارستها لم تكن لتشفي لها غلا البتة؛ لأنها غريبة اللغة عنها، فإذا احتاجت جوزفين أمرا حارت كيف تبلغه إلى حارستها، وهذه لم تكن مطالب جوزفين لتهمها؛ إذ لم يكن واجبا عليها أن تلبي لها طلبا؛ لأن وظيفتها انحصرت في تقديم الطعام والشراب لها، وإخراجها في بعض الأمساء إلى البلكون فقط.
وقد قصد سنتورلي من اختيار حارسة جوزفين امرأة غريبة اللغة عنها أن يمنع كل صلة بين قلبيهما؛ لأنه حسب أن التفاهم الصريح بينهما يعقد الألفة، والألفة تفضي إلى إشفاق اليونانية على جوزفين عند إطلاعها على الظلم اللاحق بها، وحينئذ يستحيل عليه أن يأمن جانب المرأة اليونانية، فلا بد أن تخونه، فإما أن تطلق جوزفين من سجنها، أو أنها تغدر به وتشكو أمره للبوليس، أو أنهما تفران معا.
ولكن بما أن اليونانية لم تكن لتفهم شيئا من جوزفين، ظلت تعتقد ما طبعه في ذهنها المسيو جاك - سنتورلي - من خيانة زوجته له وتعلقها بعشيقها، وبما أنها كانت متورعة ومتدينة كانت تحسب جوزفين امرأة شريرة جدا فتكرهها، وكانت إذا توسلت إليها جوزفين وتضرعت تظنها تلتمس مشاهدة حبيبها فتزداد كرها لها؛ ولذلك كانت قاسية عليها جدا، فإذا أكثرت جوزفين من التضرع والتوسل حرمتها الحارسة من الخروج إلى البلكون.
وقد حارت المسكينة جوزفين في كيف تسترضي حارستها أو تفهمها مطلوبها؛ فتارة كانت تكتب لها بعض مقاصدها بالفرنسية وتومئ إليها أن تلتمس من شخص آخر أن يترجم لها تلك الكتابة، فتعرض الحارسة الورقة على سنتورلي فيخبرها ما يشاء، وإذ تكرر هذا الأمر بضع مرات، وخشي سنتورلي سوء عاقبته أمر الحارسة أن لا تقبل منها ورقا البتة؛ لأنه هو يستفهم منها حاجتها متى اجتمع بها.
وأما الغرض الذي كان يرمي إليه الأمير عاصم وسنتورلي من إبقاء جوزفين جاهلة سبب سجنها، والأشخاص الذين قضوا عليها بهذا الشقاء، ومن احتجاب سنتورلي عنها لأنها تعرفه، الغرض من هذا كله هو أنهما كانا يحسبان حساب إطلاق جوزفين من هذا السجن، أو إفلاتها منه لسبب من الأسباب، فإذا خرجت وهي لا تدري أين كانت سجينة ومن سجنها بقي جرمهما مكتوما، وهذا منتهى التحوز الذي وصل إليه الكائدون، وقد أصابا في تحرزهما هذا؛ لأن سنتورلي مل السهر في مراقبة جوزفين والحرص عليها في سجنها، وصار يلتمس وسيلة للتخلص منها ولو بخلاصها؛ ولذلك عقد النية على أن يطلق سبيلها إذا لم يفلح في المكيدة الأخيرة؛ لأنه خاف ألا يبقى أمرها خفيا على تمادي الزمان، فإذا أطلقها من سجنها بالطريقة التي أدخلها إليه فيها أمن انفضاح أمره؛ لأنها إلى ذلك العهد لم تكن تعرف من أتى بها إلى هناك ولا أين هي ولا سبب ذلك كله.
قلنا إن جوزفين المسكينة ذاقت من العذاب في ذلك السجن ألوانا، وكانت تشتهي سما ناقعا يقلص أعصابها ويوقف دورتها الدموية، أو نصلا تغمده في فؤادها، بل كانت تشتهي أن ترى الشخص الآمر بسجنها لكي ترتمي عند قدميه وتتوسل إليه أن يجهز عليها.
ولقد حارت في سبب سجنها، فكان يخطر لها تارة أن الأمير نعيما كرهها وأمر بسجنها لكي يتخلص منها، ولكن لا تلبث أن تتفل على الشيطان وتستغفر ربها على هذا الظن؛ لأنها كانت تحسبه تجديفا، وتارة كانت تظن أن شخصا يهواها فأقصاها عن نعيم وانتظر ريثما تنساه ... افتكرت أفكارا عديدة، ولكن لم تجد فكرا ينطبق على ضميرها وعقلها.
وفي المساء السابق لمساء القضاء عليها كانت في سريرها تقلبها الهواجس على جانبيها، وقد اتحد غم الظلام وظلام الغم بالضغط الثقيل على صدرها، فكانت ترفع الغطاء عنها؛ لأنها تشعر به ثقيلا ثقل الجبل، ثم تتنهد حتى تكاد تدوي الغرفة من تنهدها، وبقيت كذلك حتى انتصف الليل ولم تنتصف سنة النوم في جفنيها، فسمعت نقرا خفيفا على شباكها، فأعارت أذنها للشباك وأصغت جيدا، فسمعت نقرا متتاليا، فهلع فؤادها فنزلت من سريرها بكل هدوء من غير أن يسمع لها صوت، ودنت من الشباك وأنصتت، فسمعت نقر حصى صغير على الشباك، وصوتا خافتا يقول: «جوزفين، جوزفين، جوزفين.» فأصغت جيدا، والنقر والنداء متتابعان، فاضطربت في أول الأمر، ولكنها ما لبثت أن استأنست؛ لأنها أملت من تلك الصوت فرحا، إما بقطع حبل حياتها أو بخلاصها؛ إذ أصبح الأمران سيين عندها، فوضعت يدها على مزلاج الشباك وهي تنتفض كأن مجرى كهربائيا قويا يعبر فيها، ولكنها لم تجسر أن تفتح، فقالت بصوت ضعيف بالإفرنسية: «من؟» ولكن لو كانت أذن الطارق عند شفتيها لما سمع غير تصعد أنفاسها؛ لأنها لم تستطع أن ترفع صوتها، بيد أنها توهمته في نفسها صراخا يكاد يوقظ أهل العزبة، قالت «من؟» وأصغت فلم تسمع إلا نداء اسمها، فقالت: «من؟» أيضا، فسكت الصوت وخافت أن يبرح من غير أن تراه، فشددت قلبها وحركت المزلاح فتحرك المصراع كله، فسمعت حينئذ الصوت يقول: «افتحي ... افتحي ... لا تخافي.» فاستأنست جدا وشددت قلبها وفتحت المصراع نصف فتح، وتطلعت فرأت شبحا متسلقا على شجرة غضة قريبة من ذلك الشباك، فذعرت في أول الأمر، وقالت بالإفرنسية: من أنت؟
فأجابها بالفرنسية أيضا: أأنت جوزفين؟
فأجابت جازعة وهي تنتفض: نعم، من أنت؟ - لا تخافي، أنا مرسل من الله مخلصا لك. - ولكن، قل لي من أنت؟ - لا تخافي يا جوزفين ... لا تخافي، ثقي بي وإن لم تعرفي اسمي؛ لأني لا أقدر أن أبوح به لك، فربما تعرفينه بعدئذ. - يالله! لقد رعتني يا هذا، قل لي من أنت؟ - لا تخافي يا سيدتي، لا تخافي، اطمئني واسمعي ما أقول لك.
وكان روع جوزفين قد سكن قليلا حينذاك، فقالت: أصادق في ما تقول؟ إني إلى الآن لا أعرف من هو صديقي ولا من هو عدوي. - لست عدوك يا مولاتي، ولو كنت من أعدائك لما اضطررت أن أتسلق الشجرة إليك، بل كنت آتي إليك من باب سجنك. - معقول ما تقول، وسواء كنت صديقا أو عدوا فلا فرق عندي؛ لأني أنتظر الفرج من نقمة العدو كما أنتظره من نعمة الصديق، فقل يا هذا ما شأنك؟ - قبل كل شيء يجب أن تثقي بي. - ما برهانك على صدقك لكي أثق بك؟ - مهما كنت أخدعك فلا أقودك إلى شقاء أعظم من شقائك الحالي، فثقي بلا برهان. - صدقت؛ لأني لم أتصور شقاء أعظم من شقائي الحالي، فإن كان ثمة أعظم فأرني ها إني مستسلمة.
فتأفف ذلك الشبح وقال: صدقيني يا سيدتي، إني أريد كل الخير لك، فاسمعي كلامي كله وثقي به وإلا كنت بعد غد جثة باردة.
فذعرت قائلة: ويلاه! كيف ذلك؟ - أعداؤك ينصبون شركا لك وللأميرة نعمت هانم. - من هم أعدائي؟ - لا يجوز أن تعرفيهم؛ لأن معرفتك لهم ولي تفضي إلى وضعي في أعماق السجن. - يالله! أراك كتلة أسرار، ولكني أشعر باستئناس فيك، فها أنا مستسلمة إليك، فماذا تريد أن أفعل؟ - اعلمي أن طعامك غدا يحتوي على أفيون بغية أن يصرعك، لكي تنقلي من هذا المكان إلى قصر الأميرة نعمت صريعة السبات، وهناك تحقنين تحت جلد ذراعك بسم ناقع، فلا تمضي عليك ربع ساعة حتى تفارقي الحياة الأرضية، يجري ذلك في قصر الأميرة من غير أن تعلم ولا تراك في الصباح إلا جثة في منزلها، فتضطرب بسببك حتى يطوف الشرطة قصرها ويقبضون عليها وعلى خدمها.
وكانت جوزفين تقاطعه عند كل جملة بقولها: «ويلاه ويلاه!» - إذا لم يكن لي الأمل بالخلاص من هذا السجن إلا إلى القبر، فأفضل القبر عليه. - بل تخلصين إذا طاوعتني. - ماذا تريد أن أفعل؟ - أن لا تأكلي من الطعام الذي يقدم لك غدا بعد الظهر؛ لأنه يشتمل على مقدار كبير من الأفيون يصرعك بحيث لا يبقى لك إحساس، فتموتين به نصف موت، وربما كل الموت، ولكن ليس غرض أعدائك أن تموتي هنا، وإنما يجب عليك أن تتظاهري أنك نائمة، بل أنك في سبات ثقيل لكي تنقلي في منتصف الليل من هذا المكان. - أخاف أني لا أعرف أن أتقن هذا التظاهر. - إذن كلي بعض الأكل لكي يستولي عليك النعاس، فتنامي نوما ثقيلا لا يؤذيك؛ لأنك إذا صرعت بفعل الأفيون صرعا شديدا يتعذر علي الهرب بك. - إذن آكل بعض الأكل، ولكن أخاف أن يكون ما آكله يحتوي على المقدار الكافي لقتلي! - لا تخافي؛ لأنهم لا يريدون أن تصلي إلى قصر الأميرة نعمت إلا سالمة من الموت؛ لأنهم يخافون أن يخفق سعيهم في إدخالك إلى القصر، فيضطرون إلى إرجاعك إلى هنا، ولا يوافقهم أن تكوني هنا ميتة. - وكيف أسلم من السم الناقع الذي سيحقنونني به؟ - لقد أصبح ذلك السم الذي أعدوه لك ماء نقيا فلا تخافي، فإذا شعرت بألم الحقنة فلا تصرخي، بل يكفي أن تختلجي فقط، لا تمانعي ولا تستيقظي لئلا تعودي إلى هذا السجن. - وبعد أن أحقن تحت الجلد؟ - يتركونك هناك وأنا أتولى أمرك. - ولكن لماذا هذا التدارك المستصعب؟! ألا تقدر أن تأخذني من هنا؟ - أنى لي ذلك والشباك محدد كشباك السجون؟ - آتيني بمبرد فأبرد عارضة، ثم آتيني بحبل فأربطه بهذا الحديد وأتدلى. - ليس الوقت كافيا في هذا الليل ولم يبق لك هنا سواه، ثم إنه لا يوافقني أن تهربي من هنا؛ إذ لا يعرف بوجودك في هذا المكان أحد من غير أعدائك إلا أنا، فيعلمون من غير بد أني أنا الذي سرقتك وخلصتك، وهم يقدرون بكل سهولة أن ينتقموا مني شر نقمة. - إذن أستسلم لك بعد استسلامي لله. - تفعلين حسنا. - ولماذا تهتم بخلاصي يا سيدي؟ أتعرفني؟ ألك صلة بي أو غرض معي؟ - أعرفك معرفة سطحية جدا، وإنما أخلصك وأخلص الأميرة نعمت تكفيرا عن ذنبين اجترمتهما وتبت عنهما. - لم أفهم. - لا يهمك أن تفهمي، بل أرجوك أن تقصري عن الأسئلة؛ لئلا تجلبي علي خطرا عظيما عن غير قصد منك. - لا تخف، إني أحرص على أسرارك. - بل أخاف؛ لأني لا أطمئن على أسراري مع سواي، ثم إن أسراري لا تفيدك شيئا. - ليكن ما تريد. - إذن إلى اللقاء بعد نصف الليل القادم. - إلى اللقاء، ليكن الله معك أيها المخلص، يا رسول الخير وملاك السلام.
ثم عادت جوزفين إلى سريرها وهي تحسب أن السعادة عادت إليها بعد جفاء طويل، وصارت تفتكر كيف تقابل نعيما بعد الغد، فلا تدري بأي حالة يستقبلها.
أما ذلك الشبح فنزل من الشجرة إلى أرض الحديقة، ثم تسلق الجدار وقفز عنه إلى الغيض من غير أن يشعر به أحد البتة.
الفصل الرابع عشر
لو كنت تعلمين
في مساء الاثنين المعهود وافى أحمد بك نظيم وكيل دائرة صدقي باشا إلى قصر الأميرة نعمت هانم، ففتح له الخدم القاعة وسأل عن الأميرة، فأبلغوها خبر قدومه، فقالت: «ما خبره؟ ما كنت أظنه يزورني قط!» وبقيت في غرفتها تقرأ في روايتها نحو ربع ساعة، ثم سألت: «ألم يزل موجودا في القاعة؟» فقيل لها: «نعم.» فوافت إليه تجر أذيال العجب والخيلاء، فحيته وهو انحنى لها ثم جلست على المقعد رزينة جدا تثقلها الكبرياء ويستخفها الجمال البديع. وكانت كما علم القارئ واجدة على أحمد بك؛ لأنه لم يتمم رغبتها في قبول يدها وعدت ذلك منه إهانة، وكان بعد دخولها على القاعة سكوت هنيهة بترته بقولها: أمن حاجة لك يا أحمد بك فأقضيها؟ - لا أرجو إلا سلامة سيدتي، فما أتيت لقضاء حاجات بل لزيارة، فإن كانت زيارتي في غير حينها فأعود من حيث أتيت. - ليس من عادتي أن أكون فظة إلى حد أن أطرد زائري طردا وإن كنت في حاجة إلى النوم؛ لأني سهرت الليل السابق كله. - إذن ائذني لي يا سيدتي بالانصراف أستودعك الله.
وهم أن ينصرف، فقالت له وهي تبحث في نفسها عن طريقة لإغاظته واحتقاره: بل تبقى ولو نصف ساعة على الأقل؛ لئلا تقول إن نعمت خشنة. - من يستطيع أن يقول ذلك يا مولاتي، وأي خشونة منك ليست كل اللطف والرقة؟ - أشكر لك إطراءك وأرجوك أن تدعنا من هذا الموضوع.
سكتا هنيهة، ثم قالت: ما بالك ساكتا يا أحمد بك؟ أتنتظر أن تفاتحك بالحديث سيدة؟ - كلا، وإنما لا أدري ماذا أتكلم يا سيدتي؛ لأني كيفما تكلمت أشعر أن كلامي في غير محله. - لا لا، وإنما أحب أن تعلم أن كلامك معي صار يجب أن يكون محدودا بحدود، فلا يخفى عليك أني أود أن أسترد الابتذال الذي ابتذلته لك، وأنا أظنك أرفع نفسا مما ظهر لي منك. - مهما تنازلت يا مولاتي فإني لا أجهل قدرك، على أني أشعر بأن القدر لم يجعلني مستحقا تنازلك ... - لا لزوم للتمادي بهذا الحديث لئلا يثور طبعي، فكفى ما ثار سخطا وغضبا وحنقا على الأمير عاصم بسببك حتى أصبحنا كالعدوين، لولا ما جبلنا عليه من طيب القلب.
فتلمظ أحمد بك ريقه وجعل يزدرد كلامه مخافة أن ينتشر من فيه شررا حاميا فيحرقه، وبعد سكوت هنيهة قال: ماذا تعرفين يا مولاتي الآن عن الأمير نعيم؟ - آخر رسائله لي من فينا منذ شهر، وبعد ذلك لم أدر أين هو، مسكين نعيم، ما أشد تأثير هذا الحادث عليه! مضى عام على فرار جوزفين الخائنة وهو لم يزل هائجا غاضبا كما كان يوم فرارها؛ لأنك تعلم أن نعيما أعظم المتمسكين بشرف النفس، مسكين! مسكين! إن تلك الملعونة وحدها سبب شقائه. - أتؤكدين يا مولاتي أن تلك الفتاة كانت خائنة؟ - من غير بد، فإن نعيما لم يرتب قط بخط يدها، وقد قرأ رسالتها التي تعترف له فيها بخيانتها وراجعها مرارا، وتأملها فلم يظهر له دليل على أن الخط غير خطها وأن كلامها يفهم بخلاف ظاهره، نعم إنه في أول الأمر أبى أن يصدق أنها خائنة لفرط حبه لها، ولكنه إذ لم يستطع أخيرا الشك بخط يدها ولا تأويل كتابتها اقتنع بأنها خائنة، وهل تنتظر يا أحمد بك أن هؤلاء الإفرنجيات الفقيرات الوضيعات الأصل يثبتن على عهد؟! كلهن كاذبات منافقات يبتززن أموال الأغنياء ثم يخنهم، ولو لم يكن أخي طيب القلب جدا لما عاهد تلك الملعونة الخبيثة وثبت على عهده معها إلى أن فاجأته بخيانة، فهو أخلص لها الود وحافظ على العهد حرصا على مبادئه الشريفة، لا لولوعه بها فقط. - ولكن أما عرفتم شيئا عن تلك المرأة؟ - لا، ولا نهتم أن نعرف، بل نحن نشكر الله أن أخي تخلص منها من غير أن ينقض عهده معها، ولو بقي مرتبطا بها لظل مبغضا من جميع أفراد الأسرة؛ لأنهم استنكروا أن نابغتهم يكون معصوما بعصمة الزواج من غريبة وضيعة الأهل دنيئة النسب، ولا سيما لأن وصية أبيه كانت على الضد من ذلك. - ولكن لو ظهرت هذه الفتاة وثبت أنها غير خائنة ... - عجيب! كيف يثبت ذلك وهي أقرت من نفسها؟! وهب أنها بريئة فكيف تثبت براءتها؟ ومن يصدقها؟ وهب أنها صدقت فهل نعود فنقرب إلينا امرأة كانت سببا لجعل أخي مضغة في الأفواه؟ من لم يعلم بأمر هذه الفتاة وعلاقة أخي بها؟ وأنت تعلم أن الناس يقدرون الحادثة بقدر أشخاصها، فلو حصلت حادثة أخي مع غيره من العامة لما عرف بها أحد، بل كم يحدث كل يوم كحادثة أخي وأغرب فلا يعرف عنها شيء! - ولكن ألا تظنين أن الأمير نعيما إذا صادف الفتاة في أوروبا وأثبتت له براءتها يغفر لها؟ - عجيب يا أحمد بك! ما بالك تحدثني ببراءة هذه الفتاة كأنك مقتنع أنها بريئة أو تعرف أنها بريئة؟!
فامتقع لون أحمد بك واستدرك قائلا: كلا، وإنما فرضت أنها كذلك لأعلم كم مبلغ السخط عليها. - إنه لشديد، وأنا أؤكد لك أن أخي لو صادفها لا يمهلها إلى أن تلفق له الأعذار، بل يعاجلها في الحال بضربة قاضية؛ لأنه بقدر ما كان يحبها أصبح يشتهي الانتقام منها، بل أؤكد لك أن أخي لا يفرج همه ولا يزول غمه إلا إذا انتقم منها، فليته يلتقي بها. - ولكن لماذا يكترث بها وهي أصبحت نفاية؟! - لا يستطيع أن يسلوها؛ لأنه عني بها جدا في أيام حبه لها، فلا يطمئن له بال إلا إذا عني في انتقامه منها بمقدار عنايته بها لعهد حبهما، وما غلط أخي الآن وإنما غلط في السابق، غلطه في إيثاق عهده معها، وقد أوشكت أنا أن أغلط نفس غلطته ولكني نجوت والحمد لله منها.
فاغتاظ أحمد بك من هذه الوخزة الأليمة التي وخزته بها الأميرة وقال: مولاتي، أحتمل منك كل شيء إلا ما يمس نفسي الكبيرة، نعم إنك أرقى مني حسبا ونسبا ومقاما في الهيئة الاجتماعية، وأما في شرف النفس وشرف المبدأ وشرف الكلمة فلا أظنك تبلغين مبلغي. - أراك تتطاول يا أحمد بك وأنت وضيع جدا. - لست وضيعا البتة. - بل وضيع، وأنت نفسك أقررت بضعتك يوم جئت أغالطك وأبرهن لك أنك رفيع المقام، فكذبت قولي وجاهدت الجهاد الحسن في إثبات ضعتك. - إنك تهينينني جدا يا حضرة الأميرة. - كلا، بل أضعك في مقامك الوضيع الذي أبيت الصعود منه. - قلت لك إنك تهينينني يا نعمت! - لا تكلم مولاتك هكذا! - نعم، أنت مولاتي بمعنى، وربما أكون مولاك بمعنى آخر.
فاستشاطت الأميرة قائلة: لقد تجاوزت قحتك الحد! فالأفضل أن تنصرف. - لم آت إليك إلا إشفاقا عليك وغيرة على سمعتك يا حضرة الأميرة، فلا تطرديني طردا. - أراك تهذي، فهل جننت؟ - بل أنا عاقل، وستبرهن لك الأيام عقلي وارتفاع منزلتي وشرف نفسي. - أف ... لم أعد أطيق هذا الغرور الباطل الثقيل.
ثم نهضت وقالت: إذا شئت مقابلتي في حين آخر لشغل، فانتظرني في غرفة المفاوضة.
ثم تركته وانصرفت إلى مخدعها متغيظة متشفية بعض التشفي، فإنها كانت تنتهز كل فرصة لإغاظته وإهانته واحتقاره انتقاما منه.
وكانت قد تجاوزت الساعة العاشرة، وأكثر خدم القصر نيام إلا وصيفة الأميرة، فخرج أحمد بك من القاعة ومشى في رواق القصر والأميرة تسمع وقع أقدامه إلى أن نزل من الطبقة العليا، ولما صار في الطبقة الوسطى حيث يقيم الخدم دخل إلى خزانة منحرفة قرب رأس الدرج الذي ينزل منه إلى بوابة القصر ومكث هناك.
وما بلغت الساعة الحادية عشرة ونصف حتى سمع قرعا على بوابة القصر، فأصغى فسمع بربريا يقول للبواب: اقفل بوابتك واتبعني إلى قصر الأمير عاصم؛ لأن ابنك يتقيأ والأمير يعنى به، لا تزعج أهل القصر هنا بعويلك، ليس الأمر خطيرا. وما هي هنيهة حتى أقفلت البوابة وأوصدت، ونسي البواب أن زائرا لم يزل في القصر؛ لأن قلقه على ابنه أنساه كل شيء، وما انتصف الليل حتى كان الأمير عاصم لدى البوابة يفتحها وسنتورلي ينزل جوزفين من المركبة، وكان الليل دامسا وما حول القصر خاليا، وفي أقل من لحظة كان يحمل جوزفين إلى الممشى الأسفل حتى وصل بها إلى آخره، فألقاها هناك، وفي الحال وخز جلدها بالحقنة المعلومة وانصرفا، وأقفل الأمير عاصم البوابة وعاد فرد المفاتيح إلى البواب كما أخذها منه من غير أن يشعر؛ لأن البواب لما وصل إلى ابنه وجده صريعا من شدة ما أزعجه التقيؤ، فخلع رداءه الخارجي وجعل يعالج ابنه، وكانت المفاتيح في الرداء، فأخذها الأمير عاصم منه وردها من غير أن يلاحظه أحد من الخدم المنهمكين في معالجة الغلام.
الفصل الخامس عشر
مديونة له بحياتها
أما جوزفين فلما أنهضها سنتورلي من سريرها كانت صريعة الأفيون كما انتظرت، ولكن بما أنها كانت عالمة بذلك من قبل شعرت جيدا بذراعين تحضنانها وترفعانها عن سريرها في حلك الليل، على أنها استسلمت وفعل الأفيون ساعدها على الاستسلام، فنزل بها من غرفتها ووضعها في مركبة مقفلة وعدا بها، وكانت في المركبة نصف نائمة؛ لأن الخوف قاوم فعل الأفيون، ولكنها كانت كالمصروعة حين حملها إلى ممشى قصر الأميرة نعمت، ولما وخز سنتورلي ذراعها بإبرة الحقنة اختلجت وقلبها خفق جدا؛ لأنها خافت أن يكون السائل الذي حقنها به مسموما، ولكنها استسلمت، وقد زاد الخوف تنبهها حتى تغلب على فعل الأفيون، فما إن خرج سنتورلي وأوصد البوابة حتى جلست وجعلت تجس نفسها كأنها لم تصدق أنها حية، وعند ذلك سمعت وقع أقدام ضعيفا جدا، فالتفتت إلى جهة الصوت فسمعت من يقول: «جوزفين!» فقالت: «نعم، أنا هي، أنا هنا.» وعند ذلك تبينت القادم فعرفت أنه الشبح الذي خاطبها أول أمس عند الشجرة، ولكنها لم تعرف أنه أحمد بك؛ لأن معرفتها الشخصية به كانت ضعيفة جدا؛ إذ لم تره غير مرة حين كان يزور الأمير نعيما لشغل، فلم تحفظ صورته في مخيلتها، أما سنتورلي فكانت تعرفه؛ لأنه كان يراها أكثر من أحمد بك، ومع ذلك لم تعرفه حين نقلها؛ لأنها لم تره في النور، ولا سيما لأن الأفيون قد خبلها وأضاع صوابها.
ولما دنا منها أحمد بك أمسك بيدها، وقال بالإفرنسية: لقد نجوت ... - أكيد؟! أخاف أن تكون الحقنة سامة! - لا تخافي، اطمئني، لم تحقني إلا بالماء البسيط، هاتي يدك ولا تبطئي في مماشاتي، أسرعي ما تستطيعين.
ولما وصلا إلى البوابة حل أحمد بك المزلاج وفتحها وخرجا ثم أقفلها، وسار بجوزفين في ذلك الحلك وهي تستند إلى ذراعه إلى أن التقيا بمركبة للأجرة فركبا فيها، وأوعز أحمد بك إلى الحوذي، فجرى بهما إلى منزل حقير في حارة ال ...
ودخلا إلى المنزل ولم يكن فيه إلا عجوز شمطاء، فخرجت إلى غرفة أخرى حين دخلاه، ولما استقرت جوزفين في المقعد فتحت عينيها جيدا، وقالت: أرى النور ضئيلا ... ألعل الحقنة سامة؟! إني خائفة جدا، ويلاه! - النور ضئيل كما تقولين، ولكن ما تشعرين به من الخبل إنما هو فعل الأفيون، فتشددي. - أين نحن الآن؟ - نحن الآن في محل أمين بعيد عن أعدائك. - متى أرى الأمير؟ هل يأتي إلى هنا؟ - ليس الأمير في مصر، فلا تنتظري أن تريه.
فاعتدلت في مكانها وأحدقت فيه قائلة: أين هو؟ - في أوروبا. - أما أمر شيئا بشأني؟ - أتظنين أن الأمير كان يعرف مقرك وأنه سعى بتخليصك؟ - من سعى غيره؟ - أتنتظرين أنه يلتفت إليك بعد رسالتك له؟ - ويلاه! أناقم علي؟ - من غير بد.
فصرخت مولولة وهي تقول: ويلي! إني بريئة يا سيدي، إني مظلومة، أما عرف أني كنت سجينة، وقد أكرهت على كتابة تلك الرسالة المشئومة له؟ - كلا، لم يعرف إلا ما كتبته له في تلك الرسالة. - يا ويلاه! ألم تخبره أنت؟ وجعلت تبكي كالأطفال. - لا تولولي يا سيدتي، خففي عنك. - إني وحقك بريئة! ألم تعرف أنت حقيقة سجني وسبب الرسالة؟ فاسمع لأقص عليك ما جرى لي. - لا أكلفك أن تحكي لي حكايتك، فإني أعرفها أكثر مما تعرفينها، بل إني أعرف كثيرا مما لا تعرفينه. - إذن تعرف سبب سجني وأعدائي؟ - نعم، أعرف كل شيء جيدا. - أفما أخبرت الأمير نعيما به؟ - كلا، لا أقدر أن أخبر أحدا. - لماذا؟ ألا تخبرني أنا؟ - أما قلت لك أمس إن ذلك سر وإفشاؤه يهوي بي إلى أعماق السجن؟! فأرجو منك أن تعذريني. - بالله! قل لي من أنت؟ - وهذا سر أيضا لا أقدر أن أبوح به لك، فإن معرفتك إياي قد تفضي إلى نفس تلك النتيجة. - يا ويلي! ألا أدري شيئا من هذه الأسرار التي تحف بي؟ - الأفضل أن تقنعي بخلاص حياتك. - كيف أقدر أن أشكرك وأكافئك؟
ثم ارتمت على قدميه تريد أن تقبلهما كأن فعل الأفيون ابتدأ أن يضمحل، فأنهضها وأجلسها قائلا: عفوك يا حضرة الأميرة جوزفين، لم أفعل إلا ما وجب علي، وما فعلته هو جزء من الكفارة عن ذنبي. - ألا تقول لي لماذا أنقذتني؟ - أرجو منك يا مولاتي ألا تستفهمي مني عن شيء، فإني لا أقدر أن أخبرك أمرا. - ونعيم، أين أجده؟ - الأفضل ألا تبحثي عنه. - ويلاه! لماذا؟ - لأنه ناقم عليك. - أبرر نفسي أمامه. - كيف؟
ففكرت هنيهة، وقالت: أقص له حكايتي بحروفها وهو يصدقني. - ولكنه صدق رسالتك التي بخط يدك، فهل يعود فيكذبها الآن؟ - يصدقني كما صدق رسالتي. - ولكن رسالتك شكوى نفسك على نفسك، وهذه لا تحتاج إلى بينات وشهود؛ لأنها إقرار، وأما تبرئتك لنفسك فتحتاج إلى براهين. - طبيعة قصتي مؤيدة نفسها. - ولكنك لا تعرفين من قصتك شيئا يستحق الاعتبار، وما تعرفينه منها غير معقول؛ لأنك لا تعرفين من خطفك، ومن سجنك، ولماذا سجنك، وأين سجنك!
ففكرت جوزفين هنيهة وقالت: ويلاه! أيحكم علي وأنا بريئة؟ - كذا قضت الأقدار يا مولاتي، فكم عوقب الأبرياء وبرئ المذنبون! - ولكنك أنت شاهدي الصادق فتقدر أن تبررني. - أراك تنسين سريعا، أما قلت لك أني لا أقدر أن أذكر لأحد شيئا مما يخصك، فأنا منذ الآن لم أعد أعرفك ولا أعرف عنك أمرا، وبعدما أفارقك لا تجدينني، فالأفضل أن تدعيني بعيدا عن أمورك، إلا إذا شئت أن تضحي بي على مذبح مصلحتك. - معاذ الله يا سيدي! بل إني أضحي بكل شيء لأجلك، إلا إخلاصي وأمانتي لنعيم. - هذه محفوظة لك، بل بالأحرى إني أضحي نفسي لأجل الحرص على أمانتك. - والآن ماذا أفعل؟ - صرت حرة يا مولاتي، تفعلين ما تريدين؛ لأن مهمتي قد انتهت، وإنما أنصح لك ألا تظهري في القطر المصري؛ لأن أعداءك أقوياء جدا، وإذا عثروا عليك لا تسلم روحك من أيديهم. - ألجأ إلى الأميرة نعمت هانم. - صارت هي وكل أعضاء الأسرة ألد أعدائك، فأرجو منك ألا تتعرضي لأحد منهم. - ويلاه! أهم أعدائي الذين قضوا بسجني وعذابي؟ - كلا، وإنما هم أصبحوا أعداءك بعد سجنك وإرسال الرسالة التي لا أشك أنك أرغمت على كتابتها. - إذن تعلم أني مظلومة، أفليس من يكشف ظلامتي؟ - نعم، إنك مظلومة بالحقيقة، ولكن الجمهور يعتقدون أنك خائنة ولا يستطيع أحد أن يبررك غير الله وحده، فاصبري لعل الله أعد لك فرجا قريبا أو بعيدا.
ففكرت جوزفين بضع دقائق ثم قالت: إذن ينبذني الكل حتى نعيم! - بكل أسف أقول لك نعم. - يا ويلي! ماذا أفعل؟ وكيف أختبئ من وجه أعدائي؟ - أنصح لك يا مولاتي أن تسافري في هذا الصباح إلى أوروبا، وها خمسون جنيها نفقات سفرك والأشهر الأولى من حياتك الجديدة، وبعدئذ يدبرك الله، ولا بد أن يكون لك أهل فتلتجئين إليهم. - كثر الله خيرك يا سيدي، حتى متى تغمرني بفضلك؟ - إني أوفي ما علي، بل أكفر عن ذنوبي يا سيدتي فلا أستحق شكرا، وهاك أيضا جواز سفر باسم امرأة نمساوية تقاربك في السن، فسافري في أول باخرة باسم «إدما نياشت». - إذن أنت قد قررت أمر سفري ...؟ - نعم، قررته كما قررت تخليصك؛ لأني رأيته لازما. - لقد أصبت، فإني أسافر من وجه أعدائي، وأسعى لأن أرى الأمير نعيما، فإن عداوته لي أسهل علي من مصالحة أقاربه، وغضبه أهيأ لي من رضاهم، فأين تظنه الآن؟ - أظنه في باريس؛ لأنه يحب الإقامة فيها، وعساه يقتنع ببراءتك ويقبلك. - كذا أؤمل، بل أقنع أن يقبلني كإحدى خادماته. - إذن تنامين هنا حتى الصباح، ومتى اتضح النهار تركبين مركبة إلى المحطة وتسافرين إلى الإسكندرية، وثم تنزلين في أول باخرة تبحر إلى أوروبا، ولا تخافي؛ لأنه لا يعرفك أحد، وإنما يجب أن تذكري أن اسمك الآن «إدما نياشت». - أشكر فضلك العميم، بماذا أكافئك؟ - لا أتوقع منك شيئا. - والنقود التي أقرضتنيها، كيف أردها؟ - لا أرجو أن ترديها. - رباه! ما هذا اللطف؟! بل الفضل الذي تسبغه علي، ربما عدت موسرة، فكيف أوفيك بعض فضلك؟ - أقنع منك بكتابة اسمك على هذه البطاقة.
وقدم لها بطاقة بيضاء وقلم رصاص فكتبت:
جوزفين صدقي مديونة لصاحب هذه البطاقة بحياتها.
بقي أن أرجو منك ألا تذكري شيئا لصاحبة هذا البيت عن أمرك، بل لا تكلميها شيئا؛ لأنها موصاة ألا تكلمك بشيء. - ليكن كما تقول.
ثم نهض أحمد بك يريد الانصراف، فأمسكت جوزفين يده لتقبلها، فاختطفها من كفيها وقال: ليكن الله معك. من يدري إن كنت أراك بعد؟ ليتني أقدر أن أعطيك عنواني لتكتبي لي إذا احتجت إلى مساعدتي المالية، أو سواها مما أقدر عليه. - إني ممتنة لك كل عمري.
الفصل السادس عشر
جزاء سنمار
ما ارتفعت الشمس فوق الأفق قامتين حتى كان الشرطة يحيطون بقصر الأميرة نعمت هانم، وبعض رجال القنصلية النمساوية يراقبون عملهم، ثم دخل المأمور وبعض الشرطة إلى القصر وقبضوا في الحال على الخدم وحجروا عليهم جميعا في غرفة واحدة، وعند ذلك شعرت الأميرة نعمت بضوضاء وجلبة وأصوات، فنادت فلم تسمع صوت مجيب، فخرجت من غرفتها لترى ما الخبر، فالتقت بالمأمور فسألت: ما الخبر؟ - بأمر الحكومة أفتش قصرك يا مولاتي. - عم تفتش؟ - عن جثة امرأة مسممة.
فارتعدت الأميرة لهذا الكلام، وقالت: يالله! ماذا تقول؟ - أقول إن رسالة مجهولة الإمضاء وردت إلى القنصلية النمساوية تبلغها أن امرأة نمساوية تدعى جوزفين محظية الأمير نعيم مسممة في قصر الأميرة نعمت هانم، فأبلغت القنصلية المحافظة فأرسلت عددا من الشرطة للتفتيش. - لا أكاد أفهم ما تقول؛ لأن جوزفين التي تذكرها ليست في القطر المصري، بل هي مع عشيقها في أوروبا كما كتبت لنا بخط يدها، ولا علم لي بشيء مما ذكرت. - على أني أفتش على كل حال؛ لأني مأمور بالتفتيش. - ولكن يشق علي جدا أن أرى شرطة تفتش قصري كأني متهمة بجناية. - ولكن التفتيش يؤيد براءتك يا مولاتي، فاسمحي به عن طيب خاطر؛ إذ لا مناص منه. - فتش فتش، لا بأس، فقد نفذ المقدر بإلباسي هذا العار.
وكانت ترتجف من شدة الغيظ كأن مجرى كهربائيا قويا جدا يجري في أسلاك أعصابها، فجعل المأمور يفتح غرفة بعد الأخرى ويبحث في كل جهة فيها، وبقي نحو ساعة يطوف غرف القصر كلها، حتى إنه لم يدع مقاس قدم إلا وفتشه فلم يجد شيئا، ثم نزل وفتش خزانات القصر السفلى واحدة واحدة، وقلب الأمتعة والأوعية ونظر السقوف، ثم طاف في الحديقة فلم يجد أثرا لدفن البتة، فعاد مقتنعا تمام الاقتناع أن القصر خال من جثة ميت، وما كان الظهر حتى عاد الشرطة بخفي حنين.
أما الأميرة نعمت فكانت تتلظى غيظا من جراء ذلك، وبعد أوبة الشرطة جلست في غرفتها، وجعلت تفتكر في سبب هذه الوشاية الكاذبة، وفي من هو الواشي، فحارت ولم يترجح لها إلا أن أحمد بك نظيم هو الواشي نكاية فيها؛ لإهانتها له في المساء السابق، وكان هذا الفكر ينمو ويقوى عندها إذ لم يخطر لها سواه، وأخيرا أقنعت نفسها بأنه هو الحقيقة بعينها، فأرسلت رسولا واستدعت أحمد بك فحضر في الحال، وكان قد حزر من نفسه سبب هذه الدعوة؛ لأنه كان عالما بأمر دسيسة سنتورلي والأمير عاصم كما هي، فظن أن الأميرة قد استدعته لتكلفه أن يبحث لها عن الواشي وسبب الوشاية، فلم يخطر له أنها تتهمه بها.
فلما وصل وجد الأميرة نعمت منقلبة الشكل من شدة الغضب والغيظ، حتى إنه لا يكاد يعرفها من يراها من معارفها، فابتسم أحمد بك قائلا: ما بال مولاتي غضبى؟ - أظنك تعرف السبب. - أأنا هو؟ - كما تقول.
فاكفهر وجهه، وقال: كيف ذلك يا سيدتي؟ - ألأجل هذه الدناءة الفظيعة كنت تحدثني أمس عن براءة جوزفين الخائنة؟ - أي دناءة يا مولاتي؟ إلى الآن لا أفهم ما تقولين! - لا أنتظر منك الإقرار بجريمتك. - أي جريمة؟! إنك تسيئين إلي جدا يا سيدتي. - بلاغك الكاذب الذي تستحق العقاب عليه. - أي بلاغ هذا يا سيدتي؟! أفصحي، فإني لا أطيق الألغاز. - من سواك أبلغ قنصلية النمسا أن جوزفين مسمومة عندي حتى أتى الشرطة اليوم وفتشوا منزلي؟ هل سمعت بإهانة لحقت بأحد أفراد الأسرة كهذه الإهانة؟ - كلا، لم أسمع! ويعز علي أن أسمع يا مولاتي، وإنما كيف عرفت أني أنا أتيت هذه الدناءة، ووشيت هذه الوشاية الكاذبة؟ - لا أحد سواك اهتم بأمر تلك الخائنة، فخطر لي أن ما جرى لي اليوم إنما هو نتيجة ما جرى لك أمس عندي وما صادفته من الإهانة، وقد افتكرت طويلا فلم يبد لي تعليل غير هذا التعليل. - إن ما يخطر لك ليس وحيا يا مولاتي، وبالتالي لا يعد برهانا. - بل هو برهان؛ إذ لا أنتظر هذا الانتقام من سواك. - إذن تشعرين بأنك اسأت إلي جدا حتى إنك تنتظرين مني انتقاما؟ - نعم؛ أسأت لك، ولكنك تستحق إساءتي؛ ولهذا لا أشك أنك تبتغي أن تنتقم مني. - نعم، يجب علي الانتقام، ولكني لم أنتقم، ولا أنتقم، ولن أنتقم، إلا بالفعل الحسن. - لم يبق عندي شك بأن سبب هذه الوشاية أنت، وحسبي أن تقر بوجوب انتقامك. - لا تعلمين ما في الخفاء يا سيدتي؛ ولهذا لا تحكمي بحسب ما يتراءى لك ... - لا تتفلسف كثيرا، ما أتيت لأعاتبك، بل لأستنطقك. ثم نهضت تريد الخروج. - إذن تعتقدين تمام الاعتقاد أني أنا الواشي؟ - لا شك عندي بذلك، ولسوف تعاقب على بلاغك الكاذب.
فضحك أحمد بك ضحكة الهازئ، وقال: حققي يا مولاتي، حققي، لعلك إذا عرفت الحقيقة تثيبينني لا تعاقبيني. - اخسأ يا وقح، علام أثيبك؟ أعلى خبثك؟ سترى.
ثم خرجت وهي تنتفض من الغيظ، وخرج أحمد بك بعدها، وفي الحال لبست ملابسها وركبت مركبتها وقصدت توا إلى القنصلية النمساوية، وسألت هناك عن الرسالة التي تضمنت الوشاية بها فقيل إنها في المحافظة، فانطلقت إلى المحافظة وطلبت أن ترى الرسالة، فرأتها وأنعمت النظر فيها جيدا فاشتبهت بخطها؛ لأنها توهمته يقارب خط أحمد بك بعض المقاربة، فعادت إلى البيت ورفعت قضية ضده تتهمه بتهمة البلاغ الكاذب.
ولكي لا نطيل على القارئ الكلام، نقول إن النيابة حققت القضية جيدا وقابلت خط الرسالة بخط أحمد بك فلم تثبت عليه التهمة فبرئ.
وكان بعد ذلك أن الأميرة نعمت عزلت أحمد بك من وكالة أملاكها وأملاك أخيها، وإنما بقي وكيلا لأملاك الأمير عاصم، وهو لم يبق لذلك العهد وكيلا على أملاك الأسرة كلها، إلا لأنه كان غيورا جدا على ذلك البيت، ولم يوجد أصلح منه لهذه الوكالة، ولأنه كان الخبير الوحيد بجميع أملاك الدائرة؛ ولهذا اضطروا أن يستبقوه بالرغم عن استعفائه مرارا؛ لأنه كان غنيا عن هذه الخدمة.
الفصل السابع عشر
أما سألت عني؟
لا بد أن يدرك القارئ من نفسه كيف كانت حالة الأمير نعيم حين غادر القطر المصري هائما على وجهه من شدة الحزن والغم والغيظ. لم يقتنع في أول الأمر أن جوزفين قد خانته لما كان بينه وبينها من الحب العجيب والولاء الثابت والإخلاص النقي، ولكنه لم يستطع أن يئول رسالتها وغيابها تأويلا يقبله العقل. وكان أقاربه يقنعونه أنها خانته، وأن مثل هؤلاء الفتيات خادعات ماكرات، وذكروا له شواهد عديدة عن مكرهن، وقصوا عليه حكايات مختلفة جرت لأشخاص معروفين مع أمثال جوزفين، وأقنعوه أنه لطيبة قلبه جازت عليه حيل جوزفين في حبها له واستيلائها على قلبه وثم على قصره وماله.
ولما تواترت أقوالهم بأنها خائنة لم يعد في وسع نعيم إلا أن يسلم بأنها خائنة، وبالتدريج انقلب كل غرامه بها إلى انتقام حاد، حتى إنه لم يعد يستطيع البقاء في القطر المصري ملتحفا بعار خيانتها، فبرح إلى أوروبا أولا لكي يروح نفسه من عناء هذه الأزمة، وثانيا لكي يعد نقمة لجوزفين تليق بصفاته وأخلاقه الطيبة.
فيرى القارئ الكريم أن مشروع الأمير عاصم نجح نصفه الأول؛ أي تفريق جوزفين عن الأمير نعيم، وأخفق نصفه الثاني؛ أي تقريب أخته الأميرة بهجت إلى الأمير نعيم، بل بالحري ازداد تنائيا؛ لأن الأمير نعيما التهى عن كل الناس بأحزانه وغمومه التي لم يكن الأمير عاصم لينظر بلوغها هذا المبلغ، وقد علم القارئ أنه أخفق أيضا في امتلاك فؤاد الأميرة نعمت وقطع الأمل من الحصول على يدها؛ ولذلك صمم على إفراغ جعبة نقمائه الخفية من نعيم ونعمت. وقد عرف القارئ كيف أن أحمد بك رد سيف نقمته عن الأميرة نعمت وجوزفين في وقت واحد.
وقد تنقل الأمير نعيم بين مدن أوروبا بغية أن يسرى عنه، فلم يكن إلا ليزداد غما ولوعة؛ لأن غيظه كان مقرونا بالحزن، ووجده على جوزفين مشفوعا بالغيرة، ولأنه ما زال لذلك العهد يحبها بعض الحب، ولكن نفسه الأبية تنكر عليه أن يصفح عنها.
وفي ذات يوم وهو في باريس وردت إليه بطاقة زيارة باسم جوزفين؛ إذ كان نازلا في فندق رويال، فلما وقع نظره على البطاقة جعل بدنه يرتعش وقلبه يختبط في صدره وصعد الدم إلى رأسه حتى اعتراه صداع شديد، فحار ماذا يعمل، فخاف أن ينزل إليها ويبتدرها بضربة قاضية، وافتكر أن يستقبلها في غرفته لكي يؤنبها ويهينها، فخاف أيضا أن لا يتمالك نفسه ويضربها.
فقال لخادم الفندق: قل للسيدة صاحبة هذه البطاقة أن تختفي من أمام وجهي لئلا تضطرني إلى ارتكاب جناية، وما خلصها من نقمتي الهائلة إلا وجودي في بلاد غريبة لا نفوذ لي فيها.
والذي يسمع هذا الكلام يتوهم أن الأمير نعيما رجل سفاك دماء وعدة شر، ولكن الذي حنكته الأيام يعلم أن كثيرين من الناس يقولون ولكنهم عند الجد لا يفعلون، ولا سيما طيبو القلب؛ فإنهم في عزلتهم وخلوتهم يستشيطون متغيظين ويحرقون الأرم غاضبين، ولكنهم متى قابلوا خصومهم بشوا لهم؛ لأن قلوبهم توحي إليهم أن المسألة أفضل.
وقد كان الأمير نعيم من هذه الفئة، ومع ذلك كان غضبه - بل وجده وغيرته - أشد من أن يقبل التسامح، فلما بلغ إلى جوزفين كلامه وهي في بوابة الفندق ارتج فؤادها، وشعرت كأنه سقط من بين جنبيها ووقعت في مكانها، فأنهضها الخادم وأجلسها على كرسي، وقال: خففي عنك يا سيدتي، لعل هذه الساعة ساعة بؤس عند الأمير، فالتمسيه في ساعة رضى.
وقد توسم الخادم من ملامح جوزفين أنها مظلومة، فرثى لها وطيب خاطرها، ولما انتعشت ركبت مركبة ويممت فندق إيطاليا حيث كانت نازلة.
أما الأمير نعيم، فقضى ذلك النهار يتلظى على نار غيظه ووجده، وافتكر عدة أفكار في الانتقام من جوزفين بالطرق الشريفة التي تزيد ندمها وتلوع قلبها بنار الغيرة، ولما جاء إلى الفندق في المساء وجد بين رسائله رسالة هذا نصها:
عن فندق إيطاليا نمرة 6
مولاي
أنت الحاكم وأنت الحكم، فأذن لعبدتك أن تمثل لديك لتسمع دفاعها عن نفسها، وثم لك أن تحاكمها كما تشاء وتحكم عليها بما تشاء.
جوزفين
فتأمل الأمير نعيم هذه الرسالة، واستوقفته هذه العبارة: «لتسمع دفاعها عن نفسها.» وقال في نفسه: إن التي قدرت أن تخدعني بضع سنين لا تعجز عن إتقان الدفاع وتمويه الحقيقة علي، ثم طوى الرسالة ووضعها في ظرف عنونه باسم جوزفين ورماه في صندوق البريد.
وكان في اليوم التالي أشد تغيظا من كل الأيام؛ لأن الغيرة «كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله.» فكانت غيرته تتقاوى وتتعاظم حتى صارت لهيبا جهنميا، فقضى ذلك النهار طائفا بين الحانات، ولما عاد عند المساء إلى الفندق كان يتوقع خبرا من جوزفين، فصدق ظنه إذ وجد رسالة منها عرفها من خط عنوانها، فلم يفضها، بل شطب عنوانه الذي عليها وعنونها باسم جوزفين ورماها في صندوق البريد، وهو يحسب أن هذه الطريقة تغيظ جوزفين وتنكيها وتروي غله.
وكانت هذه الرسالة تشتمل على تفصيل حكاية جوزفين وما جرى لها، منذ قبلت دعوة مدام ببيني إلى أن وصلت إلى باريس، فلما عادت الرسالة إليها غير مفضوضة اقتنعت أن الأمير نعيما يرفض أقل صلة بها رفضا باتا، ويئست من الوصول إليه لكي تبسط ظلامتها له، وانزوت في غرفتها تنحب وتطلب الفرج من الله وحده.
أما الأمير نعيم فقضى اليوم التالي كاليوم الغابر بين الحانات، وهو قلق القلب والجسم والضمير، وكان ينتظر أنه متى عاد إلى الفندق في المساء يرى جوزفين عند الباب فتتواقع على قدميه، وجعل يفكر في كيف يتصرف معها متى رآها على هذه الحال، وصمم على أن يخطف قدمه من بين يديها ويمضي تافلا عليها ويختلي في غرفته ولا يفتح لها الباب مهما قرعت، وكان يتطوح في مثل هذه التصورات فينشرح صدره لها.
ولما كان المساء جاء إلى الفندق وشغل نفسه بالكلام الفارغ مع البواب آملا أن تشعر جوزفين بقدومه فتخرج إليه من القاعة التي إلى جنب الباب، فلم يخرج أحد كما انتظر، فسأل البواب: أما أتت سيدة سألت عني اليوم؟ - أتت سيدات كثيرات، فلا أدري إن كانت إحداهن قد سألت عنكم.
فدخل الأمير نعيم إلى الفندق واجتاز في مماشيه إلى أن وصل إلى القاعة الكبرى، وأطل إليها بدعوى أنه يبحث عن صديق، فلم يجد جوزفين بين الجلوس، فتقدم إلى غرفته وفحص بريده رسالة رسالة فلم يجد فيه واحدة من جوزفين، فاشتعل قلبه غيرة فعاد من غرفته وقصد إلى الخدم يسألهم واحدا واحدا: «أما سألت عني سيدة اليوم؟» فكان جواب الكل: «لا».
قضى الأمير نعيم ذلك المساء حائرا متلهبا بنار الغيرة والوجد، وفكر طويلا في الطرق الموافقة لاجتماعه بجوزفين وإحراق قلبها بنار احتقاره، فافتكر أن يقصد إليها في فندق إيطاليا، ولكن عاد ورأى أن هذه الفكرة من أسخف الفكر؛ لأنه إذا كان قد رفض مقابلتها في فندقه، أفيسعى إلى مقابلتها في فندقها؟ فآثر أخيرا أن يطوف الحانات والملاهي في ذلك الليل لعله يعثر عليها اتفاقا، ولكن فأله هذا خاب أيضا؛ لأن جوزفين أبت أن تبرح غرفتها حزينة يائسة، وفي آخر هزيع من الليل عاد إلى غرفته كئيبا حزينا، وما نام ساعتين أو ثلاثا حتى شق الفجر حجاب الظلام، وأيقظته ضوضاء حركة العمران، فنهض من سريره وطلب فطورا وأكل، وبقي ينتظر تارة قدوم جوزفين إليه وأخرى البريد، إلى أن وافى بريد الصباح فلم يجد فيه حرفا منها، فهاج خلقه، ولكنه بقي آملا أن تقدم إليه قبل الظهر، فجعل يلاهي نفسه حتى الساعة الحادية عشرة فخاب فأله.
وكان يفكر في قدومها إليه أول مرة، وفي جوابه لها، فشعر أن الكلام الذي أرسله إليها سم زعاف، ولكنه غالط نفسه في ما قال ولم يعد يذكر صيغة ذلك الكلام، فاستدعى الخادم الذي لقنه إياه واستعاده إياه، فأعاده عليه كما ذكر، فأكل أصابعه ندما على رميها بتلك النبال الصوائب، ثم أسف كل الأسف على رد رسالتها الأخيرة قبل أن يقرأها؛ لشعوره بأنه ظلمها بعدم قراءتها؛ إذ لربما تشتمل على معذرة صادقة لها، أو على ما يحرجه إلى إرسال جواب لها يروي غليله من تقريعها وازدرائها. وأخيرا اشتد وجده واضطرمت غيرته، فصمم على أن يقصد إليها في فندق إيطاليا، فلبس ملابسه وركب مركبة وأمر الحوذي أن يعجل إلى فندق إيطاليا، وبينما المركبة تدرج إذ خطر له أن ينثني عن عزمه، فأمر الحوذي أن ينثني ففعل، ثم عاد فغير فكره فأمر الحوذي أن يعود إلى فندق إيطاليا، فأدار مركبه إلى الطريق المؤدي إليها، وكان وجه الأمير نعيم يتلهب حينذاك وقلبه يخفق، وما كادت المركبة تصل إلى الفندق حتى رأى بعض السيدات والرجال يخرجون ويدخلون من البوابة، فظن أن جوزفين بينهم فأمر الحوذي أن يعود في الحال، فعاد إلى إحدى الحانات، وهناك عدل عدولا تاما عن أن يقصد إلى جوزفين في فندقها، وصمم على أن يتجلد في جفائها ويصبر على هجرها، إلى أن تبيح له التقادير أن يلتقي بها وينال أمنيته من احتقارها وخزيها.
وبقي كل يوم يتوقع خبرا أو رسالة أو زيارة منها فلم ينل، وأمل أن يصادفها في بعض الأحيان في أحد الملاهي أو إحدى الحانات أو المتنزهات، فلم يتحقق أمله إلا بعد بضعة أيام؛ إذ كان في مركبته في غاب بولونيا فصادفها تتمشى مع صديقة لها، ولكنها لم تره فأوشك أن يناديها، وقد تحركت شفتاه بالحرفين الأولين من اسمها، ولكن إباء النفس أصمته في الحال، وبعد أن بعدت المركبة عدة أمتار أسف لعدم رؤيتها إياه، فأمر الحوذي أن يدور من طريق أقرب لكي يلتقي بها، فأجاب الحوذي طلبه، وبعد بضع دقائق كانت المركبة تستقبلها، ولكنها ما انتبهت إليه إلا وقد صارت المركبة إلى جانبها، وهي ناظرة إليه نظر الضراعة، فلم تمهلها المركبة أن تفوه بحرف. أما هو فكان يصوب نظره إليها من بعيد إلى أن رآها رفعت نظرها فيه وشعر أنها انتبهت إليه، فخطف نظره عنها، ولكن أمائر الاضطراب كانت واضحة في ملامح وجهه.
وما بعدت المركبة قليلا حتى خطر له أن يعود؛ لأنه لم يرو غليله، فأمر الحوذي أن ينثني، وما انثنى الحوذي حتى عدل عن هذا الفكر؛ لأنه رآه سخيفا، فأمره أن يعود إلى سبيله الأول، ثم استأنف مسيره إلى إحدى الحانات العظمى، وهناك جعل يفكر في خطة يختطها لنكاية جوزفين وقتلها غيظا.
ولو استفسرت قلبه عن معنى حنقه هذا، لقال لك: أود أن يميتها وجدي عليها وثم يحييها حبي لها.
وأخيرا خطر له أن يتخذ صديقة يركب معها كل مساء إلى غاب بولونيا، آملا أن تراهما جوزفين معا فتذوب غيرة.
وفي مساء اليوم التالي قصد إلى غاب بولونيا ليرى إن كان يصادف جوزفين فيه في ذلك الموعد، فيعلم أنها تختلف إلى هناك فيكون الغاب موعد التقائهما المتفق عليه ضمنا.
ولا ريب أن القارئ يتوقع أن يصح حساب الأمير نعيم لظنه أن جوزفين تحسب مثل هذا الحساب، وتؤمل أن تصادف الأمير في الغاب في ذلك الموعد، ولكنها لم تمض إلى الغاب. لماذا؟ لأن المرأة أجمل صبرا وأعظم تجلدا من الرجل، فهي وإن كانت قد يئست من رضاه نظرا لرفضه البات مقابلتها ورسالتها، ما زالت تحبه كل الحب وتتمنى لقاءه ولو في إبان غضبه، ولكنها اعتقدت أنه صار يستنكف رؤيتها ويتجنب أقل صلة بها تجنب السليم الأجرب، فصارت تتحاشى التعرض له مخافة أن يستاء منها.
وما فتئ الأمير نعيم يذهب كل مساء إلى غاب بولونيا أملا أن يصادف جوزفين، وقد صمم أن يتحرش بها إذا صادفها؛ ولهذا كان يصل إلى الغاب ويترك مركبته ويتمشى برهة طويلة، وأحيانا كان يبكر إلى هناك حتى يكاد يكون أسبق الناس إلى الغاب.
وحدث بعد بضعة أيام أن صادف جوزفين عن بعد قبل أن تراه؛ لأنها اعتادت أن تمشي مطرقة، فعزم أن يستوقفها إذا لم تستوقفه ويكلمها إذا لم تكلمه، فكان يتمشى على نفس الجانب الذي تتمشى هي عليه بغية أن يلتقيا، ولكنه ما أصبح على بعد بضعة أمتار منها حتى صار على الجانب الآخر، فلمحته مبغوتة، ووقفت كأنها تلتمس مقابلته، فشمخ وأعرض عنها ذاهبا، فقالت: «مولاي نعيم! كلمة واحدة فقط! ارحمني وائذن لي بكلمة.» فهز رأسه هزة رحوبة وأسرع خطاه كأنه يهرب من عدو، فتوهمت أنه يهرب من عار يلحق به إذا قابلها، وما ابتعد مسافة حتى جعل يلكم رأسه لعدم التفاته إليها، وأكل أصابعه ندما وعزم على أن يتعرض لها في مرة تالية ويشفي غليله من لعنها وتقبيحها.
ولما عاد إلى غرفته في المساء خطر له أن يكتب إليها ويستدعيها إليه لكي يسمع عذرها، فجلس إلى المكتب وجعل يكتب تارة ويمحو أخرى، وينسخ حينا ويمزق آخر، إلى أن وفق إلى كتاب فعنونه وألصقه وخرج ليرميه في صندوق البريد، فلما وصل إلى الصندوق عدل فعاد إلى غرفته والرسالة بيده، وجلس برهة يفكر ثم قرر أن يرسل الرسالة فخرج ورماها، ثم عاد يفكر في نتيجة إرسالها، فرجح في يقينه أن إرسال رسالة لها يعد تنازلا عظيما منه يعاب به، فندم ونهض حالا إلى الفندقاني وترجاه أن يفتح الصندوق ويرد له الرسالة قبل أن يرمي الرسائل في صندوق البريد خارجا، وهكذا استرد الرسالة.
الفصل الثامن عشر
الحية الثانية
أما جوزفين فقد اهتدت على الأمير نعيم بعد وصولها إلى باريس، إذ جعلت تطوف الفنادق الكبرى وتسأل إلى أن عثرت على اسمه في فندق رويال، فقصدت إليه في الصباح وطلبت مقابلته، فأبلغها ذلك الجواب المر مع الخادم، ثم رد رسالتها الأولى بعدما قرأها والثانية من غير أن يقرأها، فتأكدت أنه يأبى أن يتصل بأي شيء يخصها، بل ظنت أنه صار يحسبها عارا ودنسا له، فصارت تتحاشى أن تتعرض له إشفاقا على إحساساته، ولما صادفته في غاب بولونيا مرتين ورأت أنه كان ينفر من رؤيتها تأكدت أنه لم يعد يريد أن يعرفها مهما يكن أمرها، ولا سيما لأن الرجل الذي أنقذها من سجنها - أحمد بك - أخبرها أن كل أسرته ناقمون عليها، وأنهم شكروا الله على ابتعادها عنه، وظنت أن الأمير لم يعد يحبها، بل إنه ندم على علاقته السابقة معها، وصار يود أن ينسى تلك العلاقة. وقد تعاظمت هذه التصورات في يقينها لما عاملها به من الجفاء الحاد، فيئست من استرضائه حتى ولو أقنعته ببراءتها؛ لظنها أن ذوي قرباه يحتمون عليه برفضها بتاتا.
نعم؛ إن جوزفين قنطت تمام القنوط ويئست تمام اليأس واعتصمت بالصبر، ولكن بقي شيء واحد يحرق قلبها، وهو توهم الأمير نعيم أنها خائنة في حين أنها مظلومة بتوهمه هذا، وأنها قاست في سبيل أمانتها له ما لا يحتمل، فصارت تفكر في طريقة لإطلاعه على قصتها كما هي، فخطر لها أن تكتب له مرة ثالثة وتعنون الرسالة بخط غيرها لكي لا يردها من غير أن يقرأها، بيد أنها رأت أن هذه الطريقة غير مضمونة أيضا؛ لأنه متى فتح الرسالة ورأى أنها منها ردها من غير أن يقرأها، أو أنه إذا قرأها فقد لا يصدقها؛ لأنه خلو من البراهين المحسوسة، ولا يكون لها التأثير الذي لكلامها هي شخصيا.
وقد عرف القارئ أن الأمير نعيما رأى جوزفين لأول مرة في غاب بولونيا مع صديقة لها، فهذه الصديقة كانت تضارع جوزفين جمالا وتسمى «المدموزال ماري جوتيه»، وقد نزلت في فندق إيطاليا بعد نزول جوزفين فيه، وبالرغم من اعتزال جوزفين في غرفتها اكتفاء بأحزانها وبكائها، كانت تتحرش بها وتتحبب إليها وتلاطفها وتؤانسها حتى استمالتها إليها وأصبحت صديقتها، وكانت المدموزال جوتيه تدعي أنها فتاة غنية من غرينوبل يتيمة الأب، وأنها تقضي بعض الفصول في باريس بغية النزهة وترويح النفس، فاستأنست جوزفين بها، وصارت المدموزال جوتيه تغريها على الخروج من غرفتها والتنزه حرصا على صحتها وسلامتها، وبالتدريج امتلكت ماري قلبها ووثقت تلك بها، وصارتا صديقتين حميمتين، فجعلت كل واحدة تستطلع أسرار الأخرى، حتى أفرغت جوزفين جعبة أخبارها لماري وقصت عليها كل تاريخ حياتها كما هو، وكانت كلما ذكرت لها اسم الأمير نعيم تشفعه بالثناء والتحبب، ولا تغفل عن وصف حسن له حتى صورته مثال الفضيلة وعنوان الرجولية، ولما صادفته في غاب بولونيا قالت لها: «هذا هو.» وهي تتوسل أن يسمح لها بكلمة تقولها له.
ولما وثقت جوزفين تمام الثقة من صديقتها ماري جوتيه قالت لها: بربك! ألا تذهبين إلى الأمير نعيم تستعطفينه أن يسمح لي بمقابلته مرة واحدة وبعدها له أن يفعل بي ما يشاء؟ له أن يقتلني، أو أن يدحرجني عن الدرج، أو أن يطردني طردا؛ فإني مستعدة أن أقبل كل شيء منه بالسرور. - لبيك يا عزيزتي، وحقك إني لا أعود من عنده إلا وقد استرضيته عليك. - لم أعد أطمع برضاه بعد الذي رأيته من جفائه، بل بالأحرى أشعر أني عار له في عيني أهله وأصدقائه؛ لأنهم متعصبون جدا لجنسيتهم وحسبهم ودينهم، فتغيظوا جدا لما عرفوا أني حليلته، وهو الآن يشعر براحة وسرور في حله من قيوده بي، فلا آمل أنه يعود فيقيد نفسه بتلك القيود، وإنما جل غرضي من الاجتماع به أن أبرهن له عن براءتي التي لم يعلم بها حتى الآن. - ثقي يا حببتي جوزفين أني أبرهن له عن براءتك، وأقنعه بصدق حكايتك، وأستأذنه أن يستقبلك. - بارك الله بك يا عزيزتي! إني أمتن لك كل الامتنان. - أين أجده؟ - في فندق رويال.
في صباح اليوم التالي قصدت ماري جوتيه إلى الفندق، وأرسلت بطاقة الزيارة إلى البرنس نعيم، فاستقبلها في قاعة الفندق، فما لبثت أن جلست حتى فاتحته بالحديث قائلة: سيدي الأمير، أراك قاسيا جدا في معاملة السيدات. - عفوك سيدتي، لماذا تقولين هكذا؟ - لأني رأيت معاملتك للسيدة جوزفين فوق ما يحتمله رجل من امرأة، فكيف تستطيع أن تحتمله المرأة الضعيفة من الرجل القوي؟
فاعتدل الأمير في كرسيه، وقال: أمن قبل جوزفين أنت آتية يا سيدتي؟
فابتسمت ماري ابتسامة تهكم وتقريع قائلة: كلا، بل من قبل نفسي. - عفوك يا سيدتي، لقد أسأت التعبير. - لا بأس، أتيت إليك لأتشفع عندك بجوزفين، فإنها مسكينة وقد ندمت كل الندم على كل ما فرط منها في الماضي، وعرفت أنها مخطئة خطأ لا يغتفر، ولكن إذا كان الله يقبل التائبين فعبيده الصالحون يغتفرون للمسيئين إليهم المستميحين منهم. - إني أشفق على جوزفين يا سيدتي كل الإشفاق وأسامحها؛ لأني كنت أحبها، ولكني لا أقدر أن أقبلها؛ لأن قبولها عار علي، ألا تعلمين أنها كانت زوجتي بغير رضى أهلي وأقاربي؟ - كلا، بل قالت لي إن أهلك كانوا يعبدونها عبادة. - كاذبة، إني عبدتها بالرغم من إرادة أهلي، ومع ذلك خانتني أي خيانة حتى جلبت علي عارا لا يمحى، فكيف أستردها؟! أأسترد خائنة؟! والله إني إذا قابلتها مزقتها إربا إربا.
وعند ذلك لم يتمالك الأمير خلقه، فاستشاط غيظا وحرق الأرم، فسكنت المدموزال ماري جوتيه طبعه ما استطاعت قائلة: لم أكن أظنها تكذب يا مولاي؛ لأني توسمت من كل حرف من كلامها كل الصدق والإخلاص، فإذا كان الأمر كما تقول فإني أعذرك، وإن كنت أشفق عليها. - نعم، كما قلت لك يا مدموازيل، وإن كنت أشفق فلأني طيب القلب جدا، ومع ذلك إلى الآن لم أعرف حقيقة فرارها، سوى أنها أرسلت لي رسالة مختصرة تقول فيها أن لا أتعب في البحث عنها؛ لأنها صارت لسواي، وذلك لأن للمرأة كل يوم هوى جديدا. - أكذا كتبت لك؟ - نعم. - عجيب! قالت لي إنها كتبت لك مرة واحدة فقط أن شابا إيطاليا أغرم بها فاحتال عليها واختطفها، وثم سجنها في بيت له، والتمست منك أن تخلصها، ثم قالت لي إنها لما رأتك قد أغفلت أمرها فرت مع ذلك الشاب إلى أوروبا، وفي هذا العهد الأخير تركها ذلك الشاب بعد إذ أعطاها نقودا، وكانت قد رأتك هنا فجعلت تبحث عنك حتى اهتدت إليك، وكان ما كان من جفائك لها. - عجيب! متى تعلمت هذه المخلوقة الكذب؟! لا أعهدها تكذب قط، إذن تقر أنها رافقت شابا إيطاليا؟! - نعم. - لقد زدتني تحذرا منها، كنت أشفق عليها وأود لقاءها لكي أعاتبها، أما الآن فإني أحتقرها جدا وأود أن أنساها؛ لأن امرأة دنيئة إلى هذا الحد لا تستحق شيئا من اهتمامي، كنت أظنها ترافق أميرا أفضل مني ... - كلا، ما هو إلا إيطالي محتال، وقد خدعها على ما قالت لي، والحق يا مولاي إني أعذرك كل العذر في جفائها والترفع عنها لأنها خائنة؛ إذ لم تعرف قيمة النعمة التي حصلت عليها إلا لما أفلتتها من يديها، ولات حين استردادها.
والحق يقال إن حديث المدموازيل جوتيه نزل ماء باردا على قلب الأمير نعيم؛ لأنه كان إلى ذلك العهد يجل جوزفين؛ إذ لم يكن يعلم قصتها، فكان يتوهم أن يدا أعظم من يده غالبته في اجتذابها، فلما علم الحقيقة رأى أنه يعنى ببغي رجسة لا تستحق شيئا من عنايته، ولا من إشفاقه وحبه، حتى ولا من انتقامه، فانصرف وجده عنها، وانقلب قلبه عن مصافاتها.
وبعدما انتهيا من الحديث الطويل عن جوزفين، وكله بالمعنى السابق، أخذ الأمير نعيم يتعرف المدموازيل ماري جوتيه، فأخبرته أنها كانت ممثلة في بعض الملاهي الشهيرة، ولما أوشكت تنال شهرة نصح لها الطبيب أن تعدل عن هذه المهنة حرصا على سلامتها؛ لأن التمثيل يؤذي مجموعها العصبي جدا.
وقد أجادت ماري في محادثة الأمير ومجاملته حتى جذبته إليها قليلا، وصارا صديقين والتمس منها أن يلتقي بها حينا بعد آخر فوعدته.
الفصل التاسع عشر
إضرام الغيرة أشد انتقام
ولما عادت ماري إلى جوزفين وجدتها كأنها على جمر الغضا تنتظر بشارة، فابتسمت، فقالت لها جوزفين: أرى على وجهك بشرا، ألعله بشارة؟ - بشارة إن شاء الله، لقد صدق ظنك يا عزيزتي جوزفين، فإني أخبرته مجمل قصتك فصدقها في الحال ورثى لك جدا وتمنى كل خير لك، ولكنه قال إنه لا يستطيع أن يقبل أقل صلة بك بعد الآن؛ لأن أقاربه عيروه جدا بعلاقته معك، وأنكروا عليه استردادك ولو ثبتت براءتك. - أما استأذنته أن أقابله مرة واحدة فقط؟ - ألححت عليه جدا بذلك، فقال إنه ليس في وسعه. - إذن اقتنع أني بريئة؟ - بالطبع، والحق أقول لك إنه جميل الخلق والخلق، بل هو أكثر مما وصفت، فلا أستغرب ترفعه عليك بعد الآن؛ لأنه بالحقيقة أمير، بل أمير الأمراء.
فابتسمت جوزفين وقالت: لقد ارتاح بالي بعض الراحة والحمد لله، على أني لا أقنط من الاجتماع به ولو مرة واحدة، وبعدها أدخل إلى الدير وأمارس وظيفة ممرضة كما صممت أن أفعل إذا أصر الأمير على تكذيب عذري.
وقد صدقت جوزفين كلام ماري جوتيه بحروفه؛ لأنها كانت تثق بإخلاصها وتنظر إليها نظرها إلى فتاة نبيلة، أما ماري فخافت أن تذهب جوزفين إلى الأمير ويؤذن بمقابلتها، وثم يتفاهمان ويبان كذبها هي؛ ولذلك جعلت تفكر في كيف تتلافى ذلك، وتستميل الأمير إليها وتحجبه عن جوزفين، فما كان منها إلا أنها أسرعت إليه وجعلت تتودد إليه وتتحبب له بغية أن يتخذها محظيته في باريس.
وقبل أن تغتنم جوزفين الفرصة المناسبة لالتماس مقابلة الأمير، تركت ماري فندق إيطاليا ونزلت في الفندق الذي ينزل فيه الأمير، بغية أن تكون قريبة منه ومستسهلة الوصول إليه.
وقد شعر الأمير بميل إليها واستحسن جمالها واستعذب لسانها؛ لأنها كانت داهية، وقد عرفت من أين تؤكل الكتف.
وفي تلك الأثناء ذهبت جوزفين في الصباح إلى فندق رويال آملة أن تستعطف الأمير وتتوسل إليه أن يقابلها، فكتبت إليه بطاقة وجعلت تنتظر في قاعة الفندق السفلى. وهذا نص بطاقتها:
حضرة الأمير نعيم بك صدقي
إن التي تعبدك تؤمل أن تكون قد صفحت عنها الصفح التام؛ ولهذا تنتظر في قاعة الاستقبال نعمة مقابلتك إياها مرة واحدة فقط في بقية حياتها.
جوزفين
ولما وصلت هذه البطاقة إلى الأمير كانت ماري عنده، فتناولتها منه بما صار لها عليه من الدالة، وقرأتها وقالت له: أتستقبلها؟! - ما رأيك؟ - لا أدري، أنت تعرف تأثير مقابلتها على مقامك وشرفك.
وكان في نية الأمير أن يستقبلها؛ لأن غضبه الحامي كان قد برد بعد سماعه كلام ماري جوتيه الآنف الذكر، وانشغاله بحبها الجديد، فلما ذكرت له الملاحظة الأخيرة استنكف أن يستدعي جوزفين ويستقبلها ... - إذن ماذا تظنين أني أجاوبها؟ - ما يمليه عليك قلبك. - إني واجد عليها. - فإذن اكتب لها رقعة تقصرها حتى لا تعود إليك وتخدش أذنك بتوسلاتها. - إنها لتوسلات كاذبة؛ لأن التي خانتني يوم كنت أعبدها، لا تخلص لي بتوسلها يوم أمقتها.
وعند ذلك جلس إلى مكتبه وكتب بالإفرنسية ما معناه:
إلى متى يا خائنة تخادعينني؟! عني، فما أنا ممن يغطون العار بالعار! إن جسرت على الدخول علي أو على التعرض لي أحرجتني إلى ارتكاب جناية!
وكانت ماري واقفة وراءه ويدها على كتفه تقرأ ماذا يكتب، فقالت له: إنك قاس جدا يا حبيبي نعيم، صرت أكره هذه المرأة لأجلك، ومع ذلك أشفق عليها من هذا الجواب المر بل المحرق. - ما أطيبك يا ماري! (وقبلها) ماذا ترين أن أكتب لها؟ - ليتك تكتب ما أملي عليك.
فجعلت تملي ما يأتي، وهو يكتبه:
حسبي ما تحملته من تعيير أهلي لي بسببك، فلا تحملينيه بعد، امضي بسلام وإلا أحرجتني إلى ما لا تحمد مغبته.
نعيم
فقال لها: ولكن ليس في هذا الجواب إشارة إلى خيانتها. - وهل تجهل هي خيانتها؟! على أنها مفهومة ضمنا من الفقرة الأولى وأنت لا تود أن تصرح بها؛ لأن التصريح يؤلمك. - صدقت.
ثم طوى الورقة وغلفها وعنونها وأرسلها إلى جوزفين.
ولو لم تكن ماري جوتيه حينئذ عند الأمير نعيم لظفرت جوزفين بمقابلته، وربما أقنعته ببراءتها وكشفت له أكاذيب ماري، على أن هذه الفتاة الماكرة حسبت هذا الحساب؛ ولهذا انتقلت إلى فندق رويال، وجعلت تجتمع به ما استطاعت لكي تحجبه عن جوزفين، وبهذا الجواب الذي أملته ليرسله إلى جوزفين أجابت غرضين؛ الغرض الأول: أنها أبقت لكل من جوزفين والأمير نعيم اعتقاده في الآخر؛ أي إن جوزفين ظلت تعتقد أن الأمير نعيما عرف خبر سجنها وما جرى لها واقتنع أنها بريئة، والأمير نعيم ظل يعتقد أنها خائنة لا تستحق الرحمة. والغرض الثاني: أنها - أي ماري - برهنت للأمير نعيم أنها طيبة القلب سليمة النية.
وإذا شئت أن تعرف السر الذي يميز الداهية عن الجاهل، أو يفرق السياسي المحنك عن الرجل البسيط فما هو إلا إتقان الكذب، وما إتقان الكذب بصعب إذ كان الضمير يسكت ولا يحرك ساكنا، دلني على واحد من الذين اشتهروا في هذا القطر - خصوصا - بالدهاء وحسن السياسة في معاملة الناس والمهارة في استدرار الأموال، وأطلعني على تاريخ حياته الحقيقي، وأنا أعدد لك كل يوم ألف كذبة من أكاذيبه التي تؤذي الناس وتنفعه.
على أن الرجل الطيب القلب الصادق الأمين يعجز عن أن يستدر من المال أكثر مما يوازي تعبه هذا إذا كان من الأذكياء، وإلا فيضيع نصف تعبه عليه بين تلاعب الدهاة، ولكن هذا الطيب يعد في عرف الجمهور بسيطا أو جاهلا أو غرا.
جوزفين كانت ذكية كماري وربما أذكى، ولكن ماري كانت منافقة وجوزفين طيبة القلب؛ ولهذا عدت تلك سياسية محنكة وهذه بسيطة جاهلة، وتلك فازت على هذه، ولا سيما لأن الأمير نعيما طيب القلب تجوز عليه الأكاذيب.
وحدث في أحد تلك الأمساء أن الأمير نعيما اصطحب ماري إلى غاب بولونيا، وكان يتمشى معها هناك، فصادفا جوزفين قاعدة على مقعد وحدها ورأسها على يدها، فخطر للأمير نعيم أن هذه الفرصة أفضل الفرص للانتقام منها، فقال لماري: «تعالي نجلس هنا.» وجلسا على مقعد آخر مقابل جوزفين، واتكأت ماري على ذراعه وجعلا يتحدثان غير مكترثين، فلما نظرتهما جوزفين استلقت على كرسيها واهية القوى من شدة التأثر، ولكنها ما لبثت أن تجلدت ونهضت من مكانها ومضت لا تلوي.
وكانت ماري مضطربة جدا؛ لأنها خافت أن جوزفين تتهيج جدا من هذه النكاية القاتلة، وتهجم عليها وتضربها وتعاتب الأمير نعيما وتروي له حقيقة أمرها فتفضح أكاذيب الواشية بها، ولكن جوزفين أطيب جدا من أن تقدم على شر؛ ولذلك شكرت ماري الله على ذهاب جوزفين ساكتة، ولم تعد بعد ذلك تخاف سوءا من الالتقاء بها في حضرة الأمير.
وقد استلذ الأمير هذا الانتقام فألح على ماري أن تنزل في ذلك المساء في فندق إيطاليا لكي تزورها هناك، فتعرف جوزفين بوجوده مع ماري فتحترق غيظا، فطاوعته ماري مكرهة؛ لأنها بقيت تحسب حسابا لثورة جوزفين، ولكنها استعدت للمقاومة والمغالبة بكل قواها.
ولما كانت الساعة التاسعة مساء كانت جوزفين في قاعة الفندق بعد العشاء تستريح في الشرفة متعللة بالنسيم اللطيف، فدخل الأمير نعيم وماري إلى القاعة يضحكان ويمزحان ويهزلان كأنهما مثالا حب، فانتبهت جوزفين وإذا هما في الشرفة إلى جانبها وقد أخذ كل منهما كرسيا وجلس وجوزفين واقفة، فلم تعد تحملها قدماها فوقعت على الأرض مغمى عليها تمام الإغماء، فنهض الأمير نعيم واحتملها إلى غرفتها، وطلب من الفندقي بعض المنعشات، وعالجها حتى استفاقت، فنظرت إليه وروحها في عينيها وقالت بصوت خافت وقلبها بين شفتيها: أشكرك يا نعيم. - لم أفعل إكراما لك، بل لأن الرجولية تقضي علي بذلك، فلا تشكريني. - لا أشكر لك عملك؛ لأنه لا شيء بالنسبة إلى محامدك، وإنما أشكر لك انتقامك؛ فإنه أعظم انتقام اخترعه البشر، ولكن على أي ذنب تعاقبني؟! - اسكتي يا امرأة، إني لا أعرفك.
فصرخت به جوزفين قائلة: ويلاه! ألا رحمة؟! من احتمل ما احتملت.
وانقلبت إلى جنبها ووجهها إلى الحائط غائبة عن رشدها، فتساقط الدمع من عيني الأمير نعيم ولم يتمالك نفسه عن البكاء، وكانت ماري واقفة تشاهد هذا المشهد المؤثر وقلبها يخفق جزعا، فاغتنمت فرصة انقلاب جوزفين، وأمسكت بيد الأمير نعيم، وهمست قائلة: دعها الآن، فإني أرثي لها.
فتبعها الأمير إلى القاعة، وبعد برهة سأل عن سلامة جوزفين فقيل له إنها نائمة، وعند ذلك ألحت عليه ماري أن ينطلقا إلى فندق رويال لئلا يبقى في فندق إيطاليا متأثرا، فذهبا. وفي صباح اليوم التالي صحا الأمير نعيم بعد نوم قليل مكتئب القلب جدا، شاعرا بالإشفاق العظيم على جوزفين، فبعد أن أفطر ذهب إلى فندق إيطاليا من غير أن يخبر ماري، وسأل عن جوزفين، فقال الفندقي إنها تركت الفندق في هذا الصباح إلى حيث لا يعلم، فطاف الأمير على أكثر الفنادق فلم يجد لها أثرا.
الفصل العشرون
مفتاح الأسرار
مر على هذه الحوادث نحو عشرة أعوام كانت على آل ذلك البيت الكريم متشاكلة؛ إذ لم يحدث لهم فيها أمر يستحق الاعتبار.
وكان الأمير عاصم قد قطع الأمل من الحصول على يد الأميرة نعمت هانم زوجة؛ لأنها رفضته بتاتا حتى بعد وعدها أن تتزوجه حافظة لنفسها حق عصمتها؛ ولذلك تزوج، وكذلك زوج أخته إذ يئس من ميل الأمير نعيم إليها، ومن ثم عقد نيته على أن ينتهز كل فرصة مناسبة للانتقام الخفي من الأمير نعيم وأخته الأميرة نعمت، ولكنه كان في الظاهر يتظاهر بالغيرة على مصلحتهما وطيبة القلب لهما، بالرغم مما صادف من نفور نعمت.
أما نعمت فبقيت كل تلك المدة عزباء؛ لأنها أبت أن تتزوج إلا حافظة عصمتها، ولم تجد طالبا يعجبها؛ لأنها كانت ذات أميال خصوصية.
وأما الأمير نعيم فبقي عازبا أيضا؛ لأنه أبى أن يتزوج بعد جوزفين، وندم على عدم مقابلتها بالرغم من اقتناعه بخيانتها، ولكنه اعتقد أنها تابت وأنها كانت مخدوعة أو مكرهة، وإلا لما سقطت بهذا الإثم؛ ولذلك سامحها وكان يتمنى أن يهتدي إلى مقرها، ففتش عنها كثيرا فلم يجدها.
وكان يقضي أكثر وقته في باريس، وماري سميرته وجليسته وخليلته، وكانت تنعم وتهنأ من فضله.
وأما أحمد بك فما زال وكيلا لأملاك الأمير عاصم، ومطاوعا له كأنه ريشة في يد الأمير، وبقي أيضا يلتفت لأملاك الأمير نعيم والأميرة نعمت بالرغم من نقمة هذه وغضبها عليه؛ لأنه كان معروفا بإخلاصه لبيت صدقي باشا.
وأما سنتورلي وعاصم بك فلما علما أن الشرطة لم يجدوا جثة جوزفين في قصر الأميرة نعمت، تحيرا منتهى الحيرة وفكرا طويلا في ذلك.
وخطرت لهما عدة أفكار كان أرجحها أن سنتورلي لم يحسن حقنها بالسم، فسلمت، ولما علمت الأميرة نعمت خبرها سفرتها إلى خارج مصر؛ لكي لا تبقى عارا على أخيها. •••
وحدث بعد عشر سنين من تلك الحوادث أن الأمير نعيما اعترته حمى تيفوئيدية شديدة، حتى أضاعت صوابه وصار يهذي ولم يعد يعي شيئا، واستدعى أهله أكثر الأطباء لمعالجته، وكان في مقدمتهم الدكتور ف. فلازمه معظم الوقت واستدعى له ممرضة من مستشفى أوروبي في القاهرة تدعى «سار ماري»، بذلت كل عنايتها في تمريضه، وكان إذا خفت عنه الحمى قليلا فتح عينيه ونظر إلى الممرضة، وقال: «جوزفين! جوزفين! متى أتيت إلى هنا؟! لماذا أتيت؟! من قال لك أني مريض؟! جوزفين، هل تبت؟ جوزفين، ألم تزالي تحبينني كالأول؟ جوزفين، هل صفحت عن خشونتي السابقة؟ جوزفين، أتخدمينني؟ لماذا؟!»
إلى غير ذلك من مثل هذه العبارات، ولكن «سار ماري» لم تكن تجيبه؛ لأن الكلام لغيرها، ولا سيما لأنه يهذي، وكان الدكتور يسمعه يتكلم هذا الكلام فيحسبه يهذي، وقد سأل أخته عن سبب هذيانه باسم جوزفين فحكت له موجز قصته معها.
على أن الأمير نعيما وإن كان غائب الرشد هاذيا، فإن قلبه لم يكن مختبلا كعقله، فلم تغب عليه جوزفين وإن تنكرت باسم «سار ماري» تحت ثوب الراهبة الممرضة الأسود، وغطت عينيها النجلاوين العسليتين بنظارة سوداء.
وتحرير الخبر أن جوزفين بعدما يئست من استعطاف الأمير دخلت ديرا في باريس درست فيه فن التمريض، وطلبت أن تخدم في أحد المستشفيات في مصر، فأجيب طلبها، وقد ابتغت من ذلك أن تتنسم أخبار الأمير حينا بعد آخر.
واتفق أن الحكيم ف. الذي يعالج الأمير كان حينئذ يزور المستشفى كل يوم ساعة لمعالجة أمراض خصوصية، فذكر أمام الممرضات خبر حمى الأمير نعيم وحدتها، فاضطربت جوزفين ولكنها أخفت اضطرابها في الحال، واغتنمت فرصة التمست فيها من الدكتور ف. أن يقترح على أهل الأمير نعيم قبول ممرضة له، وأن ينتدبها لهذه المهمة، فأجاب الدكتور طلبها لظنه أنها تطمع بأجرة وافرة من جراء هذه الخدمة، وكان يودها ويجلها، فأحب أن يخدمها هذه الخدمة.
ولما صحا الأمير نعيم من سرسام الحمى وخبالها لم يبق في حافظته من تذكار جوزفين إلا ظليل خيال ضعيف، فظنه وهما من تصويرات الحمى فلم يعبأ به.
ولما نقه أشار الطبيب عليه بأن يتنزه كل يوم نحو ساعة في مركبته في جهة جافة الهواء نقيته، وفي ذات عصر والفصل ربيع كان الأمير في مركبته وهي تدرج ببطء كلي في الشارع الذي يصل العباسية بقصر القبة العامر، فرأى إلى يمينه فتى في أول الشباب يمشي على موازاته وهو يمسح دموعه بعينيه، ثم لا يلبثان أن يغرورقا فيمسحهما. وبعد هنيهة أصبح وراء المركبة؛ لأنه كان يتمشى أبطأ منها، فأثر منظر هذا الفتى على الأمير جدا، وأوعز إلى حوذيه أن يتوقف، وما هي هنيهة حتى صار الفتى محاذيا للمركبة، فرآه الأمير لم يزل يبكي فشغل باله أمره، فناداه قائلا: «يا سيدي الشاب!» فالتفت الفتى إلى المركبة وأحدق في الأمير، فقال هذا له: هل تشاء أن تركب إلى جانبي في هذه النزهة فنتحادث قليلا لكي نقتل الوقت؟
وكان الفتى لا يزال يحدق بالأمير أكثر مما يصغي إليه، فقال: أشكر لطفك يا مولاي، ما أتيت لأجل النزهة، بل لأبتعد عن ضوضاء العالم وأختلي بنفسي.
فازدادت رغبة الأمير في الاطلاع على سر هذا الفتى، فقال له: إن الاختلاء يعظم حزنك يا أخي فتجنبه، ومهما يكن قصدك منه وتأثيره عليك فأرجو منك أن تخالف رغبتك هذه المرة؛ لأن لي شوقا شديدا إلى محادثة الحزانى اليوم، فإن نفسي حزينة أيضا.
وقد شعر الفتى كأن يد العناية قد رفعته ووضعته في المركبة إلى يمين الأمير، وشعر الأمير كأن فلذة من قلبه كانت مقطوعة منه فردت إليه، وكان الفتى جميل الطلعة بشير المحيا، يكاد ينبثق الذكاء من مقلتيه والطيبة من صدره، وقد لبس ثوبا بسيطا جدا طفيف القيمة، ولكنه مهندم نظيف، فقال له الأمير: أيجوز لي أن أسألك يا عزيزي ما سبب بكائك؟
وكان الفتي يكثر من تأمل الأمير، فأجابه مستحيا: ليس سبب بكائي يا مولاي سرا معيبا، وإنما هو موضوع يحاول كل امرئ إخفاءه. - إذا لم يكن سرا معيبا، فلماذا يخفيه الإنسان؟
فابتسم الفتى قائلا: لأن موضوعه عميق خفي.
فضحك الأمير لأنه أدرك حالا الموضوع، فقال: إذن السبب حب يا عزيزي.
فاستحى الفتى قليلا وقال: نعم يا مولاي. - أيجوز لي أن أسألك حكاية هذا الحب؟ لعل لي فيه رأيا عن اختبار طويل؛ لأني أحببت كثيرا في حياتي. - أحببت كثيرا؟ - من لم يحب فهو حجر. فقوي قلب الفتى على الكلام. - إني أتوسم فيك يا مولاي غوثا لي؛ ولذلك أشكو إليك أمري. - إن كنت أقدر أن أفيدك بأمر، فتأكد أني أفعل غير معبئ بكلفته، فقل ما عندك مطمئنا. - مولاي اسمح لي أن أتكلم بكل حرية. - لا تتكلم إلا بكل حرية إن كنت عليل القلب وتتخذني طبيبك. - ربيت في دير هو مدرسة للأيتام، وكنت أتعلم بعض العلوم وفن الخياطة، وبقيت أكثر سني مسرور القلب من كل ما حولي إذ لم يكن من هم يهمني، ولكني في السنين الثلاث الأخيرة كنت كل الوقت مكتئب القلب أنتظر يوم الأحد بفروغ صبر ذلك؛ لأني كنت أرى في الكنيسة فتاة من بنات مدرسة العازرية اليتامى ملكت قلبي، وقد حاولت مرارا واجتمعت بها سرا هنيهات بثثتها فيها آيات حبي الصادق، وعلمت أنها مثلي في الهوى، وما تفاهمنا صريحا وتعاهدنا على الحب الراسخ الأبدي حتى فقدتها من الكنيسة، فبحثت عنها فقيل لي إنها أخذت إلى بيت أحد الإفرنج معلمة لصغاره، فصممت على الخروج من المدرسة برضى الرئيسة أو بالرغم منها. وبالاختصار، خرجت وبحثت عن حبيبتي فعلمت أنها في منزل خياط شهير يتاجر بالأقمشة، ففرحت لهذه المصادفة وقصدت إلى ذلك الخياط والتمست منه أن أشتغل عنده فقبلني، وبعد الامتحان عين لي أجرة ريالا كل يوم، فصرت أتودد إليه، وأقضي له بعض المهام تبرعا، حتى صار يرسلني إلى منزله لقضاء بعض حاجات، وهناك قابلت حبيبتي، فدهشت إذ رأتني، وعرفت أني لأجلها تركت المدرسة وسعيت إلى لقائها، وجددنا عهد الحب، وصرت أغتنم الفرص لمقابلتها، وأخيرا صممنا على الزواج متوقعين الفرص المناسبة لذلك، واتفقنا على أن نوفر ما استطعنا من ماهيتنا لكي نعد لنا بيتا صغيرا مناسبا لحالتنا، ولكن أبى الزمان أن يبقى مغضيا عنا، فتنبه سيدنا المسيو م. ج. الذي نشتغل عنده إلى أمرنا، وعرف ما بيننا من العهود، فشق عليه أن تفترق حبيبتي عن أولاده لتتحد بي، فتأمل إلى أي حد بلغ حب النفس! فإن هذا الرجل الحيواني استسهل أن يضحي بإحساساتنا وعواطفنا على مذبح مصلحته الذاتية، فطردني من خدمته اليوم وحتم على حبيبتي أن تمتنع عن مقابلتي، وإذا رامت أن تتركه تهددها قائلا: «إنك تحت إمرتي؛ لأني مسئول عنك لرئيسة مدرستك!» إلى غير ذلك من الكلام الفارغ، فهمت على وجهي اليوم أبكي من سوء الطالع ومن ظلم البشر، فقل لي يا سيدي، هل يحق للمسيو م. ج. أن يحبس حبيبتي عنده؟ - كلا البتة، ولا رئيستها تستطيع ذلك، ولا مسيطر على الفتاة إلا أبواها. - هي مثلي لا أب لها ولا أم. - كيف ذلك؟! ألا والدان لك؟ - كلا يا سيدي، لا أعرف والدي. - إذن ربيت كل حياتك في المدرسة. - كلا، وإنما أذكر كالحلم أني كنت في عهد الطفولية في بيت فلاح، ثم أذكر جيدا أني قضيت برهة لا أعرف كم هي في بيت فخيم عظيم كنت فيه مدللا جدا، وتلك الأيام أوضح تذكاراتي الصبوية؛ لأني كنت في نعيم.
فتنبه الأمير نعيم جيدا، واعتدل في مكانه وقال: ألا تذكر أصحاب ذلك البيت؟ - أذكر امرأة لطيفة جدا كنت أدعوها أمي جوزفين ... - وهل تذكر من كنت تدعوه أبا؟
وكان الفتى يحملق بالأمير، فقال: أذكر رجلا يشبهك يا مولاي كل الشبه، كان الخدم يقولون له الأمير. - ما اسمك يا بني؟ - كنت أدعى «يوسف»، ولما أدخلت المدرسة أضافت الرئيسة إليه لفظة «العفيف». - أتسمح لي أن أسألك: أتعرف إن كان لك علامة خصوصية في ظهرك؟ - نعم، على ظهري وشم هلال.
وكان البرنس قد طوق عنقه بذراعه فقبله وقال : أنت يوسف! أنت يوسف! لقد أعادك القدر إلي، لن تفارقني بعد، ليس لي ابن فكن ابني، لم أكترث بفراقك في السابق، أما الآن وقد رأيتك فتى نجيبا رقيق العواطف طاهر القلب فلا أطيق فراقك، فكن معي سلوة قلبي الحزين، وأما حبيبتك فتكون لك وسنتفاوض بأمرها بعد، أما الآن فأخبرني كيف وصلت إلى الدير؟ - أذكر أن سيدتي جوزفين أخذتني في زيارة إلى امرأة إيطالية، وأذكر أن تلك المرأة أكرمتنا جدا في منزلها، وهناك تغلب علي النعاس فنمت، وفي صباح اليوم التالي صحوت وأنا في الدير، فبكيت وأعولت وقلت: «أين أمي جوزفين؟» فقالت لي الراهبة الرئيسة: «إن جوزفين ليست أمك.» وطيبت خاطري ولاطفتني فاقتنعت؛ لأني أعلم أن سيدتي جوزفين ليست أمي حقيقة، وفي يومين ألفت الدير وبقيت فيه. - وبعد ذلك، ألم تعد تعرف شيئا عن جوزفين؟ - كلا البتة، ولا خطر لي أن أبحث عنكم؛ لأني تيقنت أن إرسالي إلى الدير كان بأمركم لكي تتخلصوا مني. - كلا! ليس ما ظننت، والحق أن أمر جوزفين هو الذي ألهاني عن التسآل عنك. - وما أمرها يا مولاي؟ - دعه الآن فلسوف تعرفه، إن أمرها مؤلم جدا، فقد فقدتكما معا في يوم واحد، وأخيرا ... دعني من هذا الحديث المؤلم، وهلم نعد إلى القصر، والأيام أمامنا، فنتحقق كل شيء ونفعل ما نريد، فكن يا حبيبي يوسف في طاعتي فتسر. - كيف لا أكون يا مولاي كما تريد وأنت نعمتي؟! - أرى أول مهمة أكلفك بها هي أن تذهب غدا إلى الدير الذي ربيت فيه، وتتحقق حكاية إدخالك إليه بالتفصيل، وتعلم الأشخاص الذين أتوا بك إليه، وثم تخبرني، لا تدع شيئا يفوتك، يجب أن تعرف كل ما تعرفه الرئيسة عنك، أود أن أعرف كل ذلك؛ لأن سرك مفتاح سر جوزفين، ولك علي أنك لا تعود بهذا التقرير الضافي، حتى ترى حبيبتك في قصري تنتظرك، ما اسمها؟ - ماري المباركة. - واسم سيدها الحالي المسيو «م. ج.» أليس كذلك؟ - نعم. - أعرفه.
ثم درجت بهما المركبة إلى القصر.
الفصل الحادي والعشرون
رد الكيد إلى النحر
حين كان الأمير نعيم يتقلب على سرير المرض ويتقلى على نار الحمى التيفوئيدية، كان الأمير عاصم وسنتورلي مختليين في قاعة بقصر الأمير عاصم في آخر السهرة، كان الجانب الأخير من حديثهما ما يأتي: - لقد وصلت ابنة عمتي ماري جوتيه أمس، بعد أن منعتها عن الذهاب إلى قصر الأمير نعيم إلى أن أجتمع بك ونتفق نهائيا. - ماذا عملنا في الجلسة الماضية؟ أما اتفقنا؟ - لم نتفق على كل شيء. - على أي شيء لم نتفق بعد؟ - على فائدتي من هذا المشروع الجديد. - فائدتك أنت؟ أما كفى أن لابنة عمتك فائدة عظمى إذا نجحت في مشروعنا إذ تصير زوجة الأمير نعيم وحسبها ذلك؟! - ولكن أنا ماذا يصيبني من ذلك؟ - كفاك أن تكون ابنة عمتك المستفيدة. - أنا لا تهمني ابنة عمتي، ولو لم أطمع بمقاسمتها ما تستلبه من الأمير نعيم يوم دربتها إلى معاشرته والتحبب إليه في باريس لما دربتها ومددتها بالنقود، مع أنه كان الغرض الأول من كل ذلك خدمتك وخدمة أختك في هذه المسألة، وقد نجحت ماري في خدمة مصلحتك كما ابتغيت؛ إذ نفت جوزفين من قلب الأمير وأقصتها عنه ونفرته منها، ولكنها قلما نجحت في خدمة مصلحتها ومصلحتي؛ إذ لم تستطع أن تستلب منه شيئا يستحق الاعتبار، سوى بعض حلي أهداها إياها لم يزد ثمنها على ألف جنيه، فاستفدت أنت أضعاف أضعاف ما استفدناه أنا وماري، وفي هذا المشروع الجديد قد لا تنجح ماري، فماذا نستفيد منه؟ - أرجح لك أنه ينجح، وعندي أمل 80 بالمائة من نجاحه؛ لأن الأمير نعيما رقيق الإحساس جدا وطيب القلب، فمتى صحا من خبل الحمى ورأى ماري إلى جانبه تؤاسيه وتخدمه وتعنى به، فلا بد أن يتمنى رضاها، وحينئذ إذا استعملت كل مهارتها في استعطافه، فلا بد أن ينيلها كل ما تريد. - وإذا صحا وأبى وجودها عنده؟ - يستحيل ذلك؛ لأنه يستحي منها على الأقل، ثم إني أغرس في ذهنه حال صحوه من الحمى كما غرست في ذهن أخته الأميرة نعمت أنه هو كان يطلب ماري فأحضرناها له. - سلمت بإمكان نجاح ماري بالأمر، ولكن الفائدة لك منه عظمى جدا؛ لأنك من جهة تكون قد انتقمت لأختك إذ جعلت الأمير يقبل في منزله كمحظية أو كزوجة امرأة سافلة وهي من سفليات المومسات - لا تؤاخذني على هذا الكلام؛ لأنه ليس أحد سواك يعرف أنها قريبتي - ومن جهة أخرى تنتقم لنفسك إذ تعير الأميرة نعمت بزوجة أو محظية أخيها، وكم يكون فوزك عظيما حين يشتهر الأمر ويعرفه أفراد الأسرة كلهم، ولكن ما هي فائدة ماري متى أقصيت من منزل الأمير مخزية؟ - المهر الذي تتفق عليه مع الأمير. - وما فائدتي أنا؟ - يالله! ما أطمعك يا سنتورلي! - لست طماعا يا مولاي، وإنما يجب أن تكون المنافع متكافئة. - نعم، يجب أن تكون مناسبة لقدر الأتعاب في الأعمال، فما هو تعبك في هذا المشروع؟ - بل ما تعبك أنت فيه؟ والأفضل أن تقول إن المنافع مناسبة لقدر تأثير الساعين إليها، ولا تجهل أني أنا دولاب هذا المشروع، وبغير إذني وبدون تدريبي لا تقدر ماري أن تفعل شيئا. - حسبك يا سنتورلي ما انتفعته مني في الماضي، فقد أصبحت ذا ثروة من فضلي فكفاك ما حصلته. - وأنت حسبك خدمي الماضية لك. - إذن لا تخدمني إلا بأجرة وافرة؟ - من غير بد. - ألا تخدمني في مقابل امتناعي عن أذاك؟ - تتهددني؟ - إلى الآن لم أستعمل سلاحي ضدك؛ لأنك كنت لا تقنع بإنصافي لك، أما الآن فأراك تطمع جدا، فلا بد من مقاومتك بسلاح قوي. - فهمت ما هو سلاحك، سلاحك رسالة أحمد بك نظيم التي يشرح فيها لي كيف أهلكت الداية عائشة الحكيمة مولود جوزفين ومولود نعمت هانم، على أن هذا السلاح لا يخيفني جدا؛ لأنه يضر بك كما يضر بي. - لا يضر بي قط؛ لأني أدعي أني لم أعثر على هذه الرسالة إلا اليوم، وأنا براء من هذه المكيدة التي اشتركت أنت وأحمد بك فيها. - ومع ذلك لا يخيفني سلاحك قط؛ لأن عندي سلاحا ضده وقد استحضرته معي لهذه الجلسة؛ لأني من محاولتك في الجلسة السابقة علمت ما في نيتك، وتوقعت أننا نصل إلى هذه النتيجة التي وصلنا إليها.
فارتعد الأمير عاصم قليلا وضحك. - لا تضحك! انظر، ها وصية المرحوم إبراهيم الحقيقية التي هي بخط يده ولم يعرف بها أحد سواي، وقد كتمتها إلى مثل هذه الساعة، فهي تفضح الوصية التي زورتها أنت إذ قلدت خط المرحوم فيها ودسستها بين أوراقه، لا تدن مني، انظر من بعيد، ها إمضاء الأمير إبراهيم باشا صدقي وكلها بخط يده، وهي تثبت أن كل التركة للأمير نعيم وأخته نعمت هانم ولم يوص لك فيها إلا ببعض الأفدنة والبيوت، أما أنت فاستوليت على ثلث التركة زورا وخداعا، فإن كنت تتهددني برسالة عائشة أتهددك بهذه الوصية. - ألا تبادلني؟ أعطيك الرسالة فتعطيني ... - أبادلك! ولكن كم تدفع علاوة؟ - لا أدفع شيئا، مسكين! إنك مجنون، إني أجربك، فلا تظن أن لهذه الوصية قيمة وقد مضى عليها 15 عاما، ومع ذلك احفظ سلاحك معك وسلاحي معي ودعنا من مشروعنا الحاضر. - ذلك هو الأفضل؛ لأن اتفاقنا بعد الآن أصبح صعبا ولا سيما في هذا المشروع؛ لأني أراه عقيما.
وعند ذلك افترقا وبرح سنتورلي إلى منزله، وما ابتعد كثيرا عن بوابة القصر في ذلك الظلام الدامس، حتى وثب له من كمين رجل ورش على وجهه رملا ناعما جدا ملأ عينيه فلم يعد يرى شيئا، وفي الحال صرعه ومد يده إلى جيبه وأخذ منها أوراقه ومن جملتها ورقة الوصية التي عرضها للأمير عاصم قبل بضع دقائق كما علم القارئ، ثم تركه ومضى، أما سنتورلي فانشغل بألم عينيه ولم يعلم من هذا الذي باغته هكذا، وماذا ابتغى منه.
الفصل الثاني والعشرون
التعويذة
واتفق على أثر هذه الحادثة أن ذهب أحمد بك نظيم إلى عزبة ق. لقضاء أمر يخص الأمير نعيما، فاجتمع بالشيخ حسن النعمان، وكانا يتحدثان عن مرض الأمير نعيم، فجرهما الحديث إلى ما يأتي: سأل الشيخ حسن النعمان: ألا يا أحمد بك، أما عرفتم شيئا عن مقر الصبي يوسف الذي أخذه الأمير نعيم من عندي؟ فإني ما عدت سمعت عنه شيئا منذ قيل لي إن جوزفين محظية الأمير فرت به ولم يعد يعلم خبرهما، إني لا أزال أحن لذلك الصبي؛ لأني ربيته نحو ثلاث سنين. - لا وحقك لم نعد نسمع عنهما شيئا قط، ومن يعلم ما هو مصيرهما الآن؟ وعلى ذكر الصبي، ألا تعلم أين ربته المرحومة عائشة الحكيمة قبل أن أتت به إليك؟ - كلا، أظنها أخذته في تلك السن من أمه على أنها لم تقل لي شيئا قط عن أصله وفصله. - أما سلمتك شيئا يخصه؟ - كلا، لم تعطني معه شيئا البتة. - أما رأيت بين ملابسه شيئا؟ - كلا، لم يكن معه ملابس غير ما كان يلبسه؟ - ماذا كان يلبس؟ - شبه جلابية فقط، وأنا ألبسته ما بقي. - أظنك ناسيا يا شيخ حسن؛ إذ يستحيل أن تسلمك ولدا غريبا لكي تربيه من غير أن تعطيك نقودا في مقابل تربيته. - وحياة أولادي إنها لم تعطني شيئا، ولم يكن على الولد سوى جلابية - وقال الله لا تكذب - وكان في عنقه هذه التعويذة التي تراها الآن في عنق ابني هذا الصغير.
فالتفت أحمد بك إلى صبي يبلغ التاسعة كان أمام الباب يلعب، فرأى على صدره شبه حقيبة صغيرة من جلد وقد خيطت من جهاتها الأربع، وهي معلقة بخيط في عنق الصبي، فقال له: أتسمح لي بها؟ - بين يديك يا سيدي.
ونهض ففكها من عنق الصبي وقدمها لأحمد بك وهو يتمنى أن يكتفي أحمد بك بها عن التسآل، لئلا يتحقق أخيرا أن الداية عائشة زودت الصبي بالنقود والملابس اللازمة قبل أن دفعته للشيخ حسن، ولكن هذا تمتع بنقوده وألبس أولاده تلك الملابس الفاخرة.
وما لبث أن خرج أحمد بك من عند الشيخ حسن وانفرد في مكان وفتق تلك الحقيبة الجلدية واستخرج منها الورقة التي فيها وقرأ ما يأتي:
أقسم بأيماني إني أقول الحق، أوعز إلي من له السلطة والقوة والأمر أن أخنق الطفل الذي تلده الأميرة نعمت هانم وأدعي أنه ولد ميتا أو مات بعد الولادة، وبسبب الحداد على الأمير صادق زوج الأميرة لم يكن على يدي حين التوليد رقيب أخاف وشايته على هذه الفعلة الشنعاء، فلما ولدت الأميرة طفلة أخفيتها وادعيت أنها ولدت ميتة، ثم حرصت على الطفلة في مكان أمين، ووسمت ظهرها بنجمة صغيرة علامة لها، ودفعتها للراهبات مربيات اللقطاء، آملة أن أستردها حين يتسنى لي ذلك.
ثم بعد حين قريب أوعز إلي أن أخفي الطفل الذي تلده جوزفين محظية الأمير نعيم؛ لكي لا يكون له ذرية من امرأة أجنبية، فلما ولدت صبيا أخفيته وادعيت أنه ولد ميتا، وبعد إذ هممت أن أدفعه للراهبات كما فعلت بابنة الأميرة أخته، خطر لي أن أستبقيه عندي لئلا يشب عندهن على غير دين أبيه، وندمت على تسليم البنت لهن، ولكن كان ما كان ولم أعد أستطيع استردادها، فأبقيت الصبي لكي أربيه تحت رعايتي، ولما شعرت بدنو أجلي بسبب مرض السل الذي اعتراني، وسمت ظهر الصبي بهلال صغير علامة له ودفعته لأحد الناس لكي يربيه، وعلقت في عنقه كيس جلد صغير بشكل تعويذة، وقد ضمنته هذه الشهادة الصادقة حتى إذا شاء الله رد الصبي لأبيه والابنة لأمها، ألهم الصبي أن يفتح الكيس ويقرأ هذه الكتابة.
إني أستغفر الله على ما صنعت مكرهة، ولكني قصدت الخير في ما فعلت.
الحكيمة الداية عائشة
الفصل الثالث والعشرون
ماري المباركة
بعد أن خرج يوسف العفيف من قصر الأمير نعيم لكي يمضي إلى الدير الذي تربى فيه ويتحقق حادثة إرساله إليه، ذهب الأمير إلى منزل الخواجه م. ج. فاستقبله هذا بكل حفاوة وبشاشة. - أتيت إليك يا مسيو ج. لأمر مهم جدا. - خير إن شاء الله. - كان فتى يدعى يوسف العفيف يشتغل في مخزنك. - نعم. - وكان يحب معلمة أولادك ماري المباركة. - نعم، ولأجل ذلك طردته. - لا حق لك أن تطرده لأجل أنه أحب الفتاة لكي يتزوجها. - ولكن الفتاة لا تحبه. - أرجو منك إذن أن تستدعي الفتاة إلي، فإن صرحت لي بعدم حبها له عدت كما أتيت ... - ولكن! - لا لكن ولا غيرها، لا يحق لك أن تحجب الفتاة عن مقابلة أحد لأمر يهمها؛ لأن ذلك يخالف الشريعة. - وإذا فعلت؟ - أستصدر أمرا رسميا بذلك.
ففكر المسيو ج. هنيهة وهو مرتبك، ثم قال: أقول لك الحق، إني لا أرى بينهما تكافئا فأشفقت على الفتاة؛ لأن حال الفتى لا تساعده على الزواج. - بل ظلمتها؛ لأنها راضية بحاله وما أنت ولي أمرها، ثم إن حال الفتى أحسن مما تتصور. - إذا كان الفتى تحت رعايتكم فلا ريب في ذلك. - إذن غدا يجيء الفتى إلى هنا فلا تمنع الفتاة عنه، فإن شاءت أن تمضي معه فباركهما.
الفصل الرابع والعشرون
كشف المخبأ
في صباح اليوم التالي كان أحمد بك نظيم مختليا مع الأمير نعيم يفاوضه بما يأتي: لقد حان لي يا مولاي أن أطلعك على أسرار عظيمة جدا، كلها خير إن شاء الله، وإنما أرجو منك ألا تتسرع في الاعتراض علي أو في الغضب مني أو في ملامتي.
فتوسم الأمير كل الخير من هذه المقدمة المختصرة وقال: لك يا أحمد ما تريد، فإني أعرفك مخلصا وغيورا على بيت أبي. - فقبل كل شيء، قل لي يا سيدي، ألم تزل تحب جوزفين؟
فاكفهر وجه الأمير إذ استحى أن يقول نعم، بل قال: وماذا يعنيك من كل ذلك؟ - عفو مولاي! لكل كلمة أقولها الآن مساس بالموضوع الذي أخاطبك به. - كلا، لا أحبها، بل أريد الانتقام منها. - لا تخف أن تعترف بحقيقة ضميرك يا مولاي، وإذا ثبت لك أن جوزفين كانت مثال العفاف والأمانة لك كل مدة فراقكما، فماذا تقول؟
فاعتدل الأمير في مكانه، وقال: أعيدها إذا ثبتت براءتها. - إذن أتأذن أن تحضر إلى هنا؟ - أهي في مصر؟ - نعم، وقد لازمتك مدة مرضك ومرضتك بكل عناية، ولم يلاحظ أمرها سواي؛ لأنها كانت متنكرة جدا.
فضرب الأمير كفه على ركبته، وقال: عجيب! أذكر أني رأيتها فظننت أن الحمى خيلت لي ذلك. - بل رأيتها حقيقة وقلبك دلك عليها ونطقت اسمها أحيانا، وما أحد لاحظ ذلك سواي، ولا سيما لأن الطبيب كان يأمر أن لا يدخل عليك أحد سواها وبعض الخدم، وهي كانت تتجنب أن تجتمع بالأميرة نعمت لئلا تعرفها، فإذا شئت فاستدعها واستدع الأميرة نعمت هانم لكي تسمع أسراري؛ لأن لها مساسا بهما. - تكلم الآن، وثم متى حضرتا نخبرهما. - بل أرجو منك استدعاءهما الآن، فلا يفيد كلامي شيئا في غيابهما.
فنهض الأمير إلى التليفون، وفي الحال خاطب المستشفى والتمس أن تحضر الراهبة الممرضة إلى القصر بأسرع ما يمكن، وكذلك خاطب أخته في قصرها واستدعاها، وعند ذلك خرج أحمد بك على وعد أن يعود بعد نصف ساعة، لئلا يحرجه الأمير إلى الكلام في غيابهما.
وبعد بضع دقائق كانت الأميرة نعمت عند أخيها تسأله: ما الخبر؟ - عند أحمد بك أسرار مهمة على ما قال لي يريد أن يعلنها لنا. - أحمد بك؟ أي أسرار؟ - لا تتسرعي يا أختي، ولا تستهجني الأمر، سنرى، ثم إن جوزفين ستقدم بعد هنيهة، فأرجو منك أن تستقبليها بالبشاشة إلى أن نسمع أخبار أحمد بك.
فصاحت به قائلة: جوزفين! أتلتحف بعارها ثانية؟! لم يزل أقاربنا يعيروننا بها إلى الآن. - مهلا يا حبيبتي نعمت! يقول أحمد بك إنها بريئة وهو يثبت براءتها، فأرجو منك كظم كل شيء إلى أن نسمع كل كلمة من فمه، وبعدئذ لنا عقل كامل فنحكم بما يوافقنا.
وعند ذلك وافت جوزفين بثوب الراهبة وعلى عينيها نظارتان فلم تعرفها نعمت هانم، وبقيت تنتظر قدوم جوزفين، ولكن الأمير بعد أن وقف لها وصافحها قال وهم وقوف: جوزفين ارفعي هاتين النظارتين عن عينيك لكي أرى نور العفاف فيهما، وقبل أن أسمع حكاية براءتك أثق بها.
فرفعت جوزفين النظارتين وعانقته والدمع يتدفق من عينيها، وقالت: لقد قاسيت لأجلك كثيرا يا نعيم، حتى إني لو كنت مذنبة إليك لطهرت من ذنوبي، ولكن تيقن أني بقيت وأبقى أمينة لك حتى الموت.
وعادا إلى المعانقة والدمع ينسجم من أعينهما، فتأثرت نعمت هانم من هذا المنظر، ورأت من تحت ثوب جوزفين الأسود مثال الطهارة والعفة، فما تمالكت أن نهضت من مكانها وضمتها إلى صدرها وقبلتها والدمع يطفر من عينيها أيضا، وجعلت تقول لها: «حبيبتي جوزفين حبيبتي.» وعند ذلك دخل أحمد بك نظيم فوجدهما على هذه الحال التي كان يتوقعها ، فتقدم إلى جوزفين وصافحها قائلا: «نهارك سعيد يا سيدتي الأميرة جوزفين هانم.» وكان الحديث الآتي كله بالإفرنسية لكي تفهمه جوزفين، فحملقت فيه جوزفين قائلة: أذكر أني رأيتك، ولكني نسيت من أنت، فهل لك أن تتكرم بذكر اسمك الكريم؟
فقال الأمير: هو حبيبنا أحمد بك نظيم الغيور على بيتنا. - سمعت باسمه ولكن ... - ولكن تعرفني حضرة الأميرة جوزفين بغير اسم.
فتأملته جيدا، ثم قالت: إذا لم أكن غلطانة فأنت مخلصي.
فنظر الأمير إليهما وهي تحملق به، فقال له أحمد بك: لا تتعجب يا سيدي، كل هذا من أسراري، فاجلسوا إذا شئتم واسمعوا أخباري بإصغاء، وإنما أرجو منكم سعة الصدر وعدم مقاطعة حديثي مهما كان مؤثرا أو مهيجا.
فقال الأمير: تكلم فكلنا آذان.
فقال أحمد بك: تذكرون أن الأمير عاصم كان يتحبب للأميرة نعمت بغية أن ينال يدها، وشقيقته الأميرة بهجت كانت تتحبب لسيدي الأمير نعيم بغية أن تكسب قلبه، وكان غرض الأمير عاصم من ذلك أن يحصر تركة سيدي المغفور له الأمير صدقي باشا فيه وفي أخته، ولكن أمنيته هذه حال دونها ما كان بيني وبين الأميرة نعمت من الولاء، وأمنية أخته حال دونها زواج سيدي الأمير نعيم من الأميرة جوزفين؛ ولذلك صمم على أن يزيل الحائلين لينال المأربين معا.
وقد استعمل كل دهائه واستخدم سنتورلي لكل ذلك لكي لا تظهر يده في دسائسه، فأولا أغراني سنتورلي بإيعاز الأمير عاصم بعد وفاة الأمير ظافر زوج الأميرة نعمت، على أن أهتم بخنق المولود الذي تلده الأميرة، حتى إذا تزوجتها لا يكون لها ولد من سواي، ووعدني أن يساعدني في نيل يدها، وقد استعمل كل مهارته في ذلك حتى أقنعني بصواب هذه الجريمة، وبأن هذه هي رغبة الأمير عاصم، وكنت حينئذ في قمة طيشي وجهالتي، فطاوعته وحملت الداية عائشة على أن تنفذ هذا الأمر، وأغريتها بالمال وأقنعتها بالأسباب وغررتها بالوعود، فنفذته على ما قالت، واشتهر حينئذ أن الأميرة ولدت طفلة ميتة.
فقالت الأميرة نعمت: يالله! ما هذه الفظاعة؟! - أرجو منك الصبر يا سيدتي، سترين نتيجة حسنة. وبعد بضعة أيام لولادة الأميرة نعمت، كان ينتظر أن تلد الأميرة جوزفين - وحينئذ كان دولة الأمير نعيم في أوروبا - فعاد سنتورلي وزين لي بإيعاز الأمير عاصم أن أهتم بإخفاء مولودها؛ لأنه يأبى جدا أن يكون للأمير نعيم ابن من أجنبية، فأوعزت للداية عائشة أن تخفي مولود الأميرة جوزفين أيضا، وألقمتها المال الكثير فنفذت هذه المأمورية، وكان سنتورلي قد ألح أن أكتب له - إذ كان هو والأمير عاصم في الإسكندرية حينئذ - وأخبره بتفصيل الأمر متى أنفذته عائشة، فما كان أجهلني حينئذ وأسخف عقلي؛ لأني كتبت لسنتورلي وأخبرته تفصيل ما فعلت عائشة الداية! وقد استخفني إلى هذا العمل كله تودد الأمير عاصم لي ووعده إياي تلميحا بأن ينيلني يد الأميرة نعمت، وإظهار رغبته في ارتكاب هذه الجريمة، ولا أعلم كيف أن ذلك الماكر سطا على ضميري وزين لي ذلك الشر.
وكان الأمير نعيم ونعمت هانم وجوزفين يسمعون هذه الأخبار الفظيعة وأبدانهم تقشعر، وكل هنيهة يقولون كلمة فيلتمس منهم أحمد بك الصبر إلى نهاية الكلام، ثم استأنف كلامه على هذا النحو: ولما تم للأمير عاصم ما أراد في قتل الطفلين أو إخفائهما لكي لا يكون للأمير نعيم ابن إذا تزوج الأميرة بهجت، ولا للأميرة نعمت ابن أيضا إذا تزوجته هو، جعل يهتم في تقريب أخته من الأمير نعيم وفي تقربه هو من الأميرة نعمت، ولأجل بلوغه هاتين الأمنيتين صار يسعى إلى إبعادي عن الأميرة نعمت لما كان بيننا من المودة، وإلى إبعاد الأميرة جوزفين عن الأمير نعيم.
أما إبعادي فكان سهلا عليه جدا؛ لأنه انفرد بي مرة وأعلن لي رغبته في يد الأميرة نعمت ونهاني النهي البات عن أن أتقرب إليها أو أطلب يدها، وتهددني بالرسالة التي كتبتها لسنتورلي بشأن إعدام الطفلين بالاتفاق مع الداية وإغرائها، ولما انكشف لي خبث قلبه وفهمت مكيدته ذعرت من شره وعدت إلى صوابي وفهمت أني وقعت في الفخ؛ لأنه لو أعلن الأمير تلك الرسالة لقبض علي جانيا أي جناية، فصرت أتوقى شره وأداريه ما استطعت ، والحمد لله أن شره وقف عند حد منعي عن التقرب للأميرة نعمت.
فقالت الأميرة: يالله من شركما معا! كيف طاوعته على هذه الجناية؟! - أرجو منك يا سيدتي أن تصبري إلى النهاية، فتري أن النتائج كلها كانت خيرا والحمد لله ...
فقال الأمير نعيم: نعم، أتم حديثك يا أحمد بك فإننا لا نتحاسب عن الماضي الآن، وإنما نود أن نعلم المقدمات التي أفضت بنا إلى النتائج ... - بقي على الأمير عاصم أن يبعد الأميرة جوزفين؛ لأنها عقبة أمام أخته، ولكن وجود الصبي يوسف في قصر الأمير نعيم قام عقبة أخرى في سبيل مسعاه؛ لأنه حسب حسابين كلاهما يفسد مشروعه، الحساب الأول أنه قد يكون الصبي ابن الأمير الحقيقي استبقته الداية فاهتدى إليه الأمير وسكت عن تحقق سبب إخفائه لإضمار انتقام، أو أنه يكون لقيطا والأمير يربيه حتى إذا نشأ رجلا نبيها حاذقا نافعا ادعاه ابنه أو ملكه ماله بطريقة قانونية؛ ولذلك صمم على أن يبعده مع الأميرة جوزفين، وكان سنتورلي يده العاملة، فأغريا امرأة بغيا بالمال سمت نفسها مدام ببيني، وتقلدت حرفة «دلالة»، وصارت تتردد على الأميرة جوزفين وتعرض عليها السلع والحلي، وفي أثناء ذلك تخطب ودها حتى أحرزت ثقتها، فدعتها ذات مساء إلى منزلها - والصبي معها - لكي يشربا الشاي عندها، وهناك دست لهما منوما قويا فوقع عليهما سبات ثقيل، فاحتمل سنتورلي جوزفين إلى بيت مهجور للأمير عاصم في عزبته ص. وسجنها هناك وأقام عليها حارسة امرأة يونانية لا تعرف غير لغتها، وقضت جوزفين هناك نحو عام سجينة ...
فتنهدت جوزفين قائلة: آه! ذقت أمر العذاب هناك. - وأما الصبي يوسف فأخذه سنتورلي إلى دير الراهبات حيث يربى اللقطاء، ودفع لرئيسة الدير المبلغ اللازم للنفقة عليه، وأوصاها أن تحتفظ به ولا تدعه يخرج من الدير إلا رجلا ناسيا ماضيه القصير.
وبعد العام مل سنتورلي حراسة جوزفين وخشي أن تفشي خبر سجنها حارستها أو الخادمان اللذان كانا يخدمان الحارسة، وهما يجهلان سر الخدمة ولكنهما لاحظاه أخيرا؛ فلذلك صمم سنتورلي أن يتخلص من جوزفين بطريقة من الطرق ، فأبى الأمير عاصم أن يطلق سبيلها من غير أن يضرب بها ضربة لأحد أعدائه.
وكان حينئذ قد قنط من مشروعه فصوب مساعيه إلى الانتقام من الأميرة نعمت؛ لأنها خيبت قصده، ومن الأميرة جوزفين؛ لأنها كانت سبب حرمان أخته بهجت هانم من يد الأمير نعيم، فاتفق هو وسنتورلي على أن يقتلا جوزفين في قصر الأميرة لكي تتهم بقتلها.
فقالت الأميرة: يا للفظاعة! أإلى هذا الحد يكون عاصم شريرا؟! - بل سترين أنه أشر.
فقال الأمير نعيم: ولكن كيف عرفت أنت كل ذلك؟ - نعم، فاتني أن أخبركم أن الأمير عاصما لم يجتهد أن يكتم عني مكايده؛ لأنه كان متسلحا ضدي برسالتي لسنتورلي التي أخبرتكم عنها، فبها كان يتهددني إذا أفشيت سرا من أسراره، وكثيرا ما كان يحاول أن يستخدمني فكنت أتملص منه بصعوبة، ومع ذلك كنت إذا أخفى عني مكيدة وشعرت أنه ينصبها أتسرق أخبارها من حيث لا يدري، وقد اعتاد أن يختلي في قاعة من قاعات القصر مع سنتورلي في آخر السهرة ويتفاوضان في وضع الخطة اللازمة لمكيدتهما بعيدين عن الناس، ولا يخفى عليكم أن تلك القاعة المنحرفة مرتفعة قليلا عن سطح بقية الغرف المجاورة لها، وفي أعلاها نافذة للسطح لها مصراعا زجاج، فكنت إذا علمت بوجودهما هناك أصعد إلى السطح وأقيم عند تلك النافذة وأضع أذني على الشق الذي بين المصرعين، فأسمع كل حديثهما؛ لأنهما يجلسان عادة تحت تلك النافذة.
ومن هناك سمعت حديثهما بالمكيدة التي نصبت للأميرة جوزفين والأميرة نعمت معا، وقد ارتأيا أن يأتيا بجوزفين منومة بفعل الأفيون ويدخلاها إلى قصر الأميرة، وهناك يحقنانها تحت الجلد بالستركنين، وسلم الأمير عاصم لسنتورلي زجاجة السم ليلتئذ. وفي اليوم التالي، كنت أنا وسنتورلي معا في المكتب وكان الطقس حارا وقد خلع سنتورلي رداءه العلوي وعلقه، واتفق يومئذ أنه خرج من المكتب لأمر، فانتهزت فرصة غيابه وفتشت جيوب ردائه فوجدت فيها الزجاجة الزرقاء التي أعدها الأمير عاصم للحقن وملأها محلول الستركنين، وأعطاها في تلك الليلة لسنتورلي، ففتحتها وصبت ما فيها من الشباك وملأتها ماء رائقا، ورددتها إلى جيبه كما كانت.
وقد عرف القارئ تفصيل هذه الحكاية فلا لزوم لإعادة ما رواه عنها أحمد بك هنا، وفي خلال روايتها دهشت الأميرة نعمت وجوزفين من مسعى أحمد بك إلى خلاصهما وتخفيه، فقالت الأميرة: «عجيب! الآن فهمت تعريضك بجوزفين في تلك الليلة التي زرتني فيها في حين لم أكن أنتظر زيارتك.» - وقد زرتك لأختبئ في قصرك، فأخلص جوزفين وأنقذك من تهمة الجناية. - كم أنا مديونة لك يا أحمد بك! أتأسف أني أهنتك جدا في تلك الليلة. - ولكني أعذرك يا مولاتي؛ لأنك لم تكوني تعلمين سر رفضي نعمتك، فإن الرسالة التي كانت بيد الأمير عاصم كانت سيفا يلوح فوق رأسي فيصدني عنك. - فهمت الآن كل شيء، فهمت، أعذرك، إني ظلمتك في ما عاملتك فسامحني.
ثم قالت جوزفين: وأنا فهمت الآن سبب أنه لم يخبرني شيئا عن نفسه، ولا عن قصده في تخليصي، ولا عن سبب سجني وعن الذين سجنوني، بالحق إن هذه الحكاية غريبة، كنا محاطين بأسرار جهنمية ولا ندري.
وكان الأمير نعيم كالمنذهل يقول لأحمد بك: أتم حديثك. فاستأنف أحمد بك حديثه قائلا: ولكن طاش والحمد لله سهم المكيدة التي نصبها الأمير عاصم وسنتورلي للأميرة نعمت وجوزفين معا؛ إذ فتش الشرطة قصر الأميرة ليستكشفوا فيه جثة جوزفين بناء على إيعاز الغادرين الخبيثين فلم يجدوها ميتة ولا حية ...
فقالت الأميرة: أتأسف أني اتهمتك بهذه الوشاية يومئذ. - أعذرك يا مولاتي؛ لأنك كنت تجهلين كل شيء.
ولما أخفق سعيهما حارا في أمر جوزفين، فرجحا أن سنتورلي لم يحكم حقنة الستركنين، فلم تكن قاضية عليها، وأن الأميرة نعمت لما وجدتها في قصرها حية قذفتها إلى أوروبا من وجه أفراد الأسرة الناقمين عليها، أو أن جوزفين فرت من نفسها، وحينئذ قدرا أنها لا بد أن تبحث عن الأمير نعيم في أوروبا وتجتمع به، فألحقاها بمكيدة أخرى، وهي أنه كان لسنتورلي هنا قريبة مومس تدعى «جان سيرام»، فأرسلها إلى باريس باسم ماري جوتيه لكي تبحث عن الأميرة جوزفين وتعترض بينهما وتحول دون تفاهمهما، وتجتهد في أن تستميله إليها فتبتز منه المال إذا لم تنجح في التزوج منه.
فقال الأمير وجوزفين معا: يالله ... يا للخبيثة!
وقال الأمير: ولكن الحمد لله أنها لم تبتز مني شيئا ذا قيمة، لا لا، بل ابتزت من قلبي جوزفين حينئذ.
ثم جثا الأمير أمام جوزفين قائلا: رحماك جوزفين! رحماك! كم تألمت بسببي وأنت مثال الطهر! سامحيني.
فقبلته جوزفين والدمع يترقرق فوق مقلتيها ولم تستطع أن تنطق بحرف؛ لأن التأثر كاد يخنقها، وعاد أحمد بك إلى حديثه: ولسوء الحظ أن «جان سيرام»، أو بالأحرى ماري جوتيه كما تدعي، حتى الآن فازت بالقسم الأول من مهمتها، وهي إبعاد جوزفين عن الأمير، ولكن ماري جوتيه ما انفكت كل هذه السنين الغابرة أن تهاجم قلب الأمير نعيم، فلم تظفر منه إلا بقدر ما يظفر رصاص البندقية من الحصن المنيع؛ أي إنه يحت غبارا من حجره.
ولما مرض الأمير نعيم بالحمى التيفوئيدية خطر للأمير عاصم أن يهاجمه مع الأميرة أخته بضربة تكون آخر نقماته، فاتفق مع سنتورلي واستدعيا ماري جوتيه تلغرافيا من فرنسا لكي تخدم الأمير في مرضه وتعنى به جدا، آملين أنه متى صحا من خبل الحمى ورأى ماري تحوم حول سريره معتنية به تزداد قيمة في عينيه، فإذا التمست منه أن يتزوجها فقد لا يمتنع لما هو مشهور به من طيب القلب، وحينذاك يكشفان أمر ماري ويطلعان العالم على تاريخ حياتها، فيعاب الأمير بأن زوجته مومس وتعاب الأميرة نعمت بأن زوجة أخيها مومس، وهذا انتقام عظيم.
فقالت الأميرة نعمت محرقة الأرم: يا له من غادر خائن! إني لأنتقم منه شر نقمة ... - ولكن خلافا نشأ بينه وبين سنتورلي أفسد عليهما مشروعهما الأخير، وكان سببا لحصولي على سلاح أقوى من سلاح الأمير عاصم أحاربه به وأرد كيده إلى صدره. وتحرير الخبر أنه لما كانا يتفاوضان بأمر هذه المكيدة الأخيرة كنت كعادتي أسمع أقوالهما عن السطح - كما قلت لكم - فاختلفا على قيمة مكافأة سنتورلي لأجل المكيدة الأخيرة، فالأمير عاصم أبى أن يعده بمكافأة، وسنتورلي أبى أن يأذن لقريبته أن تدخل بيت الأمير نعيم ما لم يوعد بمكافأة، فتهدده الأمير برسالتي المعهودة له؛ لأنها إذا أعلنت وشغلت النيابة بتحقيق أمرها وقع سنتورلي مثلي تحت المسئولية العظمى، ولكن سنتورلي ليس جاهلا مثلي، فإنه لم يسلم تلك الرسالة للأمير عاصم إلا وفي يده سلاح أمضى من سلاح الأمير.
فاشرأبت أعناقهم ليسمعوا المزيد من الأسرار، فاستمر أحمد بك بحديثه قائلا: نعود الآن إلى ما كان قبل كل هذه الحوادث التي مرت ... لما كان المغفور له والدكم الأمير إبراهيم مريضا مرض الموت، وكان الأمير نعيم في باريس، كتب الأمير عاصم توصية بإمضاء المرحوم مقلدا خطه، وكان قد أمضى أسابيع يمارس تقليده حتى أتقنه وصار مشابها له أكثر المشابهة، ودس تلك الوصية بين أوراق المرحوم، ولما توفي - غفر الله له - ظهرت تلك الوصية المزورة بين أوراقه وعمل بها، وقد وافقتما عليها حينئذ بكل سلامة نية كأنها خط أبيكما نفسه، ولو طعنتم عليها لاكتشفتم تزويرها، على أن الأمير عاصم كان يعلم جيدا أنكما تثقان به تمام الثقة، ولا تسيئان الظن به، فاجترأ على التزوير، وبموجب هذه الوصية استوهب ثلث تركة المرحوم.
فقالت الأميرة: يا له من خبيث خائن! كنا نحسبه أخا؛ ولهذا لم يصعب علينا قط أن أبانا ملكه ثلث ثروتنا. - كلا يا سيدي، لم يملكه أبوكما سوى بعض أفدنة ومنزل، وهاكم وصية المرحوم بخط يده، كتبها بنفسه قبل وفاته وتاريخها متأخر عن تلك الوصية المزورة.
ودفع أحمد بك الوصية للأمير، فدنت الأميرة نعمت إليه وجعلا يقرآها إلى آخرها، فدهشا وقال الأمير: أين كانت مخبوءة إلى الآن؟ - مع سنتورلي يا سيدي، والظاهر أن هذا اللعين كان شريكا للأمير عاصم في تزوير الوصية الأخرى أو عالما بها، ولما توفي المغفور له والدكم عثر اتفاقا أو بعد البحث على هذه الوصية بين أوراق المرحوم، فأخفاها لكي يتهدد بها الأمير ويبتز منه الأموال بواسطتها، ولكن الأمير لم يضطره إلى إظهار هذا السلاح في كل ما مضى، إلى أن اختلفا أخيرا على أجرة المكيدة الأخيرة ، وكنت ليلتئذ على السطح أسمع شجارهما، ولما خرج سنتورلي تتبعته إلى أن استفردته في مكان منحرف عن أنوار الشارع، فاعترضت في سبيله ورششت في وجهه حفنة من الرمل الناعم وصرعته وأخذت هذه الوصية من جيبه ومضيت، وهكذا انتقل سلاح سنتورلي ضد الأمير عاصم إلى يدي.
ومن ثم صرت أفتكر في هل أفشي أسراره، وأعلن مكايده؟ ولكني بقيت خائفا أن يفشي خبر جريمتي، ففكرت في أن أختلس منه تلك الرسالة فلم أهتد إلى طريقة لذلك؛ لأنه شديد الحرص عليها، وكيف يغفل عنها وهي سلاحه ضدي وضد سنتورلي؟!
واتفق أني في تلك الأثناء ذهبت إلى عزبة ق. لقضاء مهمة زراعية لسيدي الأمير نعيم، فاجتمعت بالشيخ حسن النعمان وجرنا الحديث إلى ذكر الصبي يوسف الذي كان عنده وأخذه الأمير نعيم ثم فقد مع الأميرة جوزفين، فخطر لي أن أتحقق أمره، فسألت الشيخ حسن: أما كان معه شيء حين دفعته الداية له؟ وبعد سؤالات مختلفة فهمت أن هذه الحقيبة الجلدية كانت معلقة في عنقه كتعويذة، وقد ألبسها الشيخ حسن لابنه فأخذتها وفتحتها، ومن حسن الحظ وجدت فيها الإقرار بخط الداية عائشة التي ولدت الأميرة نعمت والأميرة جوزفين، وادعت أن ولديهما ولدا ميتين.
فحملق الكل في أحمد بك، وتناول الأمير الحقيبة وأخذ منها الورقة وقرأها وترجمها للإفرنسية لتفهمها جوزفين؛ لأنها لم تكن تفهم العربية جيدا، فدهش الكل أي اندهاش وصرخت جوزفين: إذن يوسف ابني! ويلاه! أين هو؟ أين نجده يا نعيم؟ - هدئي روعك يا مالكة قلبي، بعد برهة يأتي يوسف إلينا مع عروسته. - وا قلباه! وا حبيباه! أعندك هو؟ - نعم، أول أمس حظيت به يا جوزفين اتفاقا، كأن الله أبى إلا أن يجعل سعادتنا كاملة وستعرفين قصته.
وأما الأميرة نعمت فأصبحت كالمجنونة تقول: وا فرحاه! ألي في الوجود ابنة؟ إني لا أصدق! هل أراها قبل أن أموت؟ هل أقبل خديها؟ هل أتنشق شعرها؟ كلا كلا! لا أظن أن الله يسبغ علي هذه النعمة وأنا خاطئة ...
فقاطعها أحمد بك قائلا: بل لا بد أن تريها، فإني ما قرأت ورقة الداية عائشة حتى هرعت إلى الدير الذي ذكرته في ورقتها، فإذا هو نفس الدير الذي أودع فيه يوسف، وهناك التمست مقابلة الرئيسة ورجوتها أن تخبرني عن مقر البنت بعد إذ أخبرتها عن علامتها وهو وشم النجمة في ظهرها، وبالاختصار احتلت عليها ونجحت في احتيالي وعلمت منها أن الفتاة صارت صبية جميلة نبيهة، وأنها في منزل الخواجة «م. ج. الخياط» تعلم صغاره فاطمأن بالي ...
فصاح الأمير نعيم قائلا: إن هذا هو الاتفاق العجيب الذي لم يرو مثله حتى في الروايات.
فقالت الأميرة: ماذا؟
فضحك الأمير ضحك المجنون، وقال: يا نعمت، أبشرك أن ابنتك تكون اليوم زوجة ابني. - إني يا أخي نعيم أسمع اليوم خرافات! فهل نحن في يقظة؟ صرت أرتاب بهذا الوجود وأشك حتى بوجداني.
وجعلوا يلغطون ويتفاهمون ويتساءلون عن أمور ماضية، ويدهشون مما يكتشفون من الأسرار الغابرة، وفي خلال ذلك وثب الأمير نعيم إلى التليفون وسأل عن يوسف في بيت الخواجه «م. ج.» فقيل له إنه مضى هو وماري المباركة منذ دقائق، فجعلوا يتشوفون من الشرفة إلى الشارع المؤدي إلى القصر.
وبعد دقائق رأوا مركبة وقفت أمامه فتدفعوا كلهم إلى باب القصر الأعلى يستقبلون القادمين، فانتهرهم الأمير نعيم قائلا: لا تفاجئوهما بأمر مستهجن؛ لأنهما ينفران إذ لا يعرفان شيئا من هذه الأسرار التي سمعناها الآن.
وعند ذلك دخل يوسف العفيف، وكف ماري المباركة بكفه، وقال: «مولاي، أقدم لك عروستي.» فعانقه الأمير وقال: لماذا يا حبيبي يوسف تقول مولاي؟ أتخاف أن تقول يا أبتي؟
ثم التفت يوسف إلى السيدتين الأخريين وحملق في جوزفين، فلم تتمالك أن عانقته فاستحى منها ومن عروسته، وقالت: «روحي ولدي!» والدمع يتفجر من عينيها، فدهش يوسف من هذه المقابلة الغريبة، وحار ماذا يقول، فنظر إليه الأمير نعيم وقال: لا تدهش يا ولدي، اقرأ هذه الورقة لتعلم بدء تاريخ حياتك. ودفع له ورقة الداية عائشة فقرأها، وما انتهى إلى آخرها حتى اشتدت دهشته وقال: أتقبل هذه الكتابة يا أبي شهادة صادقة على حقيقة ميلادي؟ - إنها صادقة يا ولدي، فأنت ابني وأنا أبوك وجوزفين أمك، لا نشك بذلك.
فاندفع يوسف إلى أمه وهي إلى جنب أبيه وضمهما معا والدموع تنسجم من عينيه، وقال: بأي لسان أحمد الله على نعمه؟!
وأما الأميرة نعمت فكانت تنظر إلى ماري المباركة وهي ترتعش من الاضطراب، وتتململ في مكانها وتود أن تتحقق إن كانت ابنتها حقيقة، وقد كاد الاضطراب يجنها، فلاحظ أخوها أمرها فأشفق عليها، فغمز يوسف وأحمد بك وخرجوا، فتقدمت جوزفين إلى ماري وقالت: هل سمعت يا حبيبتي ماري ما قرأه يوسف؟ - نعم، ولكني لم أفهمه، كأنه لغز.
فأعادت لها جوزفين معنى ما في ورقة الداية عائشة وقالت لها: إن تلك الداية وضعت تلك البنت في الدير الذي كنت فيه يا حبيبتي، ونحن نشتبه أن تلك البنت أنت، فهل تسمحين أن ننظر ظهرك لنرى إن كان عليه وشم نجمة؟
فاضطربت ماري وصرخت: «يوسف! يوسف!»
فاندفع يوسف إلى الداخل كالأسد المفترس، فنظرت إليه جوزفين نظرة الأم وقالت: «إننا مشتبهون» بماري أنها البنت المذكورة في هذه الورقة، ونود أن ننظر ظهرها لنرى هل فيه وشم نجمة.
فنظر يوسف إلى ماري نظرة رجاء، كأنه يقول لها: اخلعي ثوبك واكشفي ظهرك. فقالت: «نعم فيه، نعم!» وجعلت تخلع، فتقدمت إليها الأميرة نعمت وساعدتها على خلع ثوبها، وكانت هي أول من رأى النجمة على ظهر ماري فطوقتها بذراعيها وقبلت تلك النجمة، ثم استنشقت شعرها ودارت إلى خدها وقبلته وغسلته بدمعها وهي تقول: بنتي حبيبتي، حياتي، تعزيتي!
فألوت عليها ماري وطوقتها أيضا قائلة: أماه، أأنت أمي؟ ما كنت أظن أن لي في الوجود أما، فأين كانت هذه السعادة مخبوءة لي؟
ثم دخل الأمير نعيم وأحمد بك وشاهدا النجمة، وفي الحال ردت ماري ثوبها على بدنها، وجعل الجميع يقبلون بعضهم بعضا بدموع الفرح، وأحمد بك ينظر إليهم ودموع التأثر تذرف من مقلتيه وهو يقول: تبارك اسم الله! رباه أتصفح عن إثمي الماضي؟ فالتفتت إليه الأميرة نعمت وقالت: صفح يا أحمد، صفح، فهل تشاء أن تكون أبا ثانيا لماري ؟ فجثا أحمد بك لدى الأميرة، وقال: إن كنت قد صفحت يا نعمت وترين أني صرت أستحق هذه النعمة، فأنت معبودتي جهرا لا سرا فقط. وانحنى على يدها وقبلها.
ولو جئنا نشرح للقارئ ما كان بين أولئك الخمسة من الفرح العظيم الفائق الوصف، ومن الاندهاش وتأمل الواحد بالآخر طورا، ومن التساؤل حينا والاستفسار حينا آخر، والتقبيل هنيهة أو الضم أخرى، لملأنا مجلدا، ولكن نكتفي بالقول إنهم قضوا ذلك النهار يقصون على بعضهم ما صادفوه في ماضي حياتهم، وما جرى لهم من الحوادث المحزنة والمفرحة.
وفي المساء وقد انتهوا من كل قصصهم وتفاهموا جيدا، قالت الأميرة نعمت: بقي علينا أن نرى الطريقة المثلى لتأديب أولئك الخبثاء: عاصم، وبهجت، وسنتورلي، وماري، جوتيه. والانتقام منهم، فأولا يجب أن تسترد كل الأملاك من عاصم، وأن يعرى من لقب أمير؛ لأنه دخيل في الأسرة، وقد أدخله وأخته المرحوم أبونا حبا بأمه، وظنه مستقيما طيب القلب لما كان يبدو من غيرته وحبه، وما درى أنه خبيث مراء منافق فجعله أخانا، ولكنه خدعنا وجر علينا ويلات عديدة، فبأي نقمة نعاقبه؟
وجعلت نعمت تحرق الأرم عليه وتهيج سخطها، فهدأ الأمير نعيم روعها، وقال: طيبي نفسا يا أختي وقري عينا، فإننا إذا عجزنا نحن عن الانتقام من أعدائنا الخبثاء، فالله لا يعجز عن ذلك، وسنفتكر بذلك مليا وندبر الطرق اللازمة بحيث نسترد حقوقنا ونسلم أعداءنا للقضاء فيقتص منهم. - كلا، بل ننتقم منهم بأنفسنا. - إنك حقودة يا نعمت. - لست حقودة ... بل إن أشرارا كهؤلاء من أهل جهنم، وللإنسان حق بأن يكره الأبالسة ويحقد عليهم. - سنرى، وأهم شيء عندي الآن أن تزف ماري إلى يوسف، ونعقد كتابك على أحمد بك ونعيش جميعا بهناء وصفاء. •••
وبعد بضعة أيام أعلن قران الأمير يوسف بك صدقي بالأميرة نعمت هانم، وزواج الأمير نعيم بالأميرة جوزفين هانم، واطلع كل أعضاء الأسرة وغيرهم على ما كان من تلك الحوادث الغريبة، وأنزلوا الأمير عاصم من مكانته في عيونهم، وتولى القضاء قضايا تزويره ومكايده وجعلت النيابة العمومية تشتغل بتحقيقه مدة لتدينه وتعاقبه العقاب الذي يستحقه.
صفحه نامشخص