اسلحه هستهای: مقدمهای خیلی کوتاه
الأسلحة النووية: مقدمة قصيرة جدا
ژانرها
تمهيد
1 - ما الأسلحة النووية؟
2 - بناء القنبلة
3 - «الاختيار بين السريع والقاتل»
4 - سباق تطوير القنبلة الهيدروجينية
5 - الردع النووي والحد من التسلح
6 - حرب النجوم
7 - الأسلحة النووية في عصر الإرهاب
المراجع والقراءات الإضافية
مصادر الصور
صفحه نامشخص
تمهيد
1 - ما الأسلحة النووية؟
2 - بناء القنبلة
3 - «الاختيار بين السريع والقاتل»
4 - سباق تطوير القنبلة الهيدروجينية
5 - الردع النووي والحد من التسلح
6 - حرب النجوم
7 - الأسلحة النووية في عصر الإرهاب
المراجع والقراءات الإضافية
مصادر الصور
صفحه نامشخص
الأسلحة النووية
الأسلحة النووية
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
جوزيف إم سيراكوسا
ترجمة
محمد فتحي خضر
إلى زوجتي كانديس
تمهيد
هذا الكتاب سيتناول أهم الأسئلة - وأكثرها شيوعا وتكرارا - المتعلقة بتطوير الأسلحة النووية، إلى جانب السياسات التي تمخضت عنها. وترتكز هذه المناقشة على فرضية منطقية واحدة مفادها: أن الأسلحة النووية لا تزال مهمة. صحيح أن الأسلحة النووية لم تستخدم في أعمال الحرب منذ أن ألقيت القنبلتان الذريتان على كل من هيروشيما وناجازاكي منذ أكثر من ستين عاما، إلا أن المخاوف الواقعية بشأن إمكانية استخدام هذه الأسلحة ظلت حاضرة على نحو جلي على المسرح العالمي. وقد عبر ليزلي أسبن - أول وزير دفاع في إدارة الرئيس بيل كلينتون - عن الأمر على نحو ملائم بقوله: «لقد انقضت الحرب الباردة، وذهب الاتحاد السوفييتي إلى غير رجعة. لكن بكل تأكيد لا يعني انقضاء الحرب الباردة أن الحقبة النووية قد ولت هي الأخرى.» فرغم كل الجهود المبذولة لتقليص مخزون الأسلحة النووية إلى الصفر، فإنه في المستقبل المنظور ستظل القنابل النووية موجودة. فربما ولت الأيام التي كان فيها التعايش مع وجود القنابل النووية يعني - حسب كلمات وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت - أننا «كنا نعلم كل ليلة أنه في غضون دقائق - ربما بسبب سوء فهم ما - من الممكن أن ينتهي عالمنا ولا نرى ضوء النهار.» لكن رغم تراجع خطر نشوب حرب نووية، فإن هذا الخطر لم يتلاش تماما. فرغم الجهود المبذولة لم تتعد فكرة العالم الخالي من الأسلحة النووية كونها مجرد حلم جميل. بل في الواقع، ووفق استطلاع لآراء الخبراء النوويين أجرته لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي في عام 2005، فإن احتمال أن يشهد العالم ضربة نووية في غضون السنوات العشر القادمة يصل إلى 29٪. ولا يخالف هذا الإجماع في الرأي إلا قليلون.
صفحه نامشخص
تظل التهديدات النووية جزءا أساسيا في العلاقات بين العديد من الدول، كما يلوح خطر أن تزداد في الأهمية. وانتشار الأسلحة النووية سيكون من شأنه على الأرجح التسبب في نتيجتين مشئومتين؛ تتمثل أولاهما في احتمال حصول الإرهابيين على أسلحة نووية، وهو التهديد الذي أطل برأسه بوضوح في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر. بطبيعة الحال لم ينجح أتباع أسامة بن لادن بعد في شن هجوم نووي، لكن وفق تقارير المحللين ليس السبب هو عجزهم عن هذا. فباستخدام كمية صغيرة من اليورانيوم المخصب، ومقدار قليل من التجهيزات العسكرية المتاحة عبر الإنترنت، وفريق صغير من الإرهابيين المكرسين جهودهم لهذا الغرض، يمكنهم تجميع قنبلة نووية في غضون أشهر قلائل، ثم توصيلها إلى وجهتها المقصودة؛ إما عن طريق الجو أو البحر أو السكك الحديدية أو الطرق البرية. وسيكون تأثير مثل هذا الهجوم إذا جرى في قلب نيويورك أو لندن رهيبا إلى درجة لا تصدق.
النتيجة الثانية لانتشار الأسلحة النووية ستتمثل في ازدياد التهديدات باستخدامها، وهو ما سيعيق على نحو عظيم تحقيق الأمن العالمي، وسيكون من العسير من جوانب عدة التراجع فيه. فمع انضمام المزيد من الدول إلى النادي النووي بغرض تحسين وضعها الدولي أو التغلب على مواطن انعدام الأمن التي تراها لديها، سيتعين على هذه الدول أن تمر بمنحنى التعلم النووي الخاص بها، وهي عملية غير مضمونة النجاح، وهو ما تبينه لنا خبرة الدول النووية عبر الأعوام الستين الماضية. واحتمالات وقوع أحداث مؤسفة على مر الطريق شبه مؤكدة.
حين ألقيت القنبلة الذرية على اليابان في أغسطس من عام 1945 في المراحل الختامية للحرب العالمية الثانية، كان من الجلي على الفور أنها لم تكن سلاحا فعالا جديدا وحسب (وإن كانت كذلك بالفعل؛ إذ أثبتت القنبلة الذرية أنها أكثر فعالية من ألف غارة جوية تقليدية). فمن نواح عدة، لم يكن إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما من نوعية اللحظات التاريخية الفاصلة التي لا يمكن استيعابها إلا بالنظر إليها من منظور مستقبلي؛ إذ وصف الرئيس هاري إس ترومان ذلك الحدث وقتها للعالم المشدوه بأنه «تسخير لقوة الكون الأساسية»، وهو الرأي الذي اعتنقه على نحو واسع علماء الذرة المؤثرون.
بعد سبع سنوات - عام 1952 - عضدت الولايات المتحدة ترسانتها النووية حين فجرت أول قنبلة نووية حرارية في المحيط الهادي. بلغت قوة القنبلة - المسماة «مايك» - 500 مرة قدر قوة القنبلة التي ألقيت على هيروشيما، وأدى انفجارها إلى محو جزيرة التجارب النووية التي فجرت القنبلة عليها من الخريطة. بدلت القنبلة الهيدروجينية قواعد اللعبة تماما، وغيرت طبيعة الحرب والسلام ذاتها. وقد عبر ونستون تشرشل عن الأمر بقوله: «إن القنبلة الذرية - بكل أهوالها - لم تخرجنا عن نطاق السيطرة البشرية أو الأحداث القابلة للتحكم فيها، سواء من ناحية الفكر أو الفعل، في السلام أو الحرب. لكن ... في وجود القنبلة الهيدروجينية، شهد الأساس الكامل للشأن الإنساني ثورة عارمة.» في الحقيقة، كان ذلك عالما جديدا وجميلا.
تمنحنا بعض الإحصائيات عن الحقبة النووية التي تلت هذه الأحداث تذكرة جدية بحجم المشكلة؛ فقد أنتج نحو 128 ألف سلاح نووي خلال السنوات الستين الماضية، 98٪ منها بواسطة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. ولا يزال الأعضاء التسعة الحاليون للنادي النووي - الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا العظمى وفرنسا والهند وباكستان والصين وإسرائيل وكوريا الشمالية - يملكون نحو 27 ألف سلاح نووي جاهز للاستخدام. وتملك ما لا يقل عن 15 دولة ما يكفي من اليورانيوم عالي التخصيب لصنع سلاح نووي.
ضمن هذا السياق، سنستعرض علم الأسلحة النووية، وكيف تختلف هذه الأسلحة عن الأسلحة التقليدية، وسباق تصنيع القنبلة الذرية قبل العلماء النازيين، وتاريخ المحاولات المبكرة للسيطرة على القنبلة - مرورا بتفجير الاتحاد السوفييتي لقنبلته الذرية الأولى في أغسطس 1949 - وسباق تصنيع القنبلة الهيدروجينية وما لهذه القنبلة من تبعات، وتاريخ الردع النووي والحد من التسلح - وذلك على خلفية المشهد الدولي المتغير، من الحرب الباردة إلى وقتنا الحاضر - وتوقعات ووعود الدفاع الصاروخي - من نهاية الحرب العالمية الثانية، مرورا بحلم ريجان بحماية أراضي الولايات المتحدة من أي هجوم صاروخي سوفييتي شديد (منظومة «حرب النجوم» الدفاعية)، والهدف الأكثر تواضعا للإدارة الحالية والمتمثل في صد عدد صغير من الصواريخ البالستية (الدرع الصاروخي القومي) قد تطلقه أي من الدول المارقة - وأخيرا سننتهي باستعراض التهديد الذي تمثله الأسلحة النووية وتأثيراتها على ما يطلق عليه «عصر الإرهاب».
وعلى سبيل الشكر والتقدير، أود أن أسجل عرفاني لأصدقائي وزملائي التالية أسماؤهم: مانفريد ستيجر؛ من أجل جذبه انتباهي إلى سلسلة مقدمة قصيرة جدا من أكسفورد، ولاثا مينون - المسئولة الأولى عن اختيار وشراء الكتب بمطبعة جامعة أكسفورد - من أجل دعوتها لي لتأليف هذا الكتاب ولتشجيعها غير المتواني، وريتشارد دين بيرنز؛ من أجل سخائه في مشاركة معرفته المتعلقة بالحد من التسلح ونزع السلاح، وديفيد جي كولمان؛ من أجل أفكاره اللامعة بخصوص الردع النووي وصياغة الاستراتيجيات الدولية. وعلى المستوى الشخصي، يدين هذا الكتاب كثيرا للإلهام الذي تلقيته من أطفالي - هانا وتينا وجوزيف - الذين ورثوا ذلك العالم المضطرب الذي خلفه لنا القرن العشرون، وبالطبع أدين بالكثير لزوجتي، كانديس، التي أهدي لها هذا الكتاب. ومن نافلة القول أنني وحدي المسئول عن أي أخطاء قد يحويها هذا الكتاب.
بروفيسور جوزيف إم سيراكوسا
مدير قسم الدراسات الدولية
المعهد الملكي للتكنولوجيا في ملبورن
صفحه نامشخص
ملبورن، أستراليا
الفصل الأول
ما الأسلحة النووية؟
في عام 1951 أشرفت إدارة الدفاع المدني الفيدرالية الأمريكية - حديثة العهد في ذلك الوقت - على إنتاج فيلم يعلم الأطفال كيفية الاستجابة حال وقوع هجوم نووي. كانت النتيجة هي فيلم «اخفض رأسك واختبئ»؛ وهو فيلم مدته تسع دقائق عرض في مدارس الولايات المتحدة خلال عقد الخمسينيات وما بعده. كانت شخصية الفيلم الرئيسية شخصية كارتونية تسمى «بيرت السلحفاة»، وكانت تتسم بأنها «يقظة للغاية وتعلم جيدا ما يجب فعله: أن تخفض رأسها وتختبئ». وما إن ينبعث صوت صفارة الإنذار أو الضوء الساطع المشير لوقوع هجوم نووي، كانت شخصية بيرت السلحفاة تخفي جسدها على الفور داخل ترسها. بدا الأمر بسيطا، وأحب الكل تلك السلحفاة.
أدت مبادرات أخرى لإدارة الدفاع المدني في أوائل الخمسينيات إلى إنشاء «نظام إذاعة الطوارئ»، ومخازن الطعام، وصفوف الدفاع المدني، ومخابئ القنابل الخاصة والحكومية. أشرفت إدارة الدفاع المدني أيضا على إنتاج أفلام أخرى عن الدفاع المدني، لكن فيلم «اخفض رأسك واختبئ» صار أشهر أفلام هذا النوع. بل إنه في عام 2004 أدرجت مكتبة الكونجرس هذا الفيلم ضمن «سجل الأفلام الوطنية» للأفلام ذات الأهمية «الثقافية أو التاريخية أو الجمالية»، وهو شرف يتقاسمه هذا الفيلم مع أفلام سينمائية أخرى من الكلاسيكيات؛ مثل: فيلم «مولد أمة»، و«كازابلانكا»، و«قائمة شندلر». وحين أعود بذاكرتي إلى المرة الأولى التي رأيت فيها فيلم «اخفض رأسك واختبئ» - في أوائل خمسينيات القرن العشرين - إبان دراستي بالمدرسة الابتدائية في الجانب الشمالي من شيكاجو - ثالث كبرى المدن الأمريكية والهدف النووي الافتراضي لوقت طويل - أدرك بطبيعة الحال أن فيلم السلحفاة بيرت ليس ذا أهمية ثقافية أو تاريخية أو جمالية بقدر ما هو مرتبط بأغراض دعائية. فحال وقوع هجوم نووي، لن يعرف أطفال المدارس الأمريكان ما أصابهم.
علم الأسلحة النووية
الطاقة الذرية هي مصدر الطاقة لكل من المفاعلات النووية والأسلحة النووية. وهذه الطاقة تنشأ عن انقسام الذرات (الانشطار الذري) أو اتحادها (الاندماج النووي). ولفهم مصدر هذه الطاقة علينا أولا تقدير البنية المعقدة للذرة نفسها.
الذرة هي أصغر جزء من العنصر يحمل الخصائص المميزة لهذا العنصر. وقد نمت معرفتنا عن الذرة ببطء فيما قبل العقد الأول من القرن العشرين، ثم تحقق أحد الفتوح الأولى على يد سير إرنست رذرفورد في عام 1911 حين أثبت أن كتلة الذرة متركزة في نواتها، وافترض أيضا أن للنواة شحنة موجبة، وأنها محاطة بإلكترونات سالبة الشحنة. بعدها بعدة سنوات استكملت هذه النظرية الخاصة بالتركيب الذري على يد الفيزيائي الدنماركي نيلز بور، الذي عين موضع الإلكترونات في أغلفة أو مستويات كمية محددة. وبهذا تكون الذرة عبارة عن تركيبة معقدة من الإلكترونات سالبة الشحنة موجودة في أغلفة محددة حول نواة موجبة الشحنة. والنواة - بدورها - تحتوي على القدر الأكبر من كتلة الذرة، وهي تتألف من بروتونات ونيوترونات (خلا ذرة عنصر الهيدروجين الشائع وجوده، التي تحتوي على بروتون وحيد وحسب). وجميع الذرات لها الحجم عينه تقريبا.
شكل 1-1: تتكون الذرة من إلكترونات وبروتونات ونيوترونات. تؤلف البروتونات والنيوترونات نواة الذرة الكثيفة فيما تتجمع الإلكترونات فيما يشبه سحابة متناثرة تحيط بالنواة.
علاوة على ذلك، تتبع الإلكترونات سالبة الشحنة نمطا عشوائيا داخل أغلفة الطاقة المحددة الموجودة حول النواة. وأغلب خواص الذرة مبنية على عدد الإلكترونات الموجودة بها وترتيبها. البروتون هو أحد نوعي الجسيمات الموجودين داخل نواة الذرة، وهو جسيم موجب الشحنة. للبروتون شحنة مكافئة في مقدارها - لكنها معاكسة - لشحنة الإلكترون السالبة، وعدد البروتونات داخل نواة الذرة هو ما يحدد نوع العنصر الكيميائي الذي تنتمي له الذرة. الجسيم الآخر الموجود داخل النواة هو النيوترون. وقد اكتشف النيوترون على يد الفيزيائي البريطاني سير جيمس شادويك عام 1932، وهو متعادل الشحنة الكهربية ويملك كتلة مساوية لكتلة البروتون. ونظرا لأن النيوترون عديم الشحنة فإنه لا يتنافر مع شحنة سحابة الإلكترونات أو شحنة النواة، وهو ما يجعل منه أداة مفيدة لاستكشاف بنية الذرة. للبروتونات والنيوترونات المنفردة بنية داخلية، مكونة من جسيمات تسمى الكواركات، بيد أن هذه الجسيمات دون الذرية لا يمكن تحريرها ودراستها على نحو مستقل.
صفحه نامشخص
من الخصائص الأساسية للذرة عددها الذري، وهو يتحدد وفق عدد ما تحويه الذرة من بروتونات. تتحدد الخصائص الكيميائية للذرة بواسطة عددها الذري، أما العدد الإجمالي لما يسمى النيوكليونات (البروتونات والنيوترونات) داخل الذرة فيسمى عدد الكتلة الذري. والذرات التي تشترك في العدد الذري عينه، لكنها تتباين من حيث عدد النيوترونات - ومن ثم تتباين من حيث عدد الكتلة الذري - تسمى نظائر. وللنظائر خصائص كيميائية متطابقة، بيد أن لها خصائص نووية مختلفة. على سبيل المثال، هناك ثلاثة نظائر للهيدروجين؛ اثنان منها مستقران (غير مشعين)، لكن النظير الثالث (التريتيوم الذي يتألف من بروتون واحد واثنين من النيوترونات) غير مستقر. أغلب العناصر لها نظائر مستقرة، ومن الممكن معالجة النظائر المشعة للعديد من العناصر. ونواة عنصر اليورانيوم 235 تتألف من 92 بروتونا و143 نيوترونا (92 + 143 = 235)؛ ومن هنا جاءت التسمية «يورانيوم 235».
تقل كتلة النواة بنحو 1 في المائة عن مجموع كتل البروتونات والنيوترونات المؤلفة لها. وهذا الفارق في الكتلة يسمى «نقص الكتلة»، وهو ينشأ عن الطاقة المنبعثة عند اتحاد النيوكليونات (البروتونات والنيوترونات) معا لتكوين النواة. هذه الطاقة تسمى «طاقة الارتباط»، وهي بدورها تحدد أي النوى مستقر ومقدار الطاقة المنبعث في التفاعل النووي. للنوى الثقيلة جدا والنوى الخفيفة جدا طاقات ارتباط منخفضة، وهذا يعني أن النواة الثقيلة ستبعث طاقة عندما تنقسم (الانشطار النووي)، وأن النواتين الخفيفتين ستبعثان طاقة عندما تتحدان (الاندماج النووي). وتربط معادلة أينشتاين الشهيرة (الطاقة = الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء) بين نقص الكتلة وطاقة الارتباط.
عام 1905 طور أينشتاين نظرية النسبية الخاصة، وكانت إحدى تبعاتها أنه بالإمكان تحويل المادة إلى طاقة والعكس بالعكس. وتنص هذه المعادلة على أنه بالإمكان تحويل الكتلة إلى مقدار هائل من الطاقة، وذلك بعد ضربها في مربع سرعة الضوء. ولأن سرعة الضوء كبيرة للغاية (186 ألف ميل في الثانية) فإن مربع سرعة الضوء رقم كبير جدا؛ ومن ثم يمكن تحويل أي مقدار يسير من الكتلة إلى مقدار هائل من الطاقة. إن معادلة أينشتاين هي مفتاح قوة الأسلحة النووية والمفاعلات النووية. استخدم تفاعل الانشطار النووي في أول قنبلة ذرية ولا يزال يستخدم في المفاعلات النووية، أما تفاعل الاندماج النووي فقد صار يلعب دورا مهما في الأسلحة النووية الحرارية وفي تطوير المفاعلات النووية.
ما الأهمية العملية للأسلحة النووية إذن؟ وفيم تختلف عما سبقها من أسلحة؟ إن الفارق الجوهري بين السلاح النووي والسلاح التقليدي - ببساطة - هو أن الانفجار النووي يمكن أن يكون أعتى بآلاف (أو ملايين) المرات من أكبر الانفجارات التقليدية. بطبيعة الحال يعتمد النوعان كلاهما على القوة المدمرة للانفجار أو موجة الصدمة، إلا أن الحرارة التي يصل إليها الانفجار النووي أعلى بكثير من نظيرتها الناتجة عن الانفجار التقليدي، ونسبة كبيرة من الطاقة الناتجة عن الانفجار النووي تنبعث على صورة ضوء وحرارة، وعادة ما يشار إليها بالطاقة الحرارية. هذه الحرارة قادرة على التسبب في حروق جلدية شديدة وعلى إشعال النيران في مساحات واسعة. بل في الواقع، الضرر الناجم عن العاصفة النارية التي يحدثها الانفجار النووي يمكن أن يكون أشد دمارا من تأثيرات الانفجارات التقليدية المعروفة.
الانفجارات النووية تكون مصحوبة أيضا بغبار ذري مشع، يدوم بضع ثوان، ويظل يمثل خطرا عبر فترة ممتدة من الزمن، قد تصل إلى أعوام. وفي الواقع، تتفرد الانفجارات النووية بأنها الوحيدة التي تطلق إشعاعا. فنحو 85 بالمائة من الانفجارات النووية تنتج انفجارا هوائيا (وصدمة) وطاقة حرارية، أما نسبة ال 15 بالمائة المتبقية من طاقة الانفجار فتنبعث على صورة أنواع مختلفة من الإشعاع، منها 5 في المائة تمثل الإشعاع النووي المبدئي - ذلك الإشعاع الذي ينتج في غضون دقيقة أو نحو ذلك من وقوع الانفجار - الذي يتكون في أغلبه من إشعاع جاما قوي. أما نسبة ال 10 بالمائة المتبقية من طاقة الانشطار فتمثل الإشعاع النووي المتبقي (أو المتأخر). وهذا يرجع بالأساس إلى النشاط الإشعاعي الذي تتسم به منتجات الانشطار النووي الموجودة في بقايا السلاح النووي، أو الحطام، وإلى الغبار الذري المتخلف عن الانفجار.
وعلى قدر مساو من الأهمية هناك الطاقة الانفجارية التي ينتجها السلاح النووي، وعادة ما تقاس بمسمى «قوة الانفجار». وقوة الانفجار تتحدد من حيث كمية المتفجرات التقليدية، أو مادة تي إن تي، التي من شأنها أن تولد القدر عينه من الطاقة لدى انفجارها. وعلى هذا فإن السلاح النووي بقوة 1 كيلوطن هو ذلك السلاح الذي ينتج نفس مقدار الطاقة التي ينتجها انفجار ألف طن من مادة تي إن تي، وبالمثل، السلاح النووي بقوة 1 ميجاطن له طاقة مساوية لانفجار مليون طن من مادة تي إن تي.
إن القنبلة الذرية القائمة على عنصر اليورانيوم التي دمرت مدينة هيروشيما في أغسطس 1945 - وكانت طاقتها ناتجة عن انقسام (انشطار) الذرات - بلغت قوتها التفجيرية 20 ألف طن من مادة تي إن تي، أما القنبلة النووية الحرارية - أو الهيدروجينية - التي اختبرت بواسطة الولايات المتحدة في المحيط الهادي في أكتوبر 1952 - وكانت طاقتها ناتجة عن اتحاد (اندماج) الذرات - فقد بلغت قوتها التفجيرية نحو 7 ميجاطن؛ أي ما يعادل 7 ملايين طن من مادة تي إن تي، إلى جانب إنتاج غبار ذري مشع قاتل من أشعة جاما. أجرى الاتحاد السوفييتي تجربة لقنبلة نووية حرارية مماثلة في أغسطس 1953، وهو ما دفع قوتي الحرب الباردة العظميين نحو سباق نووي مميت استمر حتى أفول الاتحاد السوفييتي في ديسمبر 1991.
لكن للأسف لم تعن النهاية السلمية للحرب الباردة نهاية التهديدات النووية للأمن العالمي. وهنا نقتبس ما قاله توني بلير رئيس الوزراء البريطاني في معرض دفاعه عن خطط الحكومة لتحديث منظومة الأسلحة النووية «ترايدنت» واستبدالها (انظر الفصل السابع): «هناك أيضا تهديد جديد قد يسبب خطرا كبيرا آتيا من دول مثل كوريا الشمالية التي تزعم بالفعل أنها طورت أسلحة نووية، أو إيران التي تخرق التزاماتها المتعلقة بمنع الانتشار النووي.» ناهيك عن «الصلة المحتملة بين هذه الدول والإرهاب الدولي». وإذا أضفنا إلى هذا المنظمات الإرهابية غير المحدودة بدولة معينة؛ التي تسعى للحصول على وسائل للقتل الجماعي، وشبكات السوق السوداء من الموردين المارقين المستعدين للإتجار في المواد والخبرات الفنية التي تفضي إلى الأسلحة النووية، فستكون الصورة أكثر وضوحا. ومن الممكن أن يتجسد الكابوس الناتج عن التعرض لتبعات التفجير النووي الإنسانية واللوجستية وتلك المتعلقة بحفظ القانون والنظام على نحو مؤثر غير متوقع، في أي مدينة كبرى، بحيث تتضاءل إلى جواره أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
سيناريو مدينة نيويورك
على سبيل المثال، من الممكن لسلاح نووي صغير - قنبلة ذات قوة تفجيرية في حدود 150 كيلوطنا - صنعه إرهابيون وفجروه في قلب مانهاتن، أسفل مبنى الإمباير ستيت في ظهيرة يوم ربيعي صاف، أن يكون له تبعات كارثية. فبنهاية الثانية الأولى من الانفجار، ستتسبب موجة الصدمة في تغير مفاجئ في الضغط الجوي المحيط مقداره 20 رطلا لكل بوصة مربعة عبر مسافة قدرها أربعة أعشار الميل من نقطة الانفجار، وتدمر المعالم البارزة العظيمة لمانهاتن، مثل مبنى الإمباير ستيت، وقاعة ماديسون سكوير جاردن، ومحطة بين رود سنترال ستيشن، ومكتبة نيويورك التي لا نظير لها. أغلب المادة التي تتألف منها تلك المعالم ستظل موجودة وتتراكم حتى ارتفاع مئات الأقدام في مكانها، لكن لا شيء داخل هذه الحلقة سيكون من الممكن تمييزه. الأشخاص الواقعون خارج دائرة الانفجار سيكونون معرضين للتأثيرات الكاملة للانفجار، بما فيها من تلف حاد بالرئة والأذن، علاوة على التعرض للحطام المتطاير. أما الأشخاص الواقعون في المدى المباشر للانفجار فسيتعرضون للموجة الحرارية ويقتلون على الفور، بينما سيموت أولئك المحتمون من بعض تأثيرات الانفجار والحرارة جراء انهيار المباني فوقهم؛ وتقريبا سيموت 75 ألف شخص من أبناء نيويورك بهذه الطرق. وخلال الثواني الخمس عشرة التالية سيمتد الانفجار والعاصفة النارية حتى مسافة أربعة أميال تقريبا؛ ما سيتسبب في مقتل 750 ألف شخص آخرين إلى جانب إصابة نحو 900 ألف غيرهم. وما هذه إلا بداية المتاعب وحسب لمدينة نيويورك.
صفحه نامشخص
ستكون مهمة الاعتناء بالمصابين خارجة عن نطاق قدرة المؤسسة الطبية على الاستجابة تماما، بل ربما تكون خارج نطاق تصورها من الأساس. فجميع مستشفيات مانهاتن الكبرى، عدا واحدة، تقع داخل منطقة الانفجار وستكون مدمرة بالكامل. وليس هناك ما يكفي من الأسرة المتاحة في كل أنحاء نيويورك ونيوجيرسي لاستقبال حتى أكثر حالات الإصابة خطورة. إن عدد الأسرة الموجودة في مراكز الحروق في الدولة بأكملها لا يزيد عن 3 آلاف سرير، وسيموت الآلاف من نقص الرعاية الطبية. في الوقت ذاته، سيكون السواد الأعظم من نيويورك دون كهرباء أو غاز أو مياه أو صرف صحي. ستكون عمليات نقل المصابين وإحضار ما هو ضروري من مؤن وأشخاص ومعدات عسيرة للغاية، وسيصير مئات الآلاف من أبناء نيويورك دون مأوى، وستواجه مهمة أفراد الطوارئ في المناطق التي تظل مشعة على نحو خطير مشكلات قد يكون من المستحيل تخطيها.
سيتسبب الانفجار الإرهابي في مقدار من الغبار الذري المشع أكبر من المقدار الذي يمكن أن ينجم عن انفجار لم تمس خلاله كرة النار الأرض؛ وسبب هذا هو أن الانفجار السطحي ينتج جسيمات مشعة من الأرض علاوة على تلك الآتية من السلاح النووي نفسه. سيتساقط الغبار الذري المبكر على الأرض حسب اتجاه الريح السائد، مشكلا أنماطا بيضاوية الشكل تمتد من نقطة الانفجار وصولا إلى لونج آيلاند. ولأن الرياح ستكون خفيفة نسبيا، سيكون الغبار الذري متركزا في منطقة مانهاتن، شرقي الانفجار مباشرة . سيعاني الآلاف من أبناء نيويورك من التأثيرات الخطيرة للإشعاع، بما في ذلك تلف الكروموسومات وتدمير نخاع العظام والأمعاء، والنزيف. سيموت الكثيرون جراء هذه الإصابات خلال الأيام والأسابيع التالية على الانفجار. وكل شخص ناج من الانفجار من المنتظر بنسبة 20 بالمائة أن يموت جراء أي نوع من أنواع السرطان، علاوة على احتمالية قدرها 80 بالمائة أن يموت جراء أسباب أخرى كمرض القلب أو العدوى. وسيأتي التأثير الذي سيعاني منه الجيل التالي في صورة أمراض وراثية وعيوب خلقية.
في يناير 2007 حرك العلماء المشرفون على «ساعة يوم القيامة» عقارب الساعة بمقدار دقيقتين نحو منتصف الليل، الرمز النهائي لفناء الحضارة. فقد حرك القائمون على مجلة «نشرة علماء الذرة» - وهي المجلة التي استحدثت هذه الساعة في عام 1947 من أجل التحذير من مخاطر الأسلحة النووية - الساعة حتى خمس دقائق قبل منتصف الليل. وقالت مجموعة علماء الذرة في بيان لها: «إننا نقف على شفا عصر نووي ثان.» مشيرة إلى أولى تجارب كوريا الشمالية للسلاح النووي في 2006، وطموحات إيران النووية، وتجارب أمريكا على القنابل «المخترقة للمخابئ النووية المحصنة»، والأسلحة النووية التي تمتلكها الدول الأعضاء في النادي النووي، والبالغ عددها 27 ألف سلاح نووي. ذكرنا هؤلاء العلماء أيضا بأن 50 سلاحا نوويا فقط من الأسلحة الموجودة اليوم يمكن أن تقتل ما يصل إلى 200 مليون شخص.
منذ أن ضبطت عقارب ساعة يوم القيامة لدى إنشائها عام 1947 على سبع دقائق قبل منتصف الليل جرى تحريك هذه العقارب ثماني عشرة مرة. ومما لا يثير الدهشة أن أقرب موضع لهذه العقارب لمنتصف الليل النووي - دقيقتان قبل منتصف الليل - كان في أوائل عام 1953، في أعقاب الاختبار الأمريكي الناجح للقنبلة الهيدروجينية المسماة «مايك»؛ ذلك الاختبار الذي تسبب في محو الجزيرة التي فجرت عليها القنبلة من الخريطة. كان ذلك تقريبا هو الوقت الذي شاهدت فيه لأول مرة شخصية بيرت السلحفاة وتحذيرها القاتم «اخفض رأسك واختبئ». ولم يتغير الكثير منذ ذلك الوقت.
الفصل الثاني
بناء القنبلة
منذ أواخر عام 1944 والقاذفات الأمريكية طويلة المدى من طراز «بي-29» تنفذ أعنف هجوم جوي في التاريخ . وإجمالا، ألقي بنهاية الحرب نحو 160 ألف طن من القنابل على اليابان، بما في ذلك غارات القنابل النارية التي دمرت وسط مدينة طوكيو وعددا من كبرى المدن اليابانية الأخرى. تسببت هذه الغارات وحدها في مقتل 333 ألفا من الجنود والمدنيين اليابانيين، وجرحت نصف مليون آخرين.
لم تكن مثل هذه الخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات بالأمر غير المسبوق. فحتى استسلام النازيين في مايو 1945، قتل 635 ألف ألماني، أغلبهم من المدنيين، وشرد 7,5 ملايين من منازلهم مع إلقاء القنابل البريطانية والأمريكية على 131 مدينة وبلدة. كان المبرر بسيطا. وكما علق المؤرخ التنقيحي يورج فريدريتش في دراسته لقصف الحلفاء لألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية؛ فإن «الفكرة هي أن المدن وإنتاجها وروحها المعنوية كانت تسهم في الحرب. وبهذا لم تكن الحرب مقتصرة على الجيش وحسب، بل هي واجب الدولة بأسرها.» وفي الحرب الشاملة، كل شيء وكل شخص يصير هدفا مستباحا. لم يكن هذا بالأمر الجديد على أبناء تلك الفترة مثل جورج أورويل، الذي يذكرنا في مقاله الرائع بعنوان «إنجلترا هي لك» الذي كتبه في فبراير 1941 تحت القصف الألماني: «يطير فوق رأسي بشر فائقو التحضر، يحاولون قتلي.»
حل الدور على حلفاء هتلر. كان اقتصاد الحرب الياباني مدمرا أشد تدمير، ومع ذلك فقد رفضت اليابان الاستسلام. ورغم أن بعض أعضاء الحكومة اليابانية أدركوا منذ وقت طويل أنهم خسروا الحرب، فإن السياسة الرسمية للحلفاء استمرت كما هي مطالبة باستسلام اليابان غير المشروط. لذا، بينما كان القادة المدنيون اليابانيون - إلى جانب الإمبراطور هيروهيتو - يفضلون طلب السلام، كان العسكريون - وعلى رأسهم الجيش - يقاومون. وفي وجه هذه المقاومة العنيفة، قدرت هيئة الأركان الأمريكية أن الخسائر البشرية لغزو الجزر اليابانية الرئيسية لن تقل عن المليون جندي من جنود الولايات المتحدة ودول الحلفاء. ولشدة انزعاجه من هذا الاحتمال المؤرق، بدأ الرئيس هاري إس ترومان - الذي اعتلى سدة الرئاسة بعد الوفاة المفاجئة لسلفه فرانكلين ديلانو روزفلت في الثاني عشر من أبريل 1945 - في البحث عن بدائل.
من جانبه، أعلم وزير الحربية هنري إل ستيمسون الرئيس ترومان تفصيلا بتبعات ذلك السلاح الجديد المدمر الذي يتم تطويره في مشروع مانهاتن فائق السرية. ففي الثالث والعشرين من أبريل أعطى ستيمسون والجنرال ليزلي جروفز - مدير المشروع - الرئيس الجديد تقريرا وافيا عن السلاح الجديد الذي بتنا نعرفه الآن باسم القنبلة الذرية. وفي هذه الجلسة تحدث جروفز عن منشأ مشروع القنبلة الذرية وحالته الراهنة، بينما قدم ستيمسون مذكرة تشرح تأثير تلك القنبلة فيما يخص العلاقات الدولية. تناول ستيمسون القوة المرعبة للسلاح الجديد، ونصح الرئيس قائلا: «في غضون أربعة أشهر سنكون قد انتهينا على نحو مؤكد من تصنيع أكثر سلاح عرفته البشرية ترويعا؛ قنبلة واحدة باستطاعتها تدمير مدينة بأكملها.» ثم ألمح بعد ذلك إلى المخاطر التي أذن بها اكتشاف هذا السلاح وتطويره، مشيرا إلى صعوبة بناء نظام واقعي للسيطرة عليه.
صفحه نامشخص
لم يبد أن ترومان ركز كثيرا على التبعات الجيوسياسية لامتلاك القنبلة الذرية قدر ما ركز على العبء الشخصي المتمثل في التصريح باستخدام هذا السلاح المخيف. ويروى أنه تحدث إلى موظف بالبيت الأبيض، وكان الشخص الذي رآه مباشرة بعد أن غادر ستيمسون وجروفز مكتبه، قائلا: «سيكون علي أن أتخذ قرارا لم يضطر أي شخص آخر في التاريخ إلى أن يتخذ مثله. سوف أتخذ القرار، بيد أنه من المرعب أن أفكر فيما سيكون علي أن أقرره.» ومع الوقت، اتخذ ترومان قراره، وهو قرار ربما لم يبنه على الكثير من التفكير المتأني، بل على خبرته الحربية والمعلومات المتوفرة بين يديه.
بدايات مشروع مانهاتن
رغم أنه لم يفض قرار وحيد إلى إنشاء مشروع القنبلة الذرية الأمريكية، فإن أغلب الروايات عن ذلك الأمر تبدأ بمناقشة الرئيس روزفلت لخطاب وجهه إليه أشهر علماء القرن العشرين قاطبة، ألبرت أينشتاين. ففي الحادي عشر من أكتوبر 1939 تقابل ألكسندر ساكس - اقتصادي وول ستريت والمستشار غير الرسمي للرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت - مع الرئيس روزفلت لمناقشة خطاب كتبه ألبرت أينشتاين في الثاني من أغسطس. كتب أينشتاين معلما روزفلت أن أحدث الأبحاث قد جعلت «من المرجح ... أن يكون من الممكن إنشاء تفاعل نووي متسلسل في كتلة كبيرة من اليورانيوم ، وبواسطة هذا التفاعل من الممكن توليد مقادير هائلة من الطاقة وكميات كبيرة من العناصر الشبيهة بالراديوم.» وهو ما من شأنه أن يؤدي «إلى بناء قنابل، ومن المتصور - وإن كان على نحو أقل ترجيحا - أن يبنى نوع جديد قوي للغاية من القنابل استنادا إلى هذا.» وكل هذا من المرجح أن يحدث «في المستقبل العاجل».
آمن أينشتاين - محقا - أن الحكومة النازية كانت تدعم على نحو نشط الأبحاث القائمة في هذا المجال، وحث حكومة الولايات المتحدة على أن تحذو حذوها. قرأ ساكس جزءا من خطاب توضيحي كان قد أعده وأعلم روزفلت بالنقاط الرئيسية التي يتضمنها خطاب أينشتاين. في البداية كان روزفلت مترددا وعبر عن مخاوفه بشأن توافر التمويل اللازم، لكن في اجتماع لاحق عقد على الإفطار في اليوم التالي صار روزفلت مقتنعا بقيمة استكشاف الطاقة الذرية. وما كان له أن يتخذ خيارا آخر.
خط أينشتاين خطابه الشهير بمساعدة المهاجر المجري ليو زيلارد، أحد ألمع الفيزيائيين الأوروبيين الذين فروا إلى الولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن العشرين هربا من الاضطهاد النازي والفاشستي. كان زيلارد من أبرز الداعين إلى تدشين برنامج لتطوير القنابل استنادا إلى النتائج الحديثة في الكيمياء والفيزياء النووية. وقد آمن أتراب زيلارد - رفاقه الفيزيائيون المجريون الفارون إدوارد تيلر ويوجين ويجنر - بأن من مسئوليتهم الأخلاقية تنبيه الولايات المتحدة إلى احتمالية فوز العلماء الألمان بسباق بناء القنبلة الذرية، والتحذير من أن هتلر سيكون راغبا أيما رغبة في استخدام مثل هذا السلاح. لكن روزفلت - المنشغل بالأحداث الدائرة في أوروبا - تأخر في لقاء ساكس أكثر من شهرين بعد تلقيه تحذير أينشتاين. وقد فسر زيلارد ورفاقه استجابة روزفلت المتأخرة على أنها دليل على أن الولايات المتحدة لم تأخذ تهديد الحرب النووية مأخذ الجد. لكنهم كانوا مخطئين.
كتب روزفلت إلى أينشتاين في التاسع عشر من أكتوبر 1939 معلما إياه بأنه أنشأ لجنة استكشافية تتكون من ساكس وممثلين عن الجيش والبحرية من أجل دراسة اليورانيوم. وقد أثبتت الأحداث أن روزفلت كان لا يتوانى عن الفعل ما إن يحدد مساره. في الواقع ، كانت موافقة روزفلت على البدء في إجراء الأبحاث على اليورانيوم في أكتوبر 1939 - بناء على اعتقاده بأن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تخاطر بأن تسمح لهتلر بأن يمتلك وحده «قنابل قوية للغاية» - هي القرار الأول من بين مجموعة من القرارات التي أفضت في النهاية إلى تأسيس الجهد الوحيد الناجح لبناء القنبلة الذرية في الحرب العالمية الثانية.
مع بداية الحرب العالمية الثانية كان هناك خوف متزايد بين العلماء في دول الحلفاء من أن ألمانيا النازية قد تكون في سبيلها لتطوير قنابل تعتمد على الانشطار النووي. كانت الأبحاث المنظمة في هذا المجال قد بدأت أول ما بدأت في برلين، كجزء من مشروع السبائك النفقية، وفي الولايات المتحدة قدم قدر يسير من التمويل للأبحاث المتعلقة بالأسلحة المعتمدة على اليورانيوم، وكانت البداية في عام 1939 بلجنة اليورانيوم برئاسة ليمان جيه بريجز. لكن بإلحاح من العلماء البريطانيين - الذين أجروا حسابات حاسمة تشير إلى اكتمال أول سلاح قائم على الانشطار الذري في غضون بضع سنوات - انتقل المشروع بصعوبة إلى أيد بيروقراطية أكفأ، وفي عام 1942 صار جزءا من مشروع مانهاتن. جمع المشروع أبرع العقول العلمية في ذلك الوقت، بمن فيهم العديد من الفارين من أوروبا النازية، إضافة إلى القوة الإنتاجية للصناعة الأمريكية؛ وذلك من أجل هدف وحيد هو إنتاج قنبلة قائمة على الانشطار الذري قبل أن ينتجها الألمان. وافقت لندن وواشنطن على حشد مواردهما ومعلوماتهما، لكن الحليف الرئيس الآخر - الاتحاد السوفييتي تحت زعامة ستالين - ظل خارج الصورة.
برلين، وطوكيو، والقنبلة
كان علماء دول الحلفاء يخشون برلين كثيرا، ولهم أسبابهم في ذلك. ففي أواخر عام 1938 اكتشفت ليز مايتنر وأوتو هان وفريتز شتراسمان ظاهرة الانشطار الذري. عملت مايتنر في ألمانيا برفقة الفيزيائيين هان وشتراسمان، حتى فرت إلى السويد هربا من القمع النازي. ومن خلال عملها في ألمانيا عرفت مايتنر أن نواة اليورانيوم 235 تنقسم (تنشطر) إلى نواتين أخف عند قصفها بأحد النيوترونات، وأن مجموع الجسيمات الناتجة عن عملية الانشطار لا يساوي في كتلته كتلة النواة الأصلية. علاوة على ذلك، خمنت مايتنر أن ذلك الفارق يخرج على شكل طاقة منطلقة؛ طاقة أعظم مائة مليون مرة من تلك المنطلقة في الأحوال العادية من التفاعل الكيميائي بين ذرتين. وفي يناير 1939 أثبت ابن أختها - أوتو فريش - هذه النتائج، وحسب - مع مايتنر - ذلك المقدار غير المسبوق من الطاقة المنطلقة. استخدم فريش المصطلح «انشطار»، المأخوذ من الانقسام البيولوجي للخلية، في تسمية هذه العملية. بعد هذا بوقت قصير أبحر الفيزيائي الدنماركي نيلز بور إلى الولايات المتحدة وأعلن عن الاكتشاف. وفي أغسطس، نشر كل من بور وجون إيه ويلر، إبان عملهما بجامعة برينستون، نظريتهما التي تقضي بأن النظير المسمى «يورانيوم 235»، الموجود بكميات ضئيلة داخل اليورانيوم 238، كان أكثر قابلية للانقسام من اليورانيوم 238؛ لذا ينبغي أن يكون هو محور تركيز الأبحاث العاملة على اليورانيوم. وقد افترضا أيضا أن عنصرا تاليا على اليورانيوم - لا يحمل مسمى علميا ولم يرصد بعد، ويوصف على نحو ملائم بأنه «شديد الاشتعال»، وينتج أثناء انشطار ذرة اليورانيوم 238 - سيكون قابلا للانشطار بدرجة كبيرة. سرعان ما أدرك إنريكو فيرمي وليو زيلارد أن الانقسام أو الانشطار الأول من شأنه أن يتسبب في انشطار تال، وهكذا دواليك، في سلسلة من التفاعل المتسلسل تتزايد بمتوالية هندسية. وكانت هذه هي اللحظة التي أقنع فيها زيلارد وزملاؤه من علماء الذرة أينشتاين بأن يكتب إلى روزفلت.
سرعان ما أدرك الفيزيائيون في كل مكان أنه لو أمكن تطويع التفاعل المتسلسل فمن الممكن أن يؤدي الانشطار إلى مصدر جديد واعد للطاقة. كل ما كان مطلوبا هو مادة يمكنها «تلطيف» طاقة النيوترونات المنبعثة من عملية التحلل الإشعاعي، بحيث يمكن لذرة أخرى قابلة للانشطار أن تقتنصها، وكان الماء الثقيل هو أبرز المواد المرشحة لأداء هذه المهمة. بعد اكتشاف عملية الانشطار الذري، طلب الفيزيائي النازي كورت ديبنر من فيرنر هايزنبرج - الفيزيائي الألماني الحاصل على جائزة نوبل - أن يعمل في مفاعل خاص بالتفاعل المتسلسل في سبتمبر 1939. وبينما اختار الأمريكان تحت قيادة فيرمي الكربون الطري (الجرافيت) من أجل إبطاء النيوترونات الناتجة عن انشطار اليورانيوم 235 أو تلطيفها بحيث يمكنها التسبب في المزيد من عمليات الانشطار في تفاعل متسلسل، اختار هايزنبرج الماء الثقيل. وقد حسب هايزنبرج الكتلة الحرجة اللازمة للقنبلة في تقرير أرسله في السادس من ديسمبر 1939 إلى إدارة التسليح الألمانية. وقد خلصت معادلته - في ظل قيم المؤشرات النووية المفترضة في ذلك الوقت - إلى كتلة حرجة قدرها مئات الأطنان من اليورانيوم 235 الخالص «تقريبا» من أجل تحقيق تفاعل متفجر؛ وهو نموذج هايزنبرج للقنبلة في ذلك الوقت. كان هذا بعيدا كل البعد عما يستطيع الألمان إنتاجه. وفي ظل استحالة الحصول على اليورانيوم المطلوب، اتجه الألمان صوب البلوتونيوم؛ وهو ما كان يعني بناء مفاعل نووي من أجل تحويل اليورانيوم الطبيعي إلى بلوتونيوم. لكن على عكس مشروع مانهاتن الأمريكي، لم يستطع برنامج الفيزياء النووية الألماني قط إنتاج مفاعل نووي للكتلة الحرجة، وذلك على الرغم من جهود هايزنبرج وديبنر. بل في الواقع بدت محاولة النازيين لبناء سلاح نووي واهنة وغير منظمة، أما جهودهم لبناء سلاح نووي فلم يكن لها وجود من الأساس. لكن الحلفاء لم يعلموا بهذا، كما لم يعلموا الكثير عن جهود اليابان لبناء سلاح نووي.
صفحه نامشخص
ففي طوكيو - خريف عام 1940 - خلص الجيش الياباني إلى أن بناء القنبلة النووية أمر ممكن. وقد عهد بالمشروع إلى معهد الأبحاث الفيزيائية والنووية - أو «ريكين» - تحت إدارة يوشيو نيشينا. أيضا عملت البحرية الإمبراطورية في اجتهاد على بناء «القنبلة الخارقة» الخاصة بها، وذلك في مشروع سمي
F-Go (أو
No. F ؛ حيث الحرف
F
اختصار لكلمة
fission
بمعنى «انشطار»)، ترأسه بونساكو أركاتسو، وذلك قرب نهاية عام 1945. وقد ظهر برنامج
F-Go
للنور في عام 1942. ومع ذلك، لم يكن الالتزام العسكري مدعوما بالموارد الملائمة، ولم تحقق الجهود اليابانية لبناء قنبلة ذرية سوى تقدم يسير بنهاية الحرب.
وقد تعطلت الجهود اليابانية النووية في أبريل من عام 1945 حين أتلفت غارة من قاذفات «بي-29» جهاز التوزيع الحراري الخاص بنيشينا. تزعم بعض التقارير أن اليابانيين بسبب هذا نقلوا عملياتهم النووية إلى هونجنام، وهي الآن جزء من كوريا الشمالية؛ ومن المحتمل أن يكون اليابانيون قد استخدموا هذه المنشأة من أجل تصنيع كميات صغيرة من الماء الثقيل. وقد استولت القوات السوفييتية على هذه المنشأة مع نهاية الحرب، وتزعم بعض التقارير أن منتجات منشأة هونجنام قد جمعت شهرا بعد الآخر بواسطة الغواصات السوفييتية، بوصفها جزءا من برنامج الطاقة النووية السوفييتي (انظر الفصل الرابع).
صفحه نامشخص
ثمة مؤشرات على أن البرنامج الياباني كان أكبر مما يعتقد إجمالا، وأنه كان هناك تعاون وثيق بين قوات المحور، بما في ذلك التبادل السري للمواد الحربية. فالغواصة النازية «يو-234» التي استسلمت للقوات الأمريكية في مايو 1945 كانت تحمل 560 كيلوجراما من أكسيد اليورانيوم الموجه للبرنامج الذري الياباني. وقد احتوى هذا الأكسيد على 3,5 كيلوجرامات من اليورانيوم 235؛ وهو ما يعادل خمس إجمالي كمية اليورانيوم 235 المطلوبة لبناء قنبلة واحدة. وبعد أن استسلمت اليابان في أغسطس 1945، عثرت قوات الجيش الأمريكي على خمسة معجلات دورانية من الممكن استخدامها في فصل اليورانيوم القابل للانشطار عن اليورانيوم العادي. وقد حطم الأمريكان هذه المعجلات وأغرقوها في ميناء طوكيو.
الطريق إلى ترينيتي
ضم مشروع مانهاتن - ذلك المشروع العلمي الصناعي الضخم الذي عمل به 65 ألف شخص - بين جنباته أعظم فيزيائيي العالم في المناحي العلمية والتطويرية. ومن جانبها، استثمرت الولايات المتحدة استثمارا غير مسبوق في أبحاث الحرب من أجل هذا المشروع، وهو المشروع الذي امتد عبر 30 موقعا في كل من الولايات المتحدة وكندا. كان التصميم والبناء الفعلي للأسلحة يتركز في مختبر سري في لوس ألاموس - بولاية نيومكسيكو - كان في السابق مدرسة ريفية بالقرب من سانتا في. وقد بدأ المختبر الذي صمم أولى القنابل الذرية وصنعها يأخذ شكله النهائي في ربيع عام 1942 مع التوصية بأن ينظر كل من «المكتب الأمريكي للتطوير العلمي والبحثي» والجيش في سبل تعزيز عملية تطوير القنبلة. وحين تولى الجنرال جروفز إدارة المشروع في سبتمبر كانت لديه أوامر بإنشاء لجنة لدراسة التطبيقات العسكرية للقنبلة. بعدها بوقت قصير ترأس جيه روبرت أوبنهايمر مجموعة من الفيزيائيين النظريين أسماهم النجوم الساطعة - تضمنت فيليكس بلوش، وهانز بيته، وإدوارد تيلر، وروبرت سيبر - بينما عاونه جون إتش مانلي عن طريق التنسيق بين الأبحاث التي تجري في جميع أنحاء البلاد على الانشطار النووي، وكذا دراسات المعدات والقياسات الآتية من مختبر علوم السبائك في شيكاجو. ورغم عدم اتساق النتائج الآتية من التجارب، كانت الآراء في بيركلي (حيث أعير أغلب العلماء) تجمع على أن المقدار المطلوب من المادة القابلة للانشطار يزيد بنحو الضعف عن ذلك الذي قدر قبل ستة أشهر. كان ذلك أمرا مقلقا، خاصة في ضوء وجهة النظر العسكرية التي كانت ترى أن ثمة حاجة لأكثر من قنبلة واحدة من أجل الانتصار في الحرب.
بطرق عدة، سار العمل في مشروع مانهاتن على نحو مشابه لما يحدث في أي شركة إنشاءات كبرى. فاشترى المشروع مواقع العمل وجهزها، وأجرى مناقصات لعقود العمل، وعين الموظفين ومقاولي الباطن، وبنى المساكن والمنشآت الخدمية وقام على صيانتها، وقدم طلباته من المواد الخام، وطور الإجراءات المحاسبية والإدارية، وأسس شبكات التواصل. وبنهاية الحرب، كان الجنرال جروفز والعاملون لديه قد أنفقوا نحو 2,2 مليار دولار على منشآت الإنتاج ومدنها في ولايات تينيسي وواشنطن ونيومكسيكو، وأيضا على الأبحاث التي تجري في المختبرات الجامعية في كل من جامعة كولومبيا، ومدينة نيويورك، وجامعة كاليفورنيا في بيركلي، علاوة على أوجه أخرى للإنفاق. لكن ما جعل مشروع مانهاتن مختلفا بوضوح عن أي شركة تؤدي وظائف مشابهة هو أنه بسبب الحاجة إلى التحرك بسرعة، فقد استثمر المشروع مئات الملايين من الدولارات في عمليات غير معروفة وأخرى لم تثبت صحتها حتى ذلك الوقت، وفعل كل هذا على نحو سري بالكامل. فقد كانت السرعة والسرية هما شعار مشروع مانهاتن.
وكم كانت السرية أمرا مفيدا! فرغم أنها اقتضت العمل في مواقع نائية، وتطلبت التمويه عند الحصول على العمالة والموارد، وشكلت مصدر إزعاج دائم للعلماء الأكاديميين العاملين بالمشروع، إلا أنها كانت ذات مزية طاغية؛ وهي أنها مكنت من اتخاذ القرارات دون اهتمام يذكر بالاعتبارات السائدة وقت السلم. كان جروفز يعلم أنه طالما حظي بدعم الرئيس فستكون الأموال متاحة وسيمكنه تكريس طاقته بالكامل لإدارة المشروع. وقد كانت السرية كاملة لدرجة أن العديد من العاملين بالمشروع لم يعلموا ما كانوا يعملون عليه إلى أن سمعوا بقصف هيروشيما على المذياع .
علاوة على ذلك، تسببت الحاجة إلى السرعة في توضيح الأولويات، وصارت سمة لعملية صنع القرار. فقد تعين استخدام أبحاث غير منتهية على ثلاث عمليات غير مثبت صحتها في تشكيل خطط التصميمات من أجل منشآت الإنتاج، حتى رغم معرفة أن النتائج اللاحقة ستحتم عمل بعض التغييرات. وفي خرق لجميع ممارسات التصنيع المتعارف عليها تم التغاضي عن المرحلة الاستطلاعية بالكامل، وهو ما أدى إلى عمليات توقف مؤقتة وعمليات لانهائية لحل المشكلات خلال التجارب الأولى في منشآت الإنتاج. وقد تسببت المشكلات الكامنة في ضغط المراحل بين المختبر والإنتاج الكامل في خلق مناخ مشحون انفعاليا، تقلبت فيه المشاعر بين التفاؤل والإحباط في تناوب محير.
ورغم تأكيدات جروفز أن القنبلة الذرية سيكون من الممكن إنتاجها بحلول عام 1945، فإنه هو وكبار المدراء ذوي الصلة بالمشروع أدركوا تمام الإدراك مدى عظم المهمة التي تنتظرهم. وإنه لإنجاز صناعي عظيم أن تستطيع مؤسسة كبرى أن تنقل أبحاث المختبرات إلى مرحلة التصميم، ثم البناء، ثم العمل، ثم تسليم المنتج في فترة قوامها عامان ونصف العام (من 1943 إلى أغسطس 1945). كان السؤال عن قدرة مشروع مانهاتن على إنتاج القنابل بحيث تؤثر على نتيجة الحرب العالمية الثانية سؤالا مختلفا بالمرة مع مطلع عام 1943. ورغم وضوح الأمر أمامنا الآن، ينبغي أن نتذكر أنه ما من أحد في ذلك الوقت كان يعلم أن الحرب ستنتهي في عام 1945، أو من الأطراف المتناحرة المتبقية - وهو الأمر المساوي في الأهمية - عندما تصبح القنبلة الذرية جاهزة للاستخدام، هذا إن أصبحت جاهزة للاستخدام من الأساس.
شكل 2-1: نسخة من قنبلة «الرجل البدين».
وفي تمام الخامسة والنصف صبيحة يوم الاثنين الموافق السادس عشر من يوليو 1945، شهدت مجموعة من المسئولين والعلماء تحت قيادة جروفز وأوبنهايمر التفجير الأول للقنبلة الذرية، وذلك في «ترينيتي»؛ وهو الاسم الكودي لموقع الاختبار التابع لمشروع مانهاتن في ألاموجوردو بنيومكسيكو. ولكم كان عرضا مذهلا! فقد شق سهم من الضوء الساطع ظلمة صحراء نيومكسيكو، مبخرا البرج ومحيلا الأسفلت حول القاعدة إلى رمل أخضر منصهر. أطلقت القنبلة قوة تفجيرية مقدارها نحو 19 ألف طن من مادة تي إن تي، وعلى نحو مباغت صارت سماء نيومكسيكو أشد سطوعا من شموس عدة. عانى بعض المراقبين من عمى مؤقت رغم أنهم كانوا ينظرون إلى الضوء الساطع عبر زجاج معتم. وبعد الانفجار بثوان حلت موجة انفجارية هائلة، أطلقت الحرارة المتقدة عبر الصحراء، وأطاحت أرضا ببعض المراقبين الواقفين على بعد 1000 ياردة. كما أطيح بحاوية من الصلب وزنها 200 طن تقف على بعد نصف الميل من نقطة الانفجار أرضا وتمزق جزء منها. وبينما تمددت كرة النار ذات اللونين البرتقالي والأصفر وانتشرت، ارتفع عامود آخر - أرفع من السابق - عاليا وتسطح على صورة سحابة عيش الغراب، مقدما للعصر الذري رمزا صار محفورا منذ تلك اللحظة في الوعي البشري. وقد أطلق ويليام لورانس - مراسل نيويورك تايمز - على الانفجار «أولى صرخات عالم وليد».
ولكسر من الثانية، كان الضوء المنبعث في موقع ترينيتي أعظم من أي ضوء أنتج من قبل على الأرض، وكان من الممكن رؤيته من كوكب آخر. وبينما خفت الضوء وارتفعت سحابة عيش الغراب، تذكر أوبنهايمر شطرا من نص بهاجافاد جيتا الهندوسي المقدس يقول: «أنا أصبحت الموت/مدمر العالم.» أما التعليق الأقل اقتباسا لكن الأكثر رسوخا في الذاكرة؛ فكان تعليق مدير الموقع كينيث برينبريدج الذي قال لأوبنهايمر: «أوبي، الآن صرنا جميعا أبناء عاهرات.» وقد ظل شبح القوة المدمرة المرعبة للأسلحة الذرية وما قد تستخدم هذه الأسلحة فيه يطارد العديد من علماء مشروع مانهاتن لبقية حياتهم.
صفحه نامشخص
شكل 2-2: نسخة من قنبلة «الولد الصغير».
بنهاية شهر يوليو، كان مشروع مانهاتن قد أنتج نوعين مختلفين من القنابل الذرية، حملا الاسمين الكوديين «الرجل البدين» و«الولد الصغير». كانت قنبلة الرجل البدين هي أكثر القنبلتين تعقيدا. كانت هذه القنبلة ذات الشكل الشبيه بالبصلة والبالغ طولها عشرة أقدام تحتوي على كرة من البلوتونيوم 239، وكانت هذه الكرة محاطة بكتل من مادة شديدة الانفجار مصممة بحيث تنتج انفجارا داخليا متناظرا عالي الدقة. من شأن هذا الانفجار الداخلي أن يضغط كرة البلوتونيوم حتى تصل إلى الكثافة الحرجة، ومن ثم يبدأ تفاعل نووي متسلسل . لم يكن العلماء في لوس ألاموس واثقين من تصميم قنبلة البلوتونيوم، ومن هنا كانت الحاجة إلى اختبار القنبلة في موقع ترينيتي. أما قنبلة الولد الصغير فكانت ذات تصميم أبسط بكثير من قنبلة الرجل البدين. كانت قنبلة الولد الصغير تطلق انفجارا نوويا - لا انفجارا داخليا - عن طريق إطلاق قطعة من اليورانيوم 235 صوب قطعة أخرى. وحين يتجمع قدر كاف من اليورانيوم 235، يستطيع تفاعل الانشطار النووي الناتج أن ينتج انفجارا نوويا. لكن من الضروري تجميع الكتلة الحرجة في سرعة شديدة، وإلا ستتسبب الحرارة المنطلقة عند بدء التفاعل في الإطاحة بأجزاء اليورانيوم بعيدا قبل أن يدخل معظمها في التفاعل. ولمنع هذا الانفجار السابق على أوانه استخدمت القنبلة مسدسا لإطلاق قطعة واحدة من اليورانيوم 235 داخل ماسورة صوب قطعة أخرى. علاوة على ذلك، كان من المعتقد أن شكل القنبلة الأشبه بماسورة البندقية موثوق به إلى درجة عظيمة بحيث استبعدت فكرة الاختبار التجريبي. ومن المثير للاهتمام أنه لم تكن هناك فرصة لاختبار هذه القنبلة على أي حال؛ وذلك لأن إنتاج قنبلة الولد الصغير استنفد كل كمية اليورانيوم 235 المنتجة حتى ذلك الحين. لكن ما من شك في أن مشروع مانهاتن استطاع أن ينقل اكتشاف الانشطار النووي من المختبر إلى ميدان المعركة.
قرار إلقاء القنبلة على هيروشيما
سرعان ما نقل الجنرال جروفز خبر التجربة إلى الضابط المعاون لوزير الحرب ستيمسون، الذي بدوره نقل الخبر إلى الوزير بطريقة مبهمة: «جرى العمل عليها هذا الصباح. لم يكتمل التشخيص بعد، لكن النتائج تبدو مرضية وتفوق توقعاتنا بالفعل.» بعد ذلك أعطى ستيمسون - المفعم بالإثارة - ترومان تقريرا مبدئيا في المساء، بعد عودة الرئيس ترومان من جولته في برلين وهو لا يزال في مؤتمر بوتسدام. ورغم أن نجاح القنبلة أزال عبئا كبيرا عن عاتقه، فإن ترومان - الذي لم يكن قد قرر حتى تلك اللحظة ما إذا كان سيحتاج مساعدة السوفييت من أجل الإجهاز على اليابانيين - أخبر ستالين على نحو عارض بأن الولايات المتحدة «تملك سلاحا جديدا ذا قدرة غير عادية على التدمير». ورد ستالين - الذي كان له جواسيس نشطون في نيومكسيكو - بقوله إنه يأمل أن يحسن الأمريكان استخدامه. وبالتأكيد، مع نجاح تجربة ترينيتي، رأت حكومة الولايات المتحدة أنها قادرة على إنهاء الحرب دون مساعدة من الروس؛ ومن ثم وجه ترومان من بوتسدام إنذارا إلى طوكيو بالاستسلام الفوري دون قيد أو شرط، وإلا فإنها ستواجه «دمارا فوريا وشاملا».
على أي حال، صارت الولايات المتحدة تملك في ترسانتها سلاحا ليس له مثيل من حيث التدمير، بل إن ستيمسون اقترح أن هذا السلاح من شأنه أن يخلق «علاقة جديدة بين الإنسان والكون». اتفق مستشارو ترومان على أن القنبلة الذرية قادرة على إنهاء الحرب في المحيط الهادي، لكنهم اختلفوا حول أفضل السبل لاستخدامها. وهنا تكمن المفارقة؛ فالعلماء الذين طوروا القنبلة كانوا يريدون استخدامها ضد النازيين، وشعروا بالجزع الشديد حين علموا أنها ستستخدم ضد اليابان. وقد اقترح البعض إظهار قدرات القنبلة من خلال تفجيرها في منطقة غير مأهولة، فيما نادى آخرون بأنها يجب أن تستخدم ضد القوات البحرية اليابانية ولا ينبغي استخدامها مطلقا ضد المدن اليابانية، بل وذهب البعض إلى أن المقصد ليس هزيمة اليابان بقدر ما هو توظيف «الدبلوماسية الذرية» ضد الاتحاد السوفييتي، وضرب المثل من أجل تيسير التعامل معه في شرقي ووسط أوروبا بعد انتهاء الحرب.
وبعد تدارس المقترحات المتعددة، خلص ترومان إلى أن السبيل الوحيد لتقصير زمن الحرب - وفي الوقت ذاته تجنب غزو اليابان - هو استخدام القنبلة ضد المدن اليابانية. وبعد الساعة الثامنة والربع بقليل صبيحة يوم السادس من أغسطس 1945، ألقت قاذفة وحيدة من طراز «بي-29» تدعى «إينولا جاي» قنبلة الولد الصغير فوق مدينة هيروشيما (عدد سكانها 350 ألف نسمة)، ثاني أهم المراكز الصناعية والعسكرية في اليابان؛ مما تسبب على الفور في مقتل ما بين 80 و140 ألف شخص، وإلحاق إصابات خطيرة بمائة ألف آخرين أو أكثر. كانت تلك أول قنبلة يورانيوم 235 (تلك القنبلة التي لم تختبر من قبل قط)، وكانت ذات قوة تفجيرية مقدارها 20 ألف طن من مادة تي إن تي، وهي قدرة تافهة بدائية مقارنة بمعايير القنابل النووية الحرارية اللاحقة. ومع ذلك، في تلك اللحظة الرهيبة، دمر 60 بالمائة من مدينة هيروشيما؛ أي 4 أميال مربعة، وهي مساحة تعادل ثمن مساحة مدينة نيويورك. قدرت حرارة الانفجار بأكثر من مليون درجة مئوية، وهو ما أضاء الهواء المحيط وشكل كرة نارية قطرها نحو 840 قدما. وقد أفاد شهود عيان يبعدون أكثر من خمسة أميال بأن سطوع الانفجار فاق سطوع الشمس بعشر مرات، وشعر الناس بالانفجار على بعد 37 ميلا. تهدم أكثر من ثلثي مباني مدينة هيروشيما، وتسببت مئات الحرائق المشتعلة والموجة الحرارية للانفجار مجتمعة في إنتاج عاصفة نارية أحرقت كل ما كان موجودا في مساحة محيطها 4,4 أميال من مركز الانفجار محيلة إياه إلى رماد. واختفت هيروشيما تحت زبد فائر من اللهيب والدخان.
شكل 2-3: سحابة عيش الغراب ترتفع فوق هيروشيما.
بعدها بثلاثة أيام، وفي التاسع من أغسطس، ألقت قاذفة وحيدة أخرى من طراز «بي-29» تدعى «بوكس كار» قنبلة الرجل البدين (القنبلة التي جرى اختبارها في موقع ترينيتي) على مدينة ناجازاكي (عدد سكانها 253 ألف نسمة)، التي تضم مصنعين حربيين كبيرين لشركة ميتسوبيشي على نهر أوراكامي؛ مما تسبب على الفور في مقتل 24 ألف شخص وإصابة 23 ألفا آخرين. كان لقوة قنبلة البلوتونيوم قوة تفجيرية مقدارها 22 ألف طن من مادة تي إن تي، وهو ما يعادل الحمولة المجتمعة لأربعة آلاف قاذفة من طراز «بي-29»، أو أقوى بألفي مرة من القوة الانفجارية لما كان في السابق أشد قنابل العالم تدميرا؛ قنبلة «الضربة الساحقة» البريطانية، تلك القنبلة التي تمثل تحسينا تكنولوجيا في استراتيجية قصف المدن طوره الحلفاء خلال قصف كل من هامبورج ودريسدن. لكن على العكس من هيروشيما، لم تكن هناك عاصفة نارية هذه المرة. ورغم هذا، كان الانفجار أشد تدميرا للمنطقة المحيطة المباشرة؛ وذلك بسبب الطبيعة الطبوغرافية والقوة الأعتى لقنبلة الرجل البدين. إلا أن المنطقة شبه الجبلية المليئة بالتلال حدت من مساحة الدمار لما هو أقل من هيروشيما، ولم تكن الخسائر في الأرواح فادحة كحال هيروشيما. وفي ظل عدم قدرة الأطباء اليابانيين على تفسير السبب وراء أن العديد من المرضى المدنيين الذين لم يصابوا باتوا يذوون حتى الموت؛ ارتفعت حصيلة الوفيات في كلتا المدينتين، بينما بدأ السكان يقعون ضحايا للأمراض المرتبطة بالإشعاع.
شعر بموجات الصدمة فيما وراء الجزر اليابانية. وجاهدت الصحف الغربية كي تشرح للجمهور - المنتشي بالانتصار والمتحير في الوقت نفسه - كيف تمكن آلاف العلماء الأمريكان والبريطانيين والكنديين من تسخير قوة الشمس بحيث تحقق مثل هذا التأثير القاتل. ولم يكن من اليسير أيضا تفسير الكيفية التي استطاعت بها الولايات المتحدة تنفيذ برنامج علمي وعسكري بحجم مشروع مانهاتن وطوله بهذه الدرجة من السرية. وقد كانت النظرة المتناقضة للإنجاز الحكومي مطابقة لاستجابة الجمهور الأمريكي للقنبلة ذاتها؛ إذ خفف الإدراك المتزايد لمدى عظم المسئوليات التي يفرضها امتلاك مثل هذا السلاح القوي من الابتهاج بإمكانية تحقيق السلام الفوري. وذهب المنتقدون مثل العالم البريطاني بي إم بلاكيت إلى أنه على أفضل تقدير يمكن النظر إلى هيروشيما وناجازاكي بوصفهما الفصل الأول من الحرب الباردة وليسا الفصل الختامي للحرب العالمية الثانية. وبعد بناء القنبلة على الفور تقريبا ظهرت الآراء المعارضة للطاقة النووية. وقد حذر «تقرير فرانك» - الصادر في الحادي عشر من يونيو 1945، والموقع عليه من عدد من العلماء العاملين بمشروع مانهاتن - وزير الحربية ستيمسون من أن أي هجوم غير مسبوق بتحذير من شأنه أن يفضي إلى سباق تسلح. بيد أنه تم تجاهل التقرير والعلماء الموقعين عليه.
امتد تأثير السلاح الجديد إلى ما وراء الدوائر العسكرية والعلمية التي جرى تطويره فيها، وإلى حد غير مسبوق بدأ يتسرب إلى خيال العامة، بينما صارت صور سحابة عيش الغراب رمزا للقدرة التدميرية الجديدة المكتشفة. إن «أعظم مقامرة علمية في التاريخ» - حسب وصف ترومان - قد نجحت بفعالية ساحقة، ولم يكن ثمة شك في أننا وصلنا بها إلى نقطة تحول في تاريخ العالم المعاصر. في الحقيقة، صارت «القنبلة» - وهو الاسم المختصر الذي سرعان ما أطلق عليها - الملمح المميز لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
صفحه نامشخص
وفي ظل الاستسلام الوشيك لليابان، وإدراكا من الاتحاد السوفييتي بأنه لو أراد أن يلعب دورا في آسيا ما بعد الحرب فإن عليه أن يدخل الحرب بسرعة؛ أعلن الاتحاد السوفييتي الحرب على اليابان في الثامن من أغسطس، وذلك قبل أسبوع من الموعد الذي تعهد ستالين في مؤتمر بوتسدام بإعلان الحرب فيه. وبعد تسع دقائق من هذا الإعلان شن الجيش والقوات الجوية التابعان لجناح الشرق الأقصى من الجيش السوفييتي هجوما ضخما على القوات اليابانية في منشوريا وشبه الجزيرة الكورية. كما شكل احتلال جزر الكوريل وجنوبي سخالين جزءا من الحملة السوفييتية بالقارة الآسيوية. وقد تسبب الهجوم السوفييتي الضاري في إيقاع عدد كبير من الضحايا في صفوف جيش كوانتونج الياباني؛ إذ قتل 80 ألف جندي ياباني (في مقابل 8219 قتيلا و22264 جريحا في صفوف السوفييت) في أقل من أسبوع. لقد أزفت الآزفة.
مستسلما لحقيقة الموقف، تمكن الإمبراطور هيروهيتو - مدعوما بمستشاريه المدنيين - أخيرا من فرض كلمته على طبقة العسكريين، وأمر باستسلام بلاده في الرابع عشر من أغسطس. ومن جانبها، وافقت الولايات المتحدة على الإبقاء على النظام الإمبراطوري، على أن يتخلى عن مزاعم الألوهية، وأن يكون خاضعا للاحتلال الأمريكي بقيادة الجنرال دوجلاس ماك آرثر. وفي الثاني من سبتمبر، وهو ما صار يعرف بعد ذلك ب «يوم النصر على اليابان»، أبحر أسطول كبير للحلفاء إلى خليج طوكيو. وعلى متن السفينة يو إس إس ميزوري، قبل الجنرال ماك آرثر الاستسلام الياباني نيابة عن قوات الحلفاء. وفي احتفال بسيط، أغلق آخر فصول الحرب العالمية الثانية.
الفصل الثالث
«الاختيار بين السريع والقاتل»
حين نتدبر أصول عملية نزع السلاح النووي والقضايا المتعلقة بها عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة، علينا أن نضع في حسباننا أنه في بداية العصر النووي لم يكن هناك وجود لأي قواعد، ولا وجود لمعايير خاصة بمنع الانتشار النووي، ولا وجود لمفهوم الردع النووي، وتحديدا لم يكن هناك وجود لأي خطوط حمراء فيما يخص الحرب النووية. لكن كان هناك سباق تسلح واضح، يسير في جدية عقب صراع أدى إلى إزهاق نحو 60 مليون روح. في الوقت عينه، حملت التطورات في مجال الطاقة النووية آمالا مستقبلية في استخدام هذه الطاقة من أجل الأغراض السلمية؛ مثل إمكانية أن تمد الطاقة النووية العالم بمصدر لا ينضب من الطاقة. والمهم في الأمر أن العمليات المرتبطة بالاستخدامات العسكرية والمدنية للطاقة الذرية كانت واحدة تقريبا.
تقليديا، كانت هناك جهود لمشاركة المعلومات على المستوى الدولي، شأن ما يحدث في أغلب التطورات العلمية. لكن بسبب القدرة التدميرية المعروفة جيدا للقنبلة الذرية والقوة التي تمنحها هذه القنبلة للدولة التي تملكها؛ لم تكن الولايات المتحدة مستعدة للإفصاح عن أسرارها النووية في غياب نظام ضبط دولي فعال. ومنذ ذلك الوقت والتوفيق بين الرغبة في جني الفوائد السلمية لهذه القوة المسخرة حديثا وبين الحاجة للسيطرة على قدراتها التدميرية الممكنة يمثل مشكلة عويصة.
ركزت الجهود المبكرة على مجابهة المشكلة من خلال الاتفاقات الدولية، وساوت بين عدم الانتشار النووي ونزع السلاح النووي. فلم يكد يمر شهران على ضرب هيروشيما بالقنبلة الذرية حتى أخبر الرئيس هاري إس ترومان الكونجرس بأن «أمل الحضارة يكمن في الاتفاقات الدولية الساعية - إن أمكن - إلى التخلي عن تطوير القنبلة الذرية واستخدامها.» كان العديد من علماء الذرة البارزين يحملون نفس وجهة النظر. وقد أوصى «تقرير فرانك»، المسمى على اسم رئيس اللجنة التي أصدرته، في يونيو 1945 - وقبل أن تلقى القنبلة الذرية على اليابان - بأنه نظرا لأنه سيكون من المستحيل على الولايات المتحدة أن تحتكر السلاح النووي بشكل دائم، فمن الضروري أن يتحقق التخلص من الأسلحة النووية من خلال الاتفاقات الدولية.
استهدفت تحركات سياسية عديدة تأسيس إطار عمل يمكن فيه السيطرة على الطاقة النووية. وقد تم التوصل إلى «الإعلان المتفق عليه بين الدول الثلاث»، وذلك بين الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وكندا، شركاء الحرب المتعاونين في تطوير القنبلة. وفي الخامس عشر من نوفمبر 1945 - في واشنطن - أعلنت الدول الثلاث عن نيتها أن تتشارك مع جميع الدول المعلومات العلمية المرتبطة بالطاقة الذرية من أجل الأغراض السلمية أو المدنية. وإدراكا للمعضلة المتمثلة في التوفيق بين القوتين التدميرية والسلمية للطاقة الذرية؛ دعا الإعلان إلى الامتناع عن نشر هذه المعلومات إلى أن توضع الضمانات الملائمة قيد التنفيذ . وبعد ذلك دعا الإعلان الأمم المتحدة إلى تأسيس لجنة من أجل التوصية بنظام عالمي للسيطرة على الطاقة الذرية.
وفي اجتماع «مؤتمر الوزراء» الذي انعقد في موسكو في السابع والعشرين من ديسمبر 1945، وافق الاتحاد السوفييتي على هذه المبادئ في «إعلان موسكو»؛ وهو بيان سوفييتي إنجليزي أمريكي. ضم الإعلان أيضا نصا خاصا بقرار مقترح للأمم المتحدة من أجل تأسيس لجنة معنية بالسيطرة على الطاقة الذرية، وقد دعا الإعلان فرنسا والصين وكندا للمشاركة في رعاية القرار، وبالفعل تمت الموافقة على القرار بالإجماع خلال أولى جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة في الرابع والعشرين من يناير 1946.
بهذه الطريقة، تأسست «لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية». وتكونت اللجنة من كل أعضاء مجلس الأمن (أستراليا، والبرازيل، والصين، ومصر، وفرنسا، والمكسيك، وهولندا، وبولندا، والاتحاد السوفييتي، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة)، إضافة إلى كندا؛ أي ما مجموعه اثنتا عشرة دولة. وقد دعا القرار إلى إنشاء لجنة تابعة لمجلس الأمن، تهيمن عليها الولايات المتحدة وبريطانيا والصين والاتحاد السوفييتي. وهذه الخطوة - التي اقترحتها موسكو - بينت كيف أن جهود التشارك في المعرفة الذرية ستكون خاضعة لاعتبارات مجلس الأمن. وقد امتلكت الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن حق النقض (الفيتو)، وذلك فيما يخص القضايا الموضوعية لا الإجرائية. وقد لعب حق النقض - ولا يزال - دورا مهما في جهود السيطرة على الطاقة الذرية.
صفحه نامشخص
تضمنت مسئوليات لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية - من بين ما تضمنت - الإشراف على تبادل المعلومات العلمية الأساسية من أجل الأغراض السلمية، والسيطرة على الطاقة الذرية من أجل ضمان استخدامها للأغراض السلمية وحسب، وإزالة الأسلحة النووية من ترسانات أسلحة الدول، والضمانات الفعالة عن طريق التفتيش وغيره من الوسائل من أجل حماية الدول الملتزمة من مخاطر الانتهاك والتهرب.
في الوقت عينه، شكل وزير الخارجية الأمريكي جيمس إف بيرنز لجنة لدراسة طرق السيطرة والضمانات من أجل حماية الولايات المتحدة، وذلك خلال المفاوضات. جاء الأعضاء الخمسة للمجموعة - بقيادة مساعد وزير الخارجية دين أتشيسون - من دوائر عسكرية وسياسية ذات صلة بعملية تطوير القنبلة. نظرت لجنة أتشيسون إلى «مجلس من الخبراء » بوصفه مصدرا للمعرفة بالجوانب الفنية للطاقة الذرية. كان هذا المجلس تحت رئاسة ديفيد ليلينثال - رئيس هيئة تينيسي فالي - وضم ثلاثة علماء آخرين أبرزهم جيه روبرت أوبنهايمر، الفيزيائي الذي لعب دورا كبيرا في مشروع مانهاتن.
تمخضت جهود هاتين المجموعتين عن وثيقة بعنوان «تقرير عن السيطرة الدولية على الطاقة الذرية»، والذي صار يعرف على الفور باسم «تقرير أتشيسون-ليلينثال». يبرز هذا التقرير - الصادر في أواخر مارس من عام 1946 - الخصائص الفنية التي من شأنها أن تحدد طبيعة نظام السيطرة الدولي على الطاقة الذرية. والأهم من ذلك أن المشاركين في إعداده رأوا فيما خلص إليه من نتائج أساسا للمناقشة وليس خطة نهائية. وقد اعتمد مقترح الولايات المتحدة بتأسيس لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية اعتمادا شديدا على الأفكار الواردة في تقرير أتشيسون-ليلينثال من أجل إرساء نظام للسيطرة الدولية.
خطة باروخ
هذه هي الخلفية الكامنة وراء المقترحات الأمريكية المقدمة إلى الأمم المتحدة في يونيو 1946. وكانت الخطة المعروفة باسم «خطة باروخ» - والمسماة باسم كبير مفاوضيها برنارد باروخ؛ رجل الدولة العجوز الذي عمل مع رؤساء أمريكيين في وظائف متعددة منذ الحرب العالمية الأولى - تهدف إلى منع انتشار الأسلحة النووية، ظاهريا من خلال تأمين التكنولوجيا والمواد الذرية، وذلك عن طريق السيطرة على الأمم المتحدة حديثة المولد. وفق هذه الخطة، من شأن هيئة تابعة للأمم المتحدة أن تشرف على السيطرة على مناجم المواد الخام المستخدمة في الأسلحة النووية وأن تكون مسئولة عن أي عمليات إنتاج. أيضا - بموجب هذه الخطة - سوف تتخلى الولايات المتحدة عن أسلحتها ومنشآتها النووية عبر عملية انتقال مرحلية.
وخلال عرض الخطة على الأمم المتحدة في الرابع عشر من يوليو 1946، استعان باروخ بتلميح ميلودرامي لماضي الولايات المتحدة أيام فترة الغرب المتوحش قائلا: «نحن هنا كي نتخذ خيارا بين السريع والقاتل ... إذا فشلنا، فسنكون قد حكمنا على كل رجل أن يكون عبدا للخوف. دعونا لا نخدع أنفسنا؛ علينا إما أن نختار «السلام العالمي» أو «الدمار العالمي».» كانت أسس خطة باروخ بسيطة بما يكفي بحيث يمكن للجمهور استيعابها، واقترح باروخ - الرئيس السابق لمجلس الصناعات الحربية إبان فترة حكم وودرو ويلسون - إنشاء «هيئة دولية للتطوير الذري» يكون واجبها الوحيد الإشراف على كل مراحل تطوير الطاقة الذرية وعلى استخدامها، على أن يكون مفتاح نجاح عمل هذه الهيئة هو فعاليتها في السيطرة والتفتيش على الأنشطة المتعلقة بالطاقة الذرية؛ لأنه عندئذ - وفقط عندئذ - ستكون الولايات المتحدة مستعدة للتوقف عن تصنيع الأسلحة النووية وكذلك التخلي عن مخزونها من هذه الأسلحة.
عدد باروخ أنشطة متنوعة من الممكن اعتبارها أنشطة إجرامية؛ وهي: امتلاك المواد الخام الذرية المناسبة للاستخدام في القنابل الذرية أو فصلها، والاستيلاء على ممتلكات مملوكة للهيئة أو رخصت بها الهيئة، والتدخل في أعمال الهيئة، وأخيرا الانخراط في مشروعات «خطيرة» تتعارض مع عمل الهيئة أو تتم دون ترخيص من الهيئة. ثم أضاف باروخ إسهامه المميز داعيا إلى توقيع عقوبات شديدة على الدول التي تنخرط في مثل هذه الأعمال. ورغم إقراره بأهمية حق النقض لأعمال مجلس الأمن، فإنه قال إنه فيما يخص الطاقة الذرية «يجب ألا يكون هناك حق نقض يحمي أولئك الذين يخرقون اتفاقاتهم الرسمية القاضية بألا يطوروا أو يستخدموا الطاقة الذرية لأغراض تدميرية.»
تباينت ردود الأفعال حيال الخطة تباينا واسعا. فبعد قراءة الخطبة، امتدح ونستون تشرشل باروخ قائلا: «ما من رجل أفضل أن يتولى زمام مثل تلك المشكلات البغيضة خلاف برنارد باروخ.» وبينما عارض البعض هذه الخطة لأنها تتخلى عن أكثر مما ينبغي، عارضها آخرون لأنها غير منصفة للاتحاد السوفييتي، ودعوا إلى وقف عمليات تصنيع القنابل الذرية فورا. وقد قال نحو 30 من أعضاء مجلس الشيوخ إن الخطة ليست قابلة للتنفيذ العملي، بينما قال رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي آرثر فاندنبرج إن الخطة كانت «أهم لسلام العالم من أي شيء آخر حدث في نيويورك». وبحلول شهر سبتمبر، أفاد استطلاع للرأي بأن 78 بالمائة من الجمهور الأمريكي يؤيد الخطة.
أثارت قضية حق النقض تعليقات مؤيدة وأخرى ناقدة. وقد اتهم الكاتب الصحفي الشهير والتر ليبمان باروخ بأنه يقود الولايات المتحدة إلى طريق مسدود في ظل وجود شرط حق النقض ، بينما دعم قاضي المحكمة العليا - ويليام أو دوجلاس - مقترح باروخ الداعي لتجريد مجلس الأمن من حق النقض فيما يخص الشئون الذرية. وقد رأت صحيفة «ديلي ووركر» الأمريكية الناطقة بلسان الحزب الشيوعي الأمريكي في إلغاء حق النقض فرصة لواشنطن ولندن كي «تحرزا قصب السبق» على الاتحاد السوفييتي، وأن هذا الإلغاء «يمثل انطلاق النسر الأمريكي في جولة افتراس جديدة». وقد جاء رد الكرملين على خطة باروخ بعدها بخمسة أيام - في التاسع عشر من يونيو - في خطاب ألقاه نائب وزير الخارجية السوفييتي أندريه جروميكو.
خطة جروميكو
صفحه نامشخص
تحاشى جروميكو في حديثه الحجة الأمريكية المتعلقة بالسلام الذري، وبدلا من هذا دعا إلى مؤتمر دولي يهدف إلى حظر إنتاج الأسلحة النووية واستخدامها، وفي الوقت ذاته طالب بنزع سلاح الولايات المتحدة النووي كشرط سابق على أي اتفاق. ولتحقيق هذا المقصد، نادى جروميكو بإصدار قرارين؛ أولهما يدعو المؤتمر إلى حظر استخدام القنابل الذرية وإنتاجها، وتدمير الأسلحة الموجودة في غضون ثلاثة أشهر، وفي الوقت نفسه يطلب من المسئولين إصدار قوانين داخل بلادهم لمعاقبة المخالفين، أما القرار الثاني فيدعو إلى تشكيل لجنتين؛ واحدة لتبادل المعلومات العلمية والأخرى لإيجاد السبل لضمان الالتزام بهذه الشروط.
جاء الرد السوفييتي المباشر الوحيد على خطة باروخ في صورة معارضة لإلغاء حق النقض، وذلك على النحو التالي: «إن محاولات تقويض المبادئ، التي أرساها ميثاق مجلس الأمن - بما في ذلك إجماع أعضاء المجلس عند تقرير القضايا الجوهرية - لا تتفق مع مصالح الأمم المتحدة ... [و] يجب أن ترفض.» لم يكن من المرجح أن يقول ممثل جوزيف ستالين غير ذلك، خاصة وقد بدأت الحرب الباردة تتخذ هيئتها.
كان رد فعل واشنطن الرسمي متحفظا. وفي مؤتمر صحفي قال أحد أعضاء الوفد الأمريكي إنه لا يشعر باليأس، ووصف المقترح السوفييتي بأنه «مفتوح للنقاش وليس موقفا سوفييتيا نهائيا». ولتجنب التسبب في شقاق صريح في هذه المرحلة المبكرة من المفاوضات، قدم الوفد الأمريكي إفادات صحفية غير مصحوبة بأسماء كي يعلن عن موقفه. ومن ثم، أفادت صحيفة «ذا نيويورك تايمز» بأنه وفقا لما صرح به مصدر موثوق فإن الولايات المتحدة لم يكن بوسعها أن تقبل خطة جروميكو، على الأقل في غياب الضمانات التي اقترحها باروخ؛ لأن هذا يعني تخلي الولايات المتحدة عن مصدر قوتها العسكرية.
في البداية، وافقت لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية على أن توقف عملها وتتحول إلى لجنة جامعة عاملة؛ وذلك لكي تصيغ خطة تضم كل الأفكار التي اقترحت من أجل هيئة السيطرة الدولية. وقد أعادت كل من واشنطن - التي لاحظت مستوى الدعم الذي حظي به مقترحها - وموسكو التأكيد على موقفيهما السابقين. وبعد قدر من التأخير من جانب جروميكو بسبب الاسم، تشكلت مجموعة أصغر - سميت «اللجنة الفرعية الأولى» - لصياغة الملامح الممكنة التي قد تملكها خطة السيطرة، وكانت الدول الأعضاء بهذه اللجنة هي: فرنسا، والمكسيك، وبريطانيا، والولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي.
اجتمعت اللجنة الفرعية الأولى في الأول من يوليو، بعد يوم واحد من تجربة الولايات المتحدة قنبلة ذرية في جزيرة بيكيني، وهو ما رآه البعض دليلا على أن الولايات المتحدة ليس لديها أي نية للتخلي عن احتكارها للقنبلة. وقد منح استمرار التجارب الذرية الأمريكية للسوفييت نصرا دعائيا، ناهيك عن أنه أمدهم بالحافز كي يواصلوا مسعاهم الخاص في هذا الصدد. وفي الخامس والعشرين من يوليو أجرت الولايات المتحدة تجربة أخرى. لكن في سبتمبر، أجل ترومان التجربة التالية - المقرر القيام بها في مارس 1947 - وكان احترامه للمفاوضات الجارية أحد الأسباب التي دعته لذلك.
أبرزت المناقشات التي جرت في اللجنة الفرعية الأولى بعضا من الخلافات الرئيسية بين الجانبين. فقد أصر جروميكو في البداية على تجريم الأسلحة الذرية بحكم القانون، ولم يكن مهتما بقدر كبير بنظام السيطرة. ومن جانبهم، طالب الأمريكان بنظام سيطرة ملائم قبل أن يتخلوا عن أسلحتهم. كما أن الموقفين المتعارضين للدولتين بشأن مسألة حق النقض زاد من حدة الشقاق بينهما. ورغم أن هدف الأمريكان من تقديم المذكرة كان الحصول على استجابات أكثر تحديدا من السوفييت، فإن جروميكو تشبث بموقفه.
أدرك رئيس اللجنة الفرعية الأولى، وزير شئون الخارجية الأسترالي هربرت إيفات، الطريق المسدود الذي وصلت إليه المفاوضات ، واقترح على اللجنة بأسرها تشكيل ثلاث لجان فرعية جامعة من أجل تناول القضايا الفنية، مع تنحية المسائل السياسية جانبا؛ وذلك على أمل العثور على أرضية مشتركة. وبموافقة الأغلبية وافقت اللجنة على تشكيل «اللجنة الثانية» و«اللجنة الفنية والعلمية» - وهي اللجنة الوحيدة التي دعم السوفييت تشكيلها - إضافة إلى «لجنة قانونية». وقد جرى العمل الأهم داخل اللجنة الفنية.
اجتمعت اللجنة الثانية أولا، بيد أنها عجزت عن تجاوز الخلافات التي شهدتها اللجنة الفرعية الأولى، وصارت منتدى لرفض جروميكو الصريح لخطة باروخ. وقد صرح جروميكو في الرابع والعشرين من يوليو 1946 قائلا إنه اختصارا «من المستحيل أن يقبل السوفييت المقترحات الأمريكية في صيغتها الحالية على الإطلاق، إجمالا أو تفصيلا.» كما رفض بالمثل الإذعان لفكرة إلغاء حق النقض. وقد شدد جروميكو، مستحضرا عملية تأسيس الأمم المتحدة، على أهمية قضية السيادة القومية في مداولاته. وقد أشار جروميكو إلى أن خطة باروخ تعتبر الطاقة الذرية شأنا ذا أهمية دولية، لا قومية. ومن ثم، فقد نظر إلى هذا المبدأ بوصفه خرقا للفقرة السابعة من البند الثاني من ميثاق الأمم المتحدة؛ والتي تدعو إلى عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأعضاء.
بدأت اللجنة الفنية والعلمية اجتماعاتها في التاسع عشر من يوليو، وكان الإطار الذي عمل الأعضاء داخله ناجحا نجاحا عظيما. شكلت اللجنة مجموعة غير رسمية من العلماء، ووافقت على أن أعضاء هذه المجموعة لا يمثلون دولهم، بل هم يستكشفون الجوانب الفنية للضمانات بوصفهم أفرادا، وأي نتائج سيتوصلون إليها من شأنها أن تحال إلى اللجنة الرئيسية. وبالإضافة إلى المعلومات الفنية الواردة في تقرير أتشيسون- ليلينثال، قدمت الولايات المتحدة معلومات عامة وأخرى تخص الاستخدام المفيد للطاقة الذرية في أحد عشر أطروحة مختلفة. واستجابة لأمر تكليفها، أكملت اللجنة الفنية تقريرها في الثالث من سبتمبر، وخلصت إلى أنه تعذر عليها أن تجد «أي أساس فيما هو متاح من حقائق علمية يدعم الافتراض بأن السيطرة الفعالة غير ممكنة من الناحية التكنولوجية». لكن ستظل مشكلة أخرى حاضرة على الدوام؛ المشكلة السياسية.
نظرا للتأخير الشديد الذي شهدته أعمال اللجنة، قرر باروخ أن يكتب خطابا إلى ترومان يطلب فيه الموافقة على توصيتين؛ الأولى تقضي بضرورة فرض تصويت داخل لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية في موعد مبكر، ويفضل قبل يناير 1947، حين تتغير الدول الأعضاء باللجنة، والثانية تقضي بالدعوة للتأهب العسكري في مجال الطاقة الذرية، في حالة الفشل - المرجح - لعمل اللجنة.
صفحه نامشخص
جرت زيارة باروخ إلى البيت الأبيض من أجل تسليم خطابه في الثامن عشر من سبتمبر على خلفية من التغطية الصحفية الواسعة لآراء وزير التجارة هنري والاس، الذي كان معارضا لخطة باروخ. وقد ضربت ملاحظات والاس - التي لاقت قبولا واسعا من الجمهور الليبرالي - باروخ في الصميم، وأضرت بصورته العامة على نحو بالغ. قال والاس إن أحد العيوب الأساسية لخطة باروخ كان الإصرار الأمريكي على أن تتخلى جميع الدول الأخرى عن حقها في استكشاف استخدامات الطاقة النووية، وأن تسلم المواد الخام إلى هيئة دولية، بينما لن تتخلى الولايات المتحدة عن أسلحتها إلى أن تتأكد من إرساء نظام كهذا. وكان والاس يرى أن الولايات المتحدة لم تكن لتقبل بمثل هذه الصفقة لو أنها كانت على الطرف الآخر من طاولة المفاوضات.
رأى باروخ أن مثل هذا الشقاق لن يؤدي إلا إلى تقويض أثر التصويت القادم باللجنة. وفي مؤتمر باريس للسلام لوزراء الخارجية، تقدم وزير الخارجية جيمس إف بيرنز بشكوى مماثلة، زاعما أن تصريحات والاس قد فتت في قوة موقفه هناك. ومن ثم هدد كل من باروخ وبيرنز بالاستقالة ما لم يتراجع والاس عن تصريحاته. وفي ضوء هذه الأزمة طلب ترومان من والاس الاستقالة؛ وبالفعل تلقاها منه في العشرين من سبتمبر.
وبينما تواصلت قضية والاس-باروخ في الصحافة، دعا السوفييت أخيرا إلى تصويت على تقرير اللجنة الفنية والعلمية. وقد سعدت المجموعة بالتصويت السوفييتي لصالح التقرير، بيد أنها كانت سعادة قصيرة الأجل؛ إذ صرح المندوب السوفييتي بأن صوته مصحوب بتحفظ مبني على حقيقة أن المعلومات التي بنيت عليها نتائج التقرير كانت معلومات غير كاملة؛ ومن ثم ينبغي اعتبارها معلومات مفترضة ومشروطة. قبلت اللجنة الثانية بشكل رسمي تقرير اللجنة الفنية والعلمية في الثاني من أكتوبر، وبدأت في سماع شهادة عدد من خبراء المجال.
ورغم سير أعمال اللجنة الثانية على نحو سلس، أوضحت بعض الأفعال السوفييتية خلال شهر أكتوبر 1946 بجلاء أن الطرفين كانا مختلفين أشد الاختلاف. في الوقت عينه ضغط باروخ على ترومان من أجل تلقي رد على الخطاب الذي أرسله له في شهر سبتمبر ودعا فيه إلى تصويت مبكر. وحين تلقى باروخ في نوفمبر الإذن بفرض التصويت بنهاية العام، كانت خطة باروخ قد رفضت بالكامل تقريبا، وصارت سمعته عرضة لهجمات شرسة من جانب السوفييت في الأمم المتحدة.
الحرب الباردة تدخل الصورة
في الثالث عشر من نوفمبر، في أول اجتماع عام للجنة الأمم المتحدة المعنية بالطاقة الذرية، كانت نتيجة التصويت على ضرورة تسليم اللجنة نتائجها وتوصياتها إلى مجلس الأمن قبل الحادي والثلاثين من ديسمبر 1946 موافقة عشر دول مقابل امتناع دولتين (الاتحاد السوفييتي وبولندا) عن التصويت. ورغم تحركات السوفييت الهادفة للتأخير، اقترب باروخ من هدفه المتمثل في عمل تصويت مبكر على خطته. وفي الخامس من ديسمبر اقترح باروخ - الذي تعزز موقفه بفضل الدعم الذي تلقاه من البيت الأبيض - أن يتم تبني الخطة التي تحمل اسمه كتوصية إلى مجلس الأمن، بيد أنه لم يصر على التصويت في ذلك اليوم. وفي العشرين من ديسمبر رفضت لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية مقترحا سوفييتيا بتأجيل التصويت لمدة أسبوع، فيما اقترح الوفد البولندي إحالة خطة باروخ إلى اللجنة السياسية والاجتماعية التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة. عند هذه النقطة، رفض جروميكو الاستمرار في المشاركة، واستمر على هذا الموقف حتى نهاية العام.
بعدها بعدة أيام، وفي السادس والعشرين من ديسمبر، أقرت اللجنة الثانية تقريرها عن الضمانات، ورفعته إلى اللجنة العاملة، التي ناقشت في اليوم التالي خطة باروخ فقرة بفقرة. كانت هناك نقطة خلاف وحيدة: حق النقض. وافقت المجموعة على نقل الأمر إلى لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية الكاملة مع رسالة إحالة تشرح الخلاف المتبقي، وملحوظة تفيد بعدم مشاركة السوفييت. وفي الاجتماع الأخير للجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية، والذي جرى في الثلاثين من ديسمبر، وافقت المجموعة على مقترح باروخ الخاص بتبني تقرير اللجنة العاملة وتقديمه إلى مجلس الأمن اليوم التالي. كانت الموافقة بالأغلبية، لكن دون موافقة السوفييت، وهو ما أفضى إلى ما سماه سيناتور كونيتيكت المستقبلي جوزيف آي ليبرمان، «نصرا زائفا» للولايات المتحدة.
استقال باروخ، كما كان متفقا عليه - بعيد التصويت - تاركا مكانه لمندوب الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، وارن أوستن، وهو ما يفترض به تقوية المركز الأمريكي من خلال الجمع بين منصبي المفاوض والمندوب في شخص واحد. ناقش مجلس الأمن التقرير دون نجاح كبير حتى مارس 1947، حين أصدر قرارا بإحالة المناقشات مرة ثانية إلى لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية. قدمت لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية تقريرها الثاني في سبتمبر، وتضمنت المداولات اثني عشر تعديلا سوفييتيا على التقرير الأول للجنة، رفضت جميعها. لم يناقش مجلس الأمن التقرير الثاني للجنة، واستمرت اللجنة في عملها خلال ربيع عام 1948. خلص التقرير الثالث للجنة إلى أن المجموعة وصلت إلى طريق مسدود، وطلب من مجلس الأمن تعليق المداولات. وفي صيف عام 1948 استخدم السوفييت حق النقض ضد قرار بمجلس الأمن يقضي بالموافقة على كل تقارير لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية، بينما وافق قرار غير ملزم صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة على الخطة التي أقرتها الأغلبية، على أمل أن تجد لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية يوما ما سبيلا لوضع الأسلحة النووية تحت السيطرة. لكن الأمل تبدد على ما يبدو في نوفمبر 1949 حين وافقت الجمعية العامة على تعليق أعمال لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية.
حين قدم برنارد باروخ مقترح الولايات المتحدة المبدئي للتعامل مع الأسلحة الذرية مع بدء عمل لجنة الأمم المتحدة المعنية بالطاقة الذرية في يونيو 1946، فتح الباب أمام مئات - إن لم يكن آلاف - المناقشات ثنائية الأطراف ومتعددة الأطراف بشأن إجراءات السيطرة على التسلح على مدار العقود الستة التالية. كانت خطة باروخ تهدف إلى إنشاء «هيئة دولية للتطوير الذري»؛ من أجل السيطرة على جميع الأنشطة المرتبطة بالطاقة الذرية، بداية من المواد الخام إلى التطبيقات العسكرية، والتفتيش على جميع الاستخدامات الأخرى. وقد عارض المندوب السوفييتي، ومندوبو دول أخرى، المقترح الأمريكي؛ نظرا لأن الولايات المتحدة لم تتخل عن ترسانتها النووية، في الوقت الذي تنتظر فيه من الدول الأخرى أن تتخلى عن تطوير ترساناتها. ولم يكونوا مخطئين تماما. فقد أكد باروخ في ديسمبر 1946 على أن «أمريكا تستطيع الحصول على ما تريد لو أنها أصرت على ذلك، ففي نهاية المطاف نحن من نملك القنبلة الذرية وليسوا هم، وسيستمر الوضع كذلك لفترة طويلة قادمة.» بيد أنه كان مخطئا في كلتا النقطتين؛ إذ رفض السوفييت خطته، وسرعان ما أنتجوا قنابلهم الذرية (انظر الفصل الرابع).
لخص المؤرخ بارتون بيرنشتاين الموقف بقوله: «لم تكن الولايات المتحدة ولا الاتحاد السوفييتي مستعدين في عام 1945 أو عام 1946 لتقبل المخاطر التي يطلبها الطرف الآخر من أجل الوصول لاتفاق. وبهذا المعنى، كان الطريق المسدود الذي وصلت إليه مناقشات موضوع الطاقة الذرية رمزا لانعدام الثقة المتبادل الذي شاب العلاقات السوفييتية الأمريكية.» وقد لعب إصرار واشنطن المتواصل - بداية بخطة باروخ - على فرض أنظمة التفتيش التدخلي من أجل التحقق من الالتزام بالمعاهدات - والذي رآه الاتحاد السوفييتي تجسسا واضحا - دورا بارزا في جعل المساعي المستقبلية للسيطرة على التسلح تصل إلى طريق مسدود. وليس لنا أن نندهش لو سار الأمر على نحو مختلف في «صراع من أجل روح البشرية ذاتها» حسب الكلمات التي تحدث بها الرئيس السابق جورج دبليو بوش بعد ذلك بسنوات عدة في سياق مختلف وإن كان ذا صلة.
صفحه نامشخص
الفصل الرابع
سباق تطوير القنبلة الهيدروجينية
ظهيرة الثالث والعشرين من سبتمبر 1949، وقف رئيس الوزراء البريطاني كليمنت آتلي على درجات مقر الإقامة الرسمي في 10 شارع داوننج، وقرأ بيانا مختصرا جاء فيه: «إن حكومة جلالته تملك أدلة على أنه في غضون الأسابيع القليلة الماضية وقع تفجير ذري في الاتحاد السوفييتي.» وباستثناء الدعوة لمزيد من التعاون نحو السيطرة الدولية على الأسلحة الذرية لم يقدم البيان أي معلومات أخرى. لم يحدد البيان وقت وقوع التفجير ومكانه أو كيفية رصده، رغم أنه اتضح لاحقا أن البيان ألقي بعد مرور قرابة الشهر على التفجير الفعلي - وهو تفجير تجريبي لقنبلة من البلوتونيوم أجري في التاسع والعشرين من أغسطس - الذي تم رصده بعد وقوعه بالفعل بواسطة طائرة تجسس كانت تأخذ عينات من الهواء. لكن لم يكن أي من هذا له أهمية في ذلك الوقت. وحين حاول الصحفيون المتحمسون إثراء القصة وجدوا تكتما مماثلا من جانب المسئولين الحكوميين. كان الاستقبال الجماهيري للخبر فاترا على نحو لافت. وحين استهلت هيئة الإذاعة البريطانية نشرة أخبارها المسائية بهذا الخبر، تحدث التقرير بلهجة محايدة تقليدية. وعلى الجانب الآخر من الأطلسي، أصدر الرئيس هاري ترومان بيانا مماثلا في الوقت عينه تقريبا، ولم يقدم هذا البيان هو الآخر سوى القليل من التفاصيل، بيد أنه عمد إلى تلطيف الاحتجاج السياسي الداخلي من خلال التأكيد على أن حتمية تطوير الاتحاد السوفييتي للقنبلة يوما ما «كانت موضوعة في اعتبارنا طوال الوقت». كانت تبعات الأمر غير واضحة لكن الرسالة كانت كذلك؛ فقد انتهى الاحتكار الذري الأمريكي في وقت مبكر للغاية عما توقعه أكثر المراقبين جدية. بالنسبة للشعب البريطاني، مثل الأمر تذكرة له بأن جزره الصغيرة كثيفة السكان كانت معرضة على نحو خطير للسلاح الجديد. أما بالنسبة للشعب الأمريكي - المحمي بعاملي الوقت والموقع - فقد كان إحساس الخطر الوشيك أقل إلحاحا على الدوام.
كانت دهشة الجماهير من خبر إتقان الاتحاد السوفييتي للقنبلة الذرية فاترة على نحو لافت. لقد جاء تطوير القنبلة في وقت مبكر عما توقعه الجميع تقريبا، بيد أن هذه القدرة لم تكن في حد ذاتها مصدرا للصدمة. كانت التوقعات بشأن الوقت الذي سيتمكن فيه الاتحاد السوفييتي من دخول العصر الذري متباينة بدرجة كبيرة، وهو ما يعكس ندرة الأدلة الملموسة المتعلقة بالبرنامج الذري السوفييتي. وقد تنبأ أول التقديرات الصادرة عن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية - وكان تاريخه الحادي والثلاثين من أكتوبر 1946 - أن السوفييت سيكونون قادرين على إنتاج القنبلة «في وقت ما بين عامي 1950 و1953». شددت تقديرات لاحقة تشديدا أكبر على الحد الثاني لهذه الفترة الزمنية. وقبل أن يفجر الاتحاد السوفييتي قنبلته الأولى بخمسة أيام وحسب كانت وكالة الاستخبارات المركزية قد تنبأت بأن «أقرب موعد ممكن» سيكون فيه الاتحاد السوفييتي قادرا على تطوير القنبلة سيكون منتصف عام 1950، وإن كان «الموعد الأكثر ترجيحا» هو منتصف عام 1953. أسهم العديد من صناع السياسات بتخميناتهم بشأن هذا الأمر. فمثلا أخبر السفير الأمريكي في موسكو، والتر بيدل سميث - الذي ترأس لاحقا وكالة الاستخبارات المركزية - جيمس فورستال إبان ذروة حصار برلين في سبتمبر من عام 1948 أن الاتحاد السوفييتي سيحتاج ما لا يقل عن خمسة أعوام كي يطور القنبلة. وقد أخبر فورستال قائلا: «ربما يملكون المعرفة النظرية بشأن هذا الأمر، بيد أنهم لا يملكون القدرات الصناعية المعقدة لترجمة هذه المعرفة المجردة إلى أسلحة فعلية.» أما سير هنري تيزارد - رئيس برنامج الطاقة الذرية البريطاني - فقد رأى أن الموعد المتوقع هو عام 1957 أو 1958. ذهب البعض إلى أن الموعد سيكون متأخرا عن هذا، فيما رأى آخرون أن الاتحاد السوفييتي لن يستطيع التغلب مطلقا على الصعوبات التكنولوجية التي تحف هذه العملية. وحتى أكثر السيناريوهات تشاؤما - والذي تصورته مجموعات داخل القوات الجوية الأمريكية - فقد رأى أن الموعد المرجح هو عام 1952 أو 1953.
حظي الإعلان بتغطية مكثفة في الصحافة العالمية، لكن إجمالا كان رد الفعل الجماهيري هادئا نسبيا. بل إن البعض استغل غياب المعلومات التفصيلية من أجل التشكيك فيما إذا كان التفجير السوفييتي قد وقع من الأساس. لقد رفضت الإعلانات العامة عن القنبلة منح أي معلومات عن الكيفية التي رصد بها التفجير، وهو ما أشعل بدوره المزاعم الآتية من دعاة الانعزال المتشددين بالكونجرس، مثل السيناتور أوين بروستر (العضو الجمهوري بمجلس الشيوخ عن ولاية مين) القائلة بأن الاتحاد السوفييتي - في واقع الأمر - لم يملك قنبلة ذرية. وقد ساعد غياب أي إعلان لاحق من جانب السوفييت على تعزيز موقف هؤلاء المتشككين. ولم يختبر الاتحاد السوفييتي قنبلته الثانية إلا بعد عامين تاليين. ففي الرابع والعشرين من سبتمبر 1951، التقطت منظومة كشف الطاقة الذرية التابعة للقوات الجوية إشارات صوتية شديدة على نحو غير معتاد آتية من داخل الاتحاد السوفييتي، وقد تم لاحقا التأكيد على أنه تفجير ذري آخر.
وقد كشفت عمليات إعادة تقييم القدرات النووية السوفييتية في ضوء هذه الأخبار عن أن المخزون السوفييتي من القنابل الذرية سيرتفع من معدل قنبلتين شهريا إلى إجمالي خمس قنابل أو أكثر شهريا بنهاية عام 1950. ووفق تقديرات الاستخبارات الأمريكية من شأن هذا أن يؤدي إلى نمو الحصيلة التي كان من المرجح أن يمتلكها الاتحاد السوفييتي من القنابل الذرية بحلول منتصف عام 1950 من ما يقدر ب 10 إلى 20 قنبلة إلى نحو 200 قنبلة بحلول منتصف عام 1954. شكل هذا الرقم نوعا من العتبة الحرجة من منظور التخطيط العسكري الأمريكي؛ إذ قرر القائمون على التخطيط العسكري الأمريكي أنه ما إن يملك السوفييت القدرة على إلقاء نحو 200 قنبلة ذرية على أهداف داخل الولايات المتحدة، فسيكونون قادرين على تدمير الكثير من أهم الأهداف الأمريكية؛ وبذا يوجهون ضربات قاصمة للقدرة الحربية الأمريكية.
الاحتكار الذري الأمريكي
تحركت الولايات المتحدة ببطء يثير الدهشة في هذه الأيام الأولى من أجل صياغة سياسة استراتيجية متماسكة تربط التخطيط العسكري بأهداف السياسة الخارجية. لقد تمتعت الولايات المتحدة لما يربو على أربع سنوات بقليل باحتكار ذري. وخلال تلك الفترة، فشلت واشنطن - ومعها حلفاؤها على الجانب الآخر من الأطلسي، وخصوصا بريطانيا العظمى - في صياغة عقيدة متماسكة تجعل القوة الرهيبة للأسلحة الذرية في خدمة السياسة الخارجية الغربية، حتى مع تصاعد الإجماع في الرأي على أن الغرب كان في حرب من نوع جديد مع النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي. كل ما كان بمقدورهم توجيهه كان نوعا من التهديدات الفارغة نسبيا بشأن موضوعات متفرقة. وقد شكا وزير الدفاع الأمريكي جيمس فورستال من هذا النهج واصفا إياه بأنه «جهد مشتت». وبعد أن جرى على نحو رسمي تبني مفهوم «احتواء» الاتحاد السوفييتي في أواخر نوفمبر 1948، افترض أغلب صناع السياسات بإدارة ترومان - أو بالأحرى أملوا - أن الاحتكار الذري الأمريكي سيردع السوفييت عن خرق السلام مخافة التسبب في حرب شاملة.
بيد أنه لو كانت هذه نية ترومان بالفعل، فيبدو أنها لم تنجح. لقد كان من المفترض أن تكون القنبلة هي «السلاح الرابح»، لكن بحلول عام 1948 كان من الواضح بجلاء أن الغرب لم يكن في طريقه لربح الحرب الباردة أو لمنع موسكو من تحدي المصالح الغربية على نحو متكرر، وبدا أن السوفييت يملكون زمام المبادرة على كل الجبهات ذات الأهمية. وقد كتب المحلل الاستراتيجي الفرنسي ريمون آرون في عام 1954 قائلا إنه «حين يستعرض المرء الفترة الكاملة التي أعقبت قصف هيروشيما، من الصعب مقاومة الانطباع بأن الاحتكار الذري الشهير سبب للولايات المتحدة الخسارة لا المكسب؛ إذ لم يكن لهذا الاحتكار أي فائدة خلال الحرب الباردة.» استمرت الأزمات السياسية في التلاحق: في يوغوسلافيا وإيران واليونان وإيطاليا وفرنسا وألمانيا. وقد ارتكز الجدل بشأن ما إذا كانت القنبلة الذرية ستستخدم أم لا على سؤال أهم؛ وهو ما إذا كان «ممكنا» من الأساس استخدام القنبلة الذرية.
لقد تحول الانتباه الآن إلى بناء قدرة ذرية حقيقية. وقد أدت الضغوط السياسية المطالبة بإعادة القوات المحاربة إلى أرض الوطن علاوة على التحول السلس من اقتصاد الحرب إلى اقتصاد السلم إلى عملية تسريح ضخمة من الجيش الأمريكي في أعقاب الحرب العالمية الثانية. كانت هناك أولويات محلية تسبق عملية الاستعداد لحرب أخرى، وفي الجدل الأزلي بين السلاح والغذاء انتصر الغذاء. وقد رأى أولئك القلقون من التهديد البازغ للاتحاد السوفييتي - مثل جيمس فورستال - أن عملية التسريح تجاوزت الحد المقبول. تغلغل القلق في نفوس المخططين العسكريين الأمريكيين من أن عملية التسريح التي تلت الحرب جعلت الولايات المتحدة قادرة بالكاد على الوفاء بالتزاماتها الحالية، وأنه لو حدث أن أقدم السوفييت على عمل عسكري في مسرح آخر، فلن يكون هناك ما يكفي من القوات الغربية لدرئه. كانت القيود سياسية، وليست اقتصادية أو لوجستية. فعلى النقيض من القوى العظمى الأخرى، خرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية مرتكزة على أساس اقتصادي متين، ولم تتعرض أراضيها أو نسيجها المجتمعي لضرر. ومن منظور منتقدي حدود الإنفاق الدفاعي المنخفضة التي فرضتها إدارة ترومان كان كل ما يتطلبه الأمر لوقف تدهور الموقف الأمريكي هو الإرادة السياسية لعمل ذلك .
صفحه نامشخص
أحد النواتج الجانبية لعملية التسريح التي أعقبت الحرب كان توقف البرنامج الذري الأمريكي بشكل شبه تام. كان الرئيس ترومان حين أعلن قصف هيروشيما بالقنبلة الذرية قد ألمح إلى أن عملية إنتاج القنابل الذرية تسير على قدم وساق؛ إذ قال: «هذه القنابل قيد الإنتاج في صورتها الحالية، كما يتم تطوير أنواع أخرى أشد قوة.» ورغم أن ما قاله ليس خطأ من الناحية الشكلية، فإنه كان مضللا عن عمد. في الواقع، كانت لدى الأمريكيين حفنة قليلة من القنابل في ذلك الوقت وإبان المراحل المبكرة من الحرب الباردة، وهذا كان نتاجا لقرارات سياسية اتخذتها واشنطن وليس بسبب أي قيود لوجستية. فبنهاية عام 1945 كانت الولايات المتحدة قد بنت ست قنابل ذرية، وبنهاية عام 1947 كانت تملك 32 قنبلة فقط، فيما وصل عدد القنابل بنهاية عام 1948 إلى 110 قنابل. وبنهاية عام 1949، حين فجر الاتحاد السوفييتي أولى قنابله الذرية، كانت الولايات المتحدة تملك 235 قنبلة ذرية. ثم نما مخزون القنابل الذرية على نحو أسرع بكثير بعد عام 1950، حين أمر ترومان بتعزيز القوة العسكرية على خلفية الحرب الكورية.
لم يكن بناء المزيد من القنابل الذرية ليحقق الكثير دون تطوير عقيدة نووية وسياسة إشهار قابلتين للتطبيق. وقد كانت أول أزمة من أزمات الحرب الباردة تؤكد على هذا هي أزمة برلين عام 1948، والتي تعد أولى الأزمات النووية الحقيقية التي شهدتها الحرب الباردة. ويزعم أحد المراقبين أنه في ضوء السابقة التي أرستها هذه الأزمة، «من الجلي دون أدنى شك أنها كانت أخطر أزمات الحرب الباردة.» وحين حاصر ستالين برلين في منتصف عام 1948 بدا أن هذا يقدم الدليل الملموس الذي كانت تفتقر إليه حتى ذلك الوقت تحذيرات فورستال وغيره من أن الاتحاد السوفييتي لا يملك مصالح متعارضة مع مصالح الولايات المتحدة وحسب، بل إنه أيضا لن يتورع عن العمل على تحقيق هذه المصالح. ردا على هذا الحصار التزم ترومان التزاما صريحا بالحفاظ على الوجود الغربي في برلين، رغم أنه لم يكن يملك أدنى فكرة عن كيفية تحقيق هذا. وكانت أشهر ردود الفعل على هذا التحدي هو الجسر الجوي إلى برلين، ذلك الجهد البارع الهادف لتوصيل المؤن للمليوني شخص القاطنين بالقطاع الغربي من المدينة جوا. بيد أن ترومان لم ير في الجسر الجوي أكثر من محض وسيلة للمماطلة.
كانت هيئة الأركان المشتركة قد أوضحت بما لا يقبل الشك أنه لم يكن هناك من سبيل للفوز في حرب تقليدية في أوروبا ضد الجيش الأحمر. ورغم أن بعض الخطط الأمريكية الحربية شديدة السرية حاولت استخدام القنابل الذرية، فقد ظلت الكيفية التي يمكن أن يسهم بها هذا السلاح الجديد في الجهد الحربي غير واضحة. وقد أمل المخططون العسكريون أن تكون القنبلة الذرية «مزية متفردة» في الحرب ضد الاتحاد السوفييتي، بينما كانوا يدركون في الوقت عينه أن الطبيعة والبنية الجغرافية للاتحاد السوفييتي لا تسمح إلا بوجود القليل من الأهداف ذات القيمة العالية. كان استهداف مدن مثل موسكو ولينينجراد أمرا ممكنا، بيد أنه كان سيتسبب في مضار كثيرة دون فوائد مماثلة؛ إذ إنه في نظر بلد خسر نحو 27 مليونا من أبنائه في الحرب العالمية الثانية لن تكون للصدمة قيمة كبيرة ومن غير المرجح أن تسهم هذه الخطوة في النصر. لقد بينت الحرب العالمية الثانية قيمة استهداف المنشآت الحربية للعدو بواسطة القوة الجوية الاستراتيجية، لكن كان الاتحاد السوفييتي يختلف اختلافا كبيرا عن اليابان أو ألمانيا. فنظام النقل السوفييتي، الذي وصفه المخططون العسكريون بأنه «أهم التروس في ماكينة الحرب السوفييتية»، كان يمتد عبر مسافات شاسعة دون أن يحوي سوى محاور تجميع قليلة، وقد كان شديد الانتشار بحيث يستحيل أن يمثل هدفا ممكنا للعدد القليل نسبيا من القنابل الذرية الذي كانت تملكه الولايات المتحدة في تلك الفترة. كانت الصناعات العسكرية السوفييتية موزعة بدرجة كبيرة هي الأخرى، ووحدها المصادر البترولية للدولة هي التي مثلت هدفا ممكنا للقصف. ولم ير مجلس الأمن القومي الأمريكي أن الولايات المتحدة تملك القدرة على تنفيذ «ضربة حاسمة» ضد الاتحاد السوفييتي إلا في عام 1956.
استنزفت عملية التسريح التي أعقبت الحرب على نحو خطير الخيارات العملية المتاحة أمام الرئيس لاستغلال الاحتكار الذري ، كما أعاقت السرية الشديدة المحيطة بالمعلومات المرتبطة بالأسلحة الذرية هذه الخيارات بدرجة أكبر؛ فالرئيس نفسه لم يكن قادرا على أن يحصل على إجابة مباشرة حول عدد الأسلحة الموجودة في المخزون الأمريكي وما يمكنها أن تفعله. وفي مواجهة العجز العسكري الواضح الذي كشف عنه غياب أي خيارات جيدة للتعامل مع حصار برلين، عملت هيئة الأركان المشتركة على مراجعة الوضع الدفاعي للولايات المتحدة، بداية بالاستراتيجية النووية. وقد استغل فورستال وهيئة الأركان المشتركة الحصار في مساعيهم الهادفة لمعارضة ميزانيات ترومان الدفاعية الشحيحة، واستغلوا الفرصة للقول بأن الاعتماد على محض تصور للقوة لم يكن بالأمر الكافي، ولا بد أن يكون مدعوما بقدرات عسكرية ملموسة. وفي ذروة حصار برلين، خول فورستال - وقد أحبطه تردد ترومان في حسم مسألة «ما إذا كانت القنبلة الذرية ستستخدم في الحرب أم لا» - من تلقاء نفسه هيئة الأركان المشتركة بأن تبني تخطيطها للحرب على الافتراض بأن السلاح النووي سيستخدم بالفعل.
علاوة على ذلك، أظهر الحصار عدم كفاءة الاستراتيجية النووية الأمريكية حين أجبرت واشنطن على ارتجال نوع من الردع الذري عن طريق إرسال القاذفات «الذرية» من طراز «بي-29» إلى بريطانيا وألمانيا. وكان كل ذلك محض خداع.
قليلون فقط هم من فكروا في الكيفية التي ستشن بها حرب ذرية. وقد اقترح ونستون تشرشل توجيه إنذار للسوفييت يهدد بأنه ما لم تتراجع القوات السوفييتية عن حصار برلين، وتنسحب من ألمانيا الشرقية، وتتراجع حتى الحدود البولندية؛ فإن القاذفات الذرية الأمريكية ستمحو المدن السوفييتية من الوجود. وقد اتخذ قائد القوات الأمريكية في ألمانيا، الجنرال لوشيوس دي كلاي، موقفا مشابها وأخبر فورستال أنه «لن يتردد في استخدام القنبلة الذرية وسيضرب موسكو ولينينجراد أولا.» كما كان وزير الخارجية البريطاني إرنست بيفن متحمسا هو الآخر كي يري موسكو «أننا جادون فيما نقول».
رغم إغراء الهجوم على موسكو، كانت واشنطن تخطو في تمهل. فعلى حد تعبير السياسة الحكومية البريطانية الرسمية، بدا من المشكوك فيه أن يضيف الغرب «لدغة العقرب» إلى تلك التهديدات النووية، وهو ما أقر به واضعو السياسات الأمريكان في هدوء. إن محض إقدام ستالين على حصار برلين في خطوة استفزازية في المقام الأول، رغم الاحتكار الذري الأمريكي، كان في حد ذاته دليلا واضحا على أن الردع لا بد وأن يكون ظاهرا جليا، وأن وجود الأسلحة الذرية في حد ذاته ليس بالأمر الكافي. علاوة على ذلك، خشي الكثيرون من أن تكون الولايات المتحدة قد قطعت على نفسها التزامات تفوق قدراتها العسكرية.
القنبلة السوفييتية
أظهر ستالين عدم اكتراثه بالتأثير الرادع للقنبلة. وقد كان هذا نذيرا بالفجوة الواسعة بين الفهم السوفييتي والفهم الأمريكي لمفهوم الردع النووي، وهي الفجوة التي ترسخت في العقود التالية، وكما صرح ستالين في تعليقات نشرتها صحيفة «برافدا» في سبتمبر 1946 فإن «القنبلة الذرية مقصود منها إخافة ذوي الأعصاب الضعيفة، لكنها تعجز عن تحديد مصير الحرب.» عوضا عن ذلك عبر عن إيمانه الراسخ بأن ما أسماه العوامل الدائمة من شأنها أن تضمن تفوق الاتحاد السوفييتي في أي حرب مستقبلية، كما حدث في الحرب الماضية.
كان عدم الاكتراث المحسوب من جانب ستالين مناورة استراتيجية. لقد كان أمرا ملائما من الناحيتين السياسية والدبلوماسية، بيد أنه كان يخفي الحقيقة عن عمد. فخلف هذا المظهر العام الزائف، كشفت تعليقات ستالين الخاصة وتوجيهاته عن فهم أدق للتأثير المحتمل للقنبلة الذرية على العلاقات الدولية. كان علماؤه أنفسهم قد حذروه في مايو 1942 من أن البريطانيين والأمريكيين ربما يعملون على نحو مشترك من أجل بناء القنبلة الذرية - بل إنه في واقع الأمر علم بشأن مشروع مانهاتن قبل أن يعلم به هاري ترومان نفسه - لكن استيعابه لمعنى ذلك السلاح الجديد كان بطيئا. فقد كان متشككا في البداية في أن مثل هذا السلاح قد يكون مهما، وحين أعلمه مدير الاستخبارات بأن بعض التقارير تفيد بأن البريطانيين والأمريكيين يتعاونون من أجل بناء القنبلة الذرية، عبر ستالين عن شكوكه من كون هذا جزءا من برنامج تضليل متعمد. لكن ما إن اقتنع ستالين بالأمر - وهو ما جرى على سبيل المفارقة عن طريق الغياب المريب للمعلومات العلمية من الدوريات، وذلك في إطار الجهود الحكومية الأنجلو أمريكية لحجب المعلومات عن الألمان، لا عن طريق أي تأكيد إيجابي - حتى أدرك أهمية القنبلة. ويزعم بافل سودوبلاتوف - وهو جاسوس سوفييتي سابق - أنه حين اقترح أحد كبار العلماء السوفييت على ستالين في أكتوبر 1942 أن يسأل روزفلت وتشرشل عن البرنامج، رد ستالين قائلا: «ستكون من السذاجة السياسية أن تعتقد أنهما سيطلعانني على معلومات بشأن أسلحة ستهيمن على العالم في المستقبل.» وهو تعليق مثير الاهتمام؛ لأنه يبين شكه الواضح في حلفائه كما يبين إقراره بالقدرة الثورية للقنبلة الذرية.
صفحه نامشخص
بدأ السوفييت برنامج القنبلة الذرية عام 1943 خوفا من أن يتوصل الألمان إلى القنبلة أولا، بيد أن الموارد المخصصة لهذا الأمر تفاوتت مع الوقت بسبب وجود العديد من القضايا الأخرى الملحة. على أي حال، كانت تلك مخاطرة ضخمة مكلفة؛ إذ وحدها الولايات المتحدة كانت تملك رفاهية الأمن الإقليمي والموارد الطبيعية وملياري دولار كي تنفقها على البرنامج. ولم تحتل الأسلحة الذرية قمة الأولويات إلا بعد قصف هيروشيما.
قبل هذا الوقت، بدا وكأن ستالين قد بخس قيمة مقدار الدمار الذي يسببه هذا السلاح الجديد، وإن كان هذا قد تغير دون شك بعد القصف الذري المأساوي لليابان. ويتضح الدليل الأكبر على أن ستالين أدرك قدرة القنبلة على قلب موازين السياسة الدولية من أوامره إلى رئيس جهاز الأمن السوفييتي لافرينتي بيريا، وكبير علماء الذرة السوفييت إيجور خرشاتوف بألا يدخرا أي موارد في سبيل تقوية برنامج القنبلة السوفييتي «على المستوى الذي يليق بروسيا». وقد وعد ستالين بمنح علماء الذرة السوفييت حرية غير مسبوقة في عملهم وكل الدعم المادي الذي تستطيع الدولة تقديمه. وقد أخبر علماءه قائلا: «لقد زلزلت هيروشيما العالم بأسره. لقد اختل التوازن. ابنوا القنبلة؛ فسوف يدرأ هذا عنا الخطر العظيم.» وقد كان لهذا القرار تأثيرات واسعة النطاق على تطوير قطاع صناعي عسكري سوفييتي حديث، ومهد فعليا الطريق لخلفائه من أجل امتلاك برنامج نووي ضخم من شأنه أن يوجد تكافؤا استراتيجيا عمليا مع الغرب في غضون عقدين من الزمان.
شكل 4-1: جوليوس وإيثيل روزنبرج وهما يغادران محكمة مدينة نيويورك الاتحادية بعد توجيه الاتهام الرسمي لهما. وقد أدين الزوجان لاحقا بتهمة التجسس وأعدما.
لعب الجواسيس السوفييت دورا مهما. فرغم أن مشروع مانهاتن كرس أغلب موارده الأمنية في سبيل حماية المشروع من التجسس الألماني، استفاد السوفييت من تيار ثابت من المعلومات التفصيلية - بما في ذلك تصميمات أصلية محددة - هربها من البرنامج بعض المتعاطفين والعملاء؛ مثل: كلاوس فوش وديفيد جرينجلاس، وجوليوس وإيثيل روزنبرج (أعدم الأخيران بتهمة الخيانة عام 1953).
وترسم لنا الأرشيفات السوفييتية التي صارت متاحة للعلن في أوائل عقد التسعينيات، إضافة إلى نزع صفة السرية عما يطلق عليه «وثائق فينونا» - وهي ترجمات لنحو ثلاثة آلاف رسالة أرسلت بين موسكو ومحطات الاستخبارات السوفييتية في الولايات المتحدة في عقد الأربعينيات - صورة للعصر الذهبي للتجسس السوفييتي. هذه المعلومات - بدورها - كان يتم توجيهها مباشرة إلى العلماء السوفييت عن طريق منظمة بيريا. وفي ذلك الوقت - بواكير الحرب الباردة - قل من يشكون في أن هذه المعلومات سرعت على نحو مباشر من عمل برنامج القنبلة الذرية السوفييتي.
خلال سنوات حكم ستالين، تجاهلت العقيدة العسكرية السوفييتية بالأساس الأسلحة النووية بوصفها أسلحة هجومية. لكن كانت هناك جهود نشطة للدفاع ضد القاذفات الأمريكية طويلة المدى التي قد تكون مسلحة بقنابل ذرية. ونحو عام 1948 احتلت المنظومات الدفاعية المضادة للطائرات الأولوية القصوى، وذلك في الوقت عينه تقريبا الذي بدأ فيه العلماء السوفييت ووزارة الدفاع السوفييتية في البحث في تكنولوجيا الصواريخ البالستية (القوسية) العابرة للقارات والمنظومات الدفاعية المضادة للصواريخ البالستية.
تغيرت آراء ستالين في القنبلة الذرية تدريجيا. وبجمع هذا التغير مع السرية الشديدة المفروضة من جانب النظام السوفييتي، فإن الجهود الهادفة لتحديد ما إذا كان الزعيم السوفييتي قد شعر بالردع بفعل القنبلة الأمريكية تواجه تعقيدات كبيرة. وقد ذهب فلاديسلاف زوبوك - وهو من كبار الباحثين في السياسة الخارجية السوفييتية - إلى أن تفكير ستالين بشأن القضايا النووية - شأنه شأن أغلب زعماء النادي النووي الآخرين - قد تطور مع الوقت. ويقول زوبوك:
لو أن أحدا قد سأل ستالين بعد قصف هيروشيما عام 1945 ومرة ثانية قرب وفاته في أواخر عام 1952 عما إذا كان يؤمن بأن القنبلة سوف تؤثر على احتمالية نشوب الحرب في المستقبل، فمن المحتمل أن يحصل على إجابتين مختلفتين. ففي عام 1945 كان ستالين سيرد على الأرجح بقوله إن الاحتكار الذري الأمريكي كان يشجع الولايات المتحدة في مسعاها للسيطرة على العالم، وإنه جعل احتمالية نشوب الحرب أمرا أكثر ترجيحا. لكن في بدايات عام 1950، وبعد أول اختبار سوفييتي للقنبلة الذرية، كان ستالين على استعداد أن يقول إن ميزان القوى تحول مجددا إلى صالح قوى الاشتراكية والسلام.
أما تشرشل فقد أصر على أن القنبلة الذرية الأمريكية كانت الحائل الوحيد ضد المد الشيوعي. وقد أخبر جمهوره في ويلز عام 1948 قائلا: «لا شيء يحول بين أوروبا وبين الخضوع التام للطاغية الشيوعي إلا القنبلة الذرية التي يملكها الأمريكيون.» وكان يكثر من ترديد هذه المقولة.
أهي حقا «سنوات الفرصة» الضائعة؟
صفحه نامشخص
بالنظر للأمر من منظورنا الحالي، من المثير للدهشة أن القوة الذرية الوحيدة في العالم - الولايات المتحدة - لم تقدم على تحركات أكثر حزما لمنع غيرها من الدول من تطوير القنبلة الذرية. لا يعني هذا أن فكرة الحرب الوقائية لم تخضع للنقاش؛ إذ خضعت بالفعل لنقاش مطول داخل دوائر سرية. وقد ذهب البعض إلى أن الولايات المتحدة قد أضاعت المزية التي كانت تتمتع بها، وأن مصدر القوة العسكرية الأمريكية الأعظم قد أضيع هباء، وهو قرار كان يمكن أن يكون له تبعات كارثية. وقد كتب جيمس فورستال في أواخر عام 1947 يقول إن السنوات المتبقية من عمر الاحتكار - مهما امتد عمر الاحتكار - ستكون هي «سنوات الفرصة». ومنذ وقت مبكر يرجع إلى يناير عام 1946 قال الجنرال ليزلي جروفز - القائد العسكري لمشروع مانهاتن: «إذا كنا واقعيين أشد الواقعية، فلن نسمح لأي قوة خارجية لا تربطنا بها علاقة تحالف وثيق ... بأن تصنع أسلحة ذرية أو تمتلكها. وإذا بدأت دولة كتلك في تصنيع الأسلحة الذرية فسندمر قدرتها على تصنيعها قبل أن تتقدم على نحو كاف بحيث تمثل تهديدا لنا.» ومع هذا، لم تتبن الولايات المتحدة أي استراتيجية للحرب الوقائية، ولم يدعم أكثر المسئولين الحكوميين نفوذا الفكرة.
شاع هاجس السوء بين ظهراني دوائر صناعة السياسات حيال ما يمكن أن يفعله السوفييت لو أنهم امتلكوا القنبلة، وهو ما أدى إلى نطاق واسع من التوصيات. كان الحديث عن الحرب الوقائية مثيرا للجدل، وقد حمل مسحة من الاهتمام وصلت ذروتها في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، بيد أن هذا الاهتمام سرعان ما خبا وسط الثورة النووية الحرارية للرءوس الحربية الهيدروجينية والصواريخ البالستية بعيدة المدى.
ورغم الفتور الواضح الذي قابل به الجمهور الأمريكي فكرة الحرب الوقائية - إذ أظهرت استطلاعات عدة للرأي في أوائل الخمسينيات أن نسبة المؤيدين للحرب الوقائية ضد السوفييت تتراوح بين 10 إلى 15 بالمائة - فإن فكرة شن حرب على السوفييت قبل أن يتمكن ستالين من بناء ترسانته الذرية الكبيرة تمتعت بدعم عريض على نحو لافت، وإن كان بمنأى عن الدعاية - في الأوساط الرسمية في واشنطن - وكانت موسكو على علم بذلك. وكان هذا في جزء منه أمرا متوقعا.
كانت القوات الجوية ومؤسسة راند منبع فكرة الحرب الوقائية، وظلا مؤيدين لها لفترة طويلة بعد رفضها في الدوائر الأخرى. لكن في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، حين كانت نافذة الفرصة لا تزال موجودة، جاء دعم الحرب الوقائية من مصادر أقل ترجيحا. فقد نقل عن عالم الذرة الكبير ليو زيلارد دعمه للحرب الوقائية منذ وقت مبكر يعود إلى أكتوبر 1945. كما وجد جورج كينان وزميله المختص بالشأن السوفييتي بوزارة الخارجية تشارلز بولن - وكلاهما من المعتدلين فيما يخص السياسة العسكرية للحرب الباردة - أن منطق الحرب الوقائية له وجاهته.
أدى عدد من الأسباب إلى عدم انتصار ذلك الرأي. بادئ ذا بدء، كان الأمر راجعا إلى طبيعة الشخصية الوطنية؛ فلم تكن الولايات المتحدة معتادة على شن الحروب. فبعد تلقيها الضربة الأولى على صورة هجوم مباغت في بيرل هاربر، وضع صانعو السياسات - والجمهور الأمريكي - السياسة الخارجية الأمريكية موضع إكبار. ورغم أن الولايات المتحدة احتفظت لنفسها بالحق في اتخاذ فعل عسكري وقائي، فإن تنفيذ ذلك على أرض الواقع كان عليه أن يتغلب على قناعات قومية عميقة مفادها أن شن الحروب ليس بالسبيل الأفضل للتصرف على الساحة الدولية.
الأهم من ذلك هو الشك في أن الحرب الوقائية ضد الاتحاد السوفييتي من شأنها أن تحقق نجاحا. لقد وضعت عملية التسريح التي أعقبت الحرب قيودا شديدة على القدرات العسكرية الأمريكية، ولم يكن الحلفاء في أوروبا الغربية في موضع يمكنهم من تقديم أي إسهام عسكري ذي معنى. وسيكون الطريق ممهدا أمام الجيش الأحمر السوفييتي - الذي حافظ ستالين عليه بأعداد ضخمة بوصفه وسيلته الخاصة في «الردع» - حتى القنال الإنجليزي. هذا بدوره أثار سؤالين؛ أولهما: كي تكون الحرب الوقائية فعالة، هل ستحتاج ما هو أكثر من ضربات جوية بالقنابل الذرية؟ والثاني: ألن تكون الولايات المتحدة مضطرة لإرسال قوات أرضية لاحتلال أراض في قلب روسيا؟ كانت الحقيقة الواضحة أن الولايات المتحدة لم تكن قادرة على شن حرب وقائية ضد الاتحاد السوفييتي لمنع القنبلة الشيوعية ولا ميالة لذلك.
قرار القنبلة الهيدروجينية
من الجلي أن موسكو لم تشعر بالترويع بسبب الاحتكار الذري الأمريكي. أما الآن وقد تحطم هذا الاحتكار، بات العديد من المراقبين مقتنعين بأن السوفييت سيصيرون أشد خطورة. وقد أدركت المصادر المطلعة - ومن بينها مجتمع الاستخبارات - أن الاتحاد السوفييتي سيستغرق بعض الوقت حتى يطور مخزونا قابلا للاستخدام من القنابل الذرية؛ إذ كان السوفييت يملكون بحلول عام 1950 نحو 5 قنابل ذرية مقارنة ب 369 قنبلة تملكها الولايات المتحدة. كان أمام الولايات المتحدة طريقان؛ الأول هو استغلال الفرصة والضغط من أجل نزع سلاح الطرفين. كان السوفييت قد عارضوا الجهود المبكرة للسيطرة الدولية على الأسلحة الذرية على أساس أن هذا سيسلبهم الحق في تطوير قدراتهم الذرية بينما ستظل الولايات المتحدة محتفظة بترسانتها. أما الآن وقد صارت القوتان تملكان القنبلة الذرية، فسيكون الأمر في حقيقته عملية تضحية متبادلة. أما الطريق الثاني فكان الانخراط في منافسة وسباق تسلح شاملين. ولعدد من الأسباب - أغلبها نابع من عقلية الحرب الباردة - اختارت الإدارة الأمريكية الطريق الثاني. وكانت تلك نقطة فاصلة.
ومع هذا، استمر الصقور داخل الحكومة الأمريكية في الضغط من أجل تنفيذ أهدافهم. كان جيمس فورستال قد شكا طويلا من أن أسقف الميزانية المنخفضة التي فرضتها إدارة الرئيس ترومان كانت تفرض وجود «استراتيجية في حدها الأدنى، لا استراتيجية ملائمة». وقد كان خلفه، لويس جونسون، ميالا من الناحية الأيديولوجية نحو الانضباط المالي، ولم يكن يميل إلى تحدي توجيهات الميزانية التي يحددها له القائد الأعلى. لكن بسبب سلسلة من إخفاقات الحرب الباردة - وخصوصا الاختبار الذري السوفييتي و«خسارة» الصين لصالح حزب ماو تسي تونج الشيوعي، وكلاهما حدث عام 1949 - أجبرت الضغوط السياسية ترومان في نهاية المطاف على إعادة النظر في الإنفاق الدفاعي والاستراتيجية التي تتماشى معه. وبنهاية هذه العملية، زاد الإنفاق الدفاعي بنسبة 458٪ بنهاية عام 1952 المالي مقارنة بميزانية عام 1951 المالي، وارتفع عدد القوة العاملة في وزارة الدفاع من نحو 2,2 مليون عام 1951 إلى نحو 5 ملايين.
خلال شتاء 1949-1950، استعر نقاش عالي السرية في الدوائر العلمية ودوائر وزارة الدفاع حول إمكانية الاستمرار في جيل جديد من الأسلحة يستغل الطاقة المنطلقة عند اندماج ذرات الهيدروجين، وليس الانشطار الذري كما الحال في القنبلة الذرية. حمل هذا النوع الجديد من القنابل على نحو غير رسمي اسم القنبلة «الخارقة»، في إشارة إلى قدرته الفائقة مقارنة بالقوة التفجيرية للقنبلة الذرية، كما حمل عدة أسماء أخرى مثل القنبلة الهيدروجينية أو القنبلة النووية الحرارية، أو القنبلة النووية وحسب. أجريت الأبحاث الأولية على هذا السلاح داخل مشروع مانهاتن على يد فريق من العلماء بقيادة الفيزيائي إدوارد تيلر. لكن مع انعدام الأمل في تحقيق نجاح فوري وتقلص الميزانيات العسكرية في ظل البيئة الاقتصادية لما بعد الحرب، توقفت الأبحاث. واستنادا إلى بيانات نظرية، تنبأ تيلر بأن القنبلة الهيدروجينية ستفوق في قوتها قنبلة هيروشيما بمئات المرات، وستكون قادرة على تدمير مساحة قدرها مئات من الأميال المربعة، مع انتشار أكبر للإشعاع.
صفحه نامشخص
تركز النقاش حول ما إذا كانت هناك حاجة لمثل هذا السلاح، وحول مدى أخلاقية تصنيعه، وحول أثر تطويره على العلاقات مع موسكو. تسبب النقاش في إشاعة جو من المرارة، وفي النهاية أدى إلى انقسام ليس فقط في صفوف صناع السياسات، بل في صفوف علماء الذرة أنفسهم. وفي يناير 1950 استقبل ترومان وفدا برئاسة دين أتشيسون - وزير الخارجية وقتها - مؤيدا لتطوير القنبلة الهيدروجينية. وبعد اجتماع استمر سبع دقائق وحسب، قرر الرئيس الاستمرار في الأبحاث، رغم عدم وجود أدلة ملموسة على أن القنبلة الهيدروجينية من المؤكد أن يتم بناؤها بالفعل، ورغم أن عددا من العلماء زعم أنه يستحيل بناؤها. بل ونادى كثيرون غيرهم، من بينهم جيمس كونانت وجيه روبرت أوبنهايمر - الفيزيائي الذي ترأس فريق لوس ألاموس خلال مشروع مانهاتن - بأن بناء هذه القنبلة أمر غير ضروري. بل إن ألبرت أينشتاين عارض تطوير القنبلة الهيدروجينية علانية قائلا:
إن فكرة تحقيق الأمن عن طريق التسليح القومي هي - في ظل الحالة الراهنة للأساليب العسكرية - وهم مدمر ... وإن سباق التسلح بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي - المفترض به أساسا أن يكون إجراء وقائيا - بات يحمل طبيعة هيستيرية.
وقد أكدت اللجنة الاستشارية التابعة للجنة الطاقة الذرية على أن القنبلة الهيدروجينية الهدف منها أن تستخدم في الإبادة الجماعية، ولا شيء آخر:
من شأن استخدام هذا السلاح أن يتسبب في إزهاق عدد لا يحصى من الأرواح البشرية؛ فهو ليس سلاحا يمكن استخدامه فقط في تدمير المنشآت المادية ذات الأغراض العسكرية أو نصف العسكرية. ومن ثم فإن استخدامه يعزز سياسة إبادة التجمعات السكانية المدنية أكثر بكثير مما تفعل القنبلة الذرية نفسها.
لم يكشف بيان ترومان الذي أفصح من خلاله عن توجيهاته عن الجدال الذي شاب المناقشات عالية السرية التي جرت في الكواليس. ففي بيان هزيل مختصر تضمن الدعوة لمزيد من السيطرة الدولية على الأسلحة الذرية أعلن ترومان أنه:
من مسئولياتي بوصفي القائد الأعلى للقوات المسلحة أن أحرص على أن يكون بلدنا قادرا على الدفاع عن نفسه ضد أي معتد محتمل. ومن ثم، فقد أصدرت توجيهاتي للجنة الطاقة الذرية بأن تواصل عملها على كل أشكال الأسلحة الذرية، بما في ذلك ما يسمى القنبلة الهيدروجينية أو القنبلة الخارقة. وشأن كل الأعمال الأخرى في مجال الأسلحة الذرية، يتم العمل الآن ومستقبلا على أساس يتفق مع الأهداف الشاملة لبرنامج السلم والأمن الخاص بنا.
كان قرارا جللا، يعبد الطريق للثورة النووية الحرارية وسباق التسلح الذي صاحبها.
أملى إحساس الضرورة القصوى التصرف بسرعة. لذا بعد أسابيع قليلة من إعلان ترومان، طلب لويس جونسون - بتشجيع من هيئة الأركان المشتركة - «التنفيذ الفوري لعملية تطوير شاملة للقنابل الهيدروجينية ووسائل إنتاجها وإلقائها». ومع بداية مارس من عام 1950 ارتقى برنامج الأسلحة النووية الحرارية إلى مرتبة «الأمور ذات الأولوية القصوى».
وفي اليوم عينه الذي أمر فيه ترومان بتطوير القنبلة الهيدروجينية، أعطى أيضا تعليماته لكل من أتشيسون ولويس جونسون بتقييم التهديد السوفييتي في ضوء القدرة الذرية السوفييتية الوليدة وتطورات الحرب الباردة الأخيرة. وتحت توجيه بول إتش نيتز، خلف كينان في منصب مدير هيئة تخطيط السياسات بوزارة الخارجية، صاغت مجموعة من مسئولي وزارتي الدفاع والخارجية بيانا شاملا لاستراتيجية للأمن القومي وقدمته إلى الرئيس في أوائل أبريل عام 1950. هذه الوثيقة - التي عرفت باسمها البيروقراطي: تقرير مجلس الأمن القومي رقم 68 «أهداف الولايات المتحدة وبرامجها للأمن القومي» - أثارت المخاوف على نحو متعمد، ودعت إلى حشد ضخم للموارد وإلى استراتيجية أكثر خشونة بما يتماشى معه. وبلهجتها الملحة وتوصياتها السياسية الجافة المتسمة بطابع الصقور، عكست هذه الوثيقة تغيرا في الاتجاه من حيث السياسات المتبعة، لكن جوهرها عبر عن آراء الكثيرين من صناع السياسات بواشنطن، تلك الآراء التي ظلت تختمر لفترة من الوقت.
كان تقرير مجلس الأمن القومي رقم 68 مهتما بالأساس بمشكلة «أسلحة الدمار الشامل» (وهو أول تقرير يستخدم هذا المصطلح في الوثائق الخاصة بالسياسات). وقد قدر التقرير أنه «في غضون السنوات الأربع القادمة سيحوز الاتحاد السوفييتي القدرة على إلحاق ضرر بالغ بمراكز حيوية داخل الولايات المتحدة، شريطة أن يوجه الضربة الأولى، وشريطة أيضا أن لا تواجه الضربة برد أكثر فعالية مما نملك حاليا.» وقد حذر التقرير أنه ما إن يملك الاتحاد السوفييتي «قدرة ذرية كافية لشن هجوم مفاجئ علينا، ودحض تفوقنا الذري، وإنشاء موقف عسكري في صالحه على نحو حاسم، قد يقع الكرملين فريسة إغراء توجيه ضربة سريعة وبطريقة سرية.» في هذه الظروف ، وفي ضوء أن إجراءات السيطرة الدولية على الطاقة الذرية ليس من المتوقع أن يكون لها وجود يذكر، رأى نيتز ورفاقه أن الولايات المتحدة لا تملك خيارا آخر تقريبا خلا زيادة قدراتها الذرية والنووية الحرارية إن أمكن، وذلك بأسرع ما يمكنها. ينبغي زيادة مخزون الأسلحة الذرية بسرعة، وينبغي الاستمرار في برنامج القنبلة الهيدروجينية بوتيرة أسرع وأسرع.
صفحه نامشخص